< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/30

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

المثال الثاني: من توضأ قبل دخول وقت الصلاة، فلا يمكن أن يكون المصحح لوضوئه هو امتثال الوجوب الغيري المتعلق بالوضوء، فإن فعلية الوجوب الغيري فرع فعلية الوجوب النفسي، والمفروض أن الوجوب النفسي - وهو الأمر بالصلاة - ليس فعليا لعدم دخول الوقت، فلا وجوب غيري للوضوء كي يقصد امتثاله قبل دخول الوقت، وحينئذ فإن قلنا بأن الوضوء مستحب في نفسه أو أنه محصل لما هو المستحب - وهو الكون على الطهارة - فيمكن تصحيح الوضوء بقصد أمره الاستحبابي أو بقصد امتثال الأمر بالكون على الطهارة، وأما إذا لم نقل بكون الوضوء مستحبا نفسيا ولا محصلٌا لما هو المستحب النفسي - وهو الكون على الطهارة - فحينئذ يرد الإشكال ، وهو أن المصحح للوضوء قبل دخول وقت الصلاة هو قصد غاية راجحة، وإن لم تقع الغاية، كأن يقال في المقام: إن المصحح للوضوء قصد قراءة القرآن، وإن لم تقع منه قراءةٌ للقرآن بل نفس قصد قراءة القرآن كافٍ في صحة الوضوء بأن يأتي بالوضوء بقصد قراءة القرآن بعده. فعلى هذا المبنى تأتي شبهة نشؤ الإرادة لملاك في نفسها، إذ المفروض حصول قصد قراءة القرآن لا لغرض في قراءة القرآن، فإن المكلف لا يريد قراءة القرآن، وإنما قصد قراءة القرآن لغرض في نفس القصد باعتبار أن القصد كافٍ في تصحيح الوضوء، فلذلك ذكر السيد الصدر قدس سره في المقام أنه لا يمكن عقلا أن يكون المصحح للوضوء قبل دخول الوقت مجرد قصد قراءة القرآن من دون غرض في قراءة القرآن، فإن لازم ذلك نشؤ الإرادة عن ملاك في نفسها، وهو محال. فلذلك لجأ قدس سره إلى إنكار المبنى، وهو أن الصحيح - كما هو مبنى سيدنا الخوئي قدس سره - أن الوضوء مستحب في نفسه، أو أنه محصل لما هو المستحب وهو الكون على الطهارة، فلا حاجة لقصد غاية أخرى كي ترد الشبهة، بل يؤتى بالوضوء بقصد امتثال أمره الندبي، أو بقصد امتثال الأمر بالطهارة كما في قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين).

والمناقشة معه هي المناقشة السابقة، وهي أن المصحح للوضوء بناءً على عدم استحبابه النفسي ولا كونه محصلا لما هو المستحب - وهو الكون على الطهارة - هو العزم الجدي على قراءة القرآن، وإن لم يكن هناك غرض في قراءة القرآن، فإن العزم الجدي مما يمكن حصوله للمكلف وإن احتمل الترك لطارئ من الطوارئ.

المثال الثالث:
لو فرض أن الماء في المسجد موقوف على من يقصد الصلاة في المسجد، فتوضأ المكلف من الماء بقصد الصلاة في المسجد لكنه لم يصل فيه، إذ لا غرض له في الصلاة في المسجد، وإنما غرضه تصحيح الوضوء، وحيث إن تصحيح الوضوء يكفي فيه القصد - وهو أن يقصد الصلاة في المسجد وإن لم يصل - قصد ذلك، فترد نفس الشبهة، وهي أنه إذا كان المصحح للوضوء من ماء المسجد مجرد أن يقصد الصلاة في المسجد وإن لم يصل فلازم ذلك حصول الإرادة - وهي قصد الصلاة في المسجد - لا لغرض في المراد بل لغرض في نفسها، وهو التوصل بها لتصحيح الوضوء، وهذا محال بنظر العراقي والسيد الصدر قدس سرهما، فلا بد للمكلف إذا أراد أن يصحح وضوءه بماء المسجد أن يصنع له غرضا في الصلاة في المسجد، بأن يخطر في نفسه أن الصلاة في المسجد ذات ثوب أعظم من الثواب في غيره فلذلك يكون الغرض الأول الصلاة في المسجد، وبتبع هذا الغرض يقصد الصلاة في المسجد، فنشؤ الإرادة - وهي قصد الصلاة في المسجد - لا لغرض فيها كي يكون محالا بل لغرض في المتعلق والمراد وهو نفس الصلاة في المسجد.

والجواب هو الجواب عن المثالين السابقين.

فتحصل أن الصحيح أنه يمكن عقلا نشؤ الإرادة لملاك في نفس الإرادة من دون غرض في وجود المراد خارجا بناءً على أن الإرادة هي العزم والتصميم كما هو المرتكز العرفي، واحتفاف الأدلة والفتاوى به قرينة على نظر الأمثلة الفقهية لذلك .

المقام الثاني: في الإرادة التشريعية

هل يعقل في الإرادة التشريعية - وهي الجعل - أن تنشأ عن مصلحة في الجعل لا مصلحة في المتعلق؟ وقد ذكر في بعض كلمات الأصوليين أن المصلحة قد تكون في الجعل وقد تكون في المتعلق، فهل هذا صحيح أم لا؟ وتنقيح ذلك بذكر أمور:

الأمر الأول:
لا ريب في إمكان أن تكون المصلحة في نفس الجعل إذا كان المجعول حكما وضعيا لا تكليفيا، كما إذا كان الغرض من جعل المولى للملكية والزوجية - وهما حكمان وضعيان - تنظيم لائحة التشريع فقط، بمعنى أن المولى بعدما تصدى لاعتبار مجموعة من الأحكام التكليفية والوضعية ، نحو جعل حرمة التصرف ونفوذ المعاملة وأشباه ذلك من الأحكام قد جعل رمزا واحدا لهذه الأحكام وهو الملكية، فعندما يقال: إن فلانا يملك الدار، فكلمة (يملك) رمز إلى أن تصرفه في الدار نافذ وأنه يحرم على غيره التصرف فيها بدون إذنه وأنها مما ينتقل لورثته حال وفاته، فيمكن أن يكون الغرض من جعل الحكم الوضعي مصلحة في الجعل، وهي اختصار مجموعة من الأحكام في مقام الإثبات في رمز واحد يعبر عنه بالملكية، وهو ما يسمى بمصلحة التنظيم، ومن هذا القبيل أن تكون المصلحة لا في الجعل بل في وصول الحكم الظاهري الوضعي بشرط كون نوع المكلفين في مقام الإستجابة له، مثلا المصلحة في جعل أمارية سوق المسلمين أو قاعدة الفراغ أو أمارية اليد هي مصلحة التسهيل التي لا تتحقق إلا بالوصول مع فرض كون النوع في مقام التطبيق.

فهذا كله ممكن في الأحكام الوضعية، وإنما البحث في الأحكام التكليفية، فهل يمكن أن يصدر أمر بالصلاة أو الصدقة لمصلحة في الأمر أم لا؟

الأمر الثاني: إن المصلحة المتصورة في الحكم التكليفي على عدة أنواع:

النوع الأول: أن تكون المصلحة في الفعل، فيشتاق المولى إلى الفعل ويأمر به، كما إذا قال المولى: (أقم نافلة الليل ) لوجود مصلحة في نافلة الليل يشتاق المولى إليها ويأمر بها.

النوع الثاني: أن تكون المصلحة في الانقياد لا في الفعل، بأن يكون الفعل مما لا مصلحة فيه، وإنما المصلحة في انقياد المكلف لأمر المولى، كما في الأوامر الامتحانية، فإن الأب إذا قال لولده: (اخرج وامش في الشارع بمسافةٍ معينة) من دون غرض له في المشي ولا هو مما يشتاق إليه، وإنما الغرض أن يرى ولده منقادا لأمره بقيامه بالفعل الخارجي، مما يعني أن المصلحة في الانقياد.

النوع الثالث: أن لا تكون المصلحة في الفعل ولا في الانقياد وإنما هي في جعل التكليف، فهل يتصور صدور تكليفٍ لمصلحة لا في الفعل ولا في الانقياد بل في نفس الأمر والتكليف أم لا؟

الأمر الثالث:
ذكر في جملة من كتب الأصول أنه يمكن أن يكون جعل الأمر لمصلحة في الجعل، سواء كانت حقيقة الأمر إبرازا لغرضٍ نفسي عند المولى أم كانت إبرازا لاعتبارٍ نفساني كما يراه سيدنا الخوئي قدس سره، فهل يمكن حصول الجعل لمصلحة في الجعل نفسه؟

الصحيح أن الإنشاء لمصلحة في نفس الإنشاء والاعتبار وإبراز الإعتبار مما لا إشكال فيه، لأن الإنشاء من أفعال النفس فيمكن صدوره لملاك فيه، ولكنه لا يعقل أن يكون مصداقا للتكليف، والسر في ذلك أن حقيقة التكليف لدى المرتكز العقلائي ما كان قابلا للمحركية على فرض وصوله للقادر على تنفيذه، بمعنى أنه متى وصل للمكلف وكان قادرا على تنفيذه حكم العقل بالامتثال، وبناء عليه فكل جعلٍ فاقد لقابلية المحركية بحيث لو وصل وكان المكلف قادرا على تطبيقه لا يحكم العقل بامتثاله فليس بمصداق للتكليف، وهذا مما ينطبق على الجعل لمصلحة في الجعل، لأن المولى إذا أصدر الجعل لمصلحة في الجعل فقد استوفى مصلحته بنفس الجعل، وصل الجعل للمكلف أم لم يصل فإن ذلك مما لا أثر له، لأن المولى استوفى الملاك بنفس الجعل، وإذا استوفيت المصلحة فقد الجعل روحه وقابلية المحركية، فوصوله للمكلف كعدم وصوله، حيث لا يحكم العقل بامتثاله لأنه إنشاء لا غرض له في حركة المكلف، وما هذا شأنه فليس بتكليف عند العقلاء، حيث لا يتصور له فعلية ومحركية آنا ما كي يكون موضوعا لحكم العقل بالامتثال.

والنتيجة أن الجعل لحكمٍ تكليفيّ أمرٍ أو نهي لمصلحة في الجعل بحيث لا يكون ولو آنا ما قابلا للمحركية ولا موضوعا لحكم العقل بالامتثال خلفُ كونه تكليفا.

الأمر الرابع:
قد يقال: إن ثمرة البحث أنه إن قلنا بأن الأمر لا يمكن أن يكون عن مصلحة في الجعل فمتى ما جاء الأمر كشف عن مصلحة في المتعلق بعنوانه، فحيث لا يمكن أن يكون عن مصلحة في الجعل فمتى وصل كشف عن مصلحة في المتعلق بعنوانه فلذلك يجب عقلا حفظ المقدمات المفوتة التي يتوقف عليها استيفاء المصلحة الكامنة في المتعلق بعنوانه في ظرفه، وأما لو قيل بأن الأمر قد ينشأ عن مصلحة في المتعلق وقد ينشأ عن مصلحة في الجعل فلا يكشف وصوله عن مصلحة في المتعلق بعنوانه لاحتمال أن تكون في الجعل.

وبما سبق في الأمر الثاني يتبين المناقشة في هذه الثمرة، لأن الأمر قد يكون لمصلحة في المتعلق وقد يكون محققا لمصلحة في الانقياد وقد يكون - على بعض المباني - لمصلحة في الجعل، فلو قلنا بعدم إمكان أن يكون الأمر لمصلحة في الجعل فلا يتعين أن يكون جعله لمصلحة في المتعلق بعنوانه، والوجه في ذلك أن الأمر الامتحاني المتعلق بصدور الفعل من المكلف بغرض ظهور الإنقياد منه تجاه أمر مولاه أمر مولوي حقيقي لا صوري لتعلقه حقيقة بحركة المكلف، إلا أن الفرق بينه وبين الأمر ذي الغاية الواقعية هو أن الأمر ذا الغاية ناشئ عن مصلحة في الفعل بعنوانه فهو كاشف عنها كشف الأثر عن المؤثر، بينما الأمر الامتحاني ليس ناشئا عن ملاك في المتعلق بعنوانه وإنما هو محقق له، بلحاظ أن مصلحة الإنقياد في طول وجود الأمر لا في رتبة سابقة عليه، فالأمر مقتض لحصولها وليس ناشئا عنها، فلذلك إذا وصل الأمر ولم تقم قرينة على كونه في سياق الإمتحان أو البعث الجدي الحقيقي لم يكشف عن مصلحة في الفعل بعنوانه في رتبة سابقة عليه، لاحتمال كونه محققا لمصلحة في طوله وهي مصلحة الإنقياد

 

البحث في صيغة الأمر

وفيها ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: في دلالة صيغة الأمر على الطلب.

المطلب الثاني: في استعمال صيغة الأمر في غير الطلب.

المطلب الثالث: في دلالة صيغة الأمر على الوجوب.

المطلب الأول: في دلالة صيغة الأمر على الطلب.

هل الموضوع له والمستعمل فيه في صيغة الأمر هو الطلب أم لا؟ هنا عدة آراء:

الرأي الأول:
ما ذكره صاحب الكفاية قدس سره من أن صيغة الأمر موضوعة للطلب، والفرق بينها وبين لفظ الطلب أن لفظ الطلب وضع بإزاء مفهومه لا بشرط، بينما الصيغة وضعت بإزاء مفهوم الطلب بشرط استعمالها فيه بداعي الإنشاء والإيجاد لا الإخبار، وأشكل عليه أن الطلب مفهوم اسمي، وصيغة الأمر لكونها من الهيئات فمعناها معنىً حرفي، فمقتضى ذلك أن يقال: إن معنى صيغة الأمر النسبة الطلبية بداعي الإنشاء - بناء على مبناه من اشتراط داعي الإنشاء في عملية الوضع - لا الطلب بداعي الإنشاء، فهناك فرق بين ما يتبادر من لفظ الطلب - وهو مفهوم اسمي - سواء ورد في سياق الإخبار أم الإنشاء كأن يقال: (الصلاة مطلوبة) وما يتبادر من قولنا: (اذهب) وهو النسبة الطلبية بداعي الإنشاء لا مفهوم الطلب.

الرأي الثاني:
ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره ونظيره ما في كلمات سيدنا الخوئي قدس سره من أن معنى صيغة الأمر النسبة الإيقاعية - كما عبر به النائيني قدس سره - أو إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف - كما عبر به سيدنا الخوئي قدس سره - وأفاد [1] بأن الصيغة موضوعة لإبراز ما يعتبره المتكلم في نفسه، وهو مما يختلف باختلاف الموارد، فقد يقصد إبراز اعتبار المادة على ذمة المكلف، وقد يقصد في مقام الدعاء إبراز ما في نفسه من اعتبار الطلب التذللي من المولى، أو إبراز ما في نفسه من التهديد أو السخرية أوالتعجيز، والصيغة في كل مورد مصداق للعنوان المبرز. ولكن ذلك موضع للتأمل فإن الموضوع له والمستعمل فيه في صيغة الأمر معنى واحد في تمام مواردها كما يشهد به الوجدان العرفي من دون أي عناية ولا تجوز، وإن اختلف الداعي الجدي باختلاف الموارد، فالاختلاف بين الموارد إنما هو في الداعي الجدي لا في المعنى المستعمل فيه، والملحوظ وجدانا أنها تستعمل في موارد خالية من أي اعتبار نفسي كما في الدعاء والالتماس من دون تجوز ولا عناية، وهل يخطر ببال العرف -الذي هو المرجع في تشخيص موارد الإستعمال من حيث تحديد المعنى ووجود العناية والتجوز وعدمه - عند استعمال الصيغة في الدعاء كقول الداعي: (اغفر لي) إبراز اعتبار الفعل - وهو الغفران - على ذمة الله تبارك وتعالى؟ أو اعتبار طلب تذللي منه تعالى؟ وكذا في موارد الالتماس كما إذا قال لأخيه: (احمل عني الكتاب)، وإنما المتبادر من معناها في حال الدعاء والإلتماس والتمني هو المتبادر منها عند الطلب والبعث، وإن اختلفت الدواعي باختلاف الموارد.


[1] المحاضرات، ج1، ص473.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo