< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/25

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

الاتجاه الثاني: وهو اتجاه المتكلمين وجملة من الأصوليين في كيفية الاختيار.

وبيان ذلك بذكر أمور:

الأمر الأول:
إن البحث في وجود عنصر متوسط بين الإرادة وبين الفعل الاختياري مبني على أن الإرادة بمعنى العزم أو الشوق المؤكد المستتبع في نفسه لحركة العضلات، فبناء على هذين المبنيين جاء البحث في أن الإرادة تقتضي وجود الفعل الاختياري بعدها حتما أم هناك واسطة بين الإرادة والفعل الاختياري؟

وأما من يقول أن الإرادة هي صرف القدرة في إيجاد الفعل فلا موجب عنده للبحث عن وجود واسطة بين الإرادة وبين الفعل كما سيأتي بيانه، إذ ليس عند صرف القدرة في إيجاد الفعل شيء سوى الفعل .

الأمر الثاني:
ليس البحث في المقام عن حقيقة الاختيار وماهيته المعبر عنه في كلمات شيخ المحققين النائيني قدس سره بهجمة النفس على الفعل، أو المعبر عنه في كلمات سيدنا بصرف القدرة في إيجاد الفعل، أو المعبر عنه في كلمات السيد الصدر قدس سره بإعمال السلطنة، فليكن مفهومه أي معنى من هذه المعاني، فإن موطن البحث ليس في حقيقة الاختيار - الذي هو آخر نقطة من مبادئ الفعل وأول نقطة من الشروع في الفعل - وإنما في أن الاختيار هل هو خاضع لقانون أن الشيء ما لم يجب لم يوجد أم لا؟ فهل وجود الاختيار اختياري أم أنه خاضع لقانون أن الشيء ما لم يجب لم يوجد؟ نعم إذا تحقق الإختيار كان ذلك شروعا في وجود الفعل الإختياري وإن تعذر لمانع خارجي؟

الأمر الثالث:
ذكر المحقق النائيني قدس سره استدلالا وجدانيا على وجود عنصر وسط بين الإرادة بمعنى العزم أو الشوق المؤكد وبين الفعل هو محور الأفعال الاختيارية، ولولاه يلزم الجبر.

وبيان ذلك أنه لا إشكال وجدانا في ثبوت الفرق بين حركة المرتعش وحركة الإنسان الاختياري الطبيعي، فلو قلنا: يتحقق الفعل الاختياري بالإرادة بمعنى الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات لا بشيء آخر لم يبق فرق بين حركة المرتعش وحركة الإنسان الطبيعي، إذ المفروض أن الحركة من الإنسان الطبيعي لا مائز لها عن حركة المرتعش إلا أنها مسبوقة بالإرادة، وبما أن وجود الإرادة ليس بالاختيار وأن هناك علة موجبة تحتم وجود الإرادة فتوجد الإرادة قسرا، وبوجود الإرادة يوجد الفعل فلم يبق فرق بين حركة المرتعش وحركة المختار، لأن حركة المختار حتمية إذا وجدت الإرادة، والإرادة حتمية إذا تمت علتها، والحال أن الوجدان شاهد على ثبوت الفرق بينهما، فالثانية – وهي حركة المختار – يصح تعليلها فيقال: لم تحرك؟ كما أنها موضوع للمدح أو للذم والمثوبة أو العقوبة، فشهادة الوجدان بالفرق بين الحركتين دالة بالوضوح على أن بين الإرادة وبين الفعل عنصرا وسطا هو المائز بين حركة المرتعش وحركة المختار، وهذا العنصر الوسط يسمى بالاختيار أو هجمة النفس أو السلطنة.

الأمر الرابع:
أن ما ذكر من وجود عنصرٍ وسط بين الإرادة وبين الفعل لا يعني أنه هو الكلام النفسي الذي يقول به الأشاعرة، فإن العنصر الوسط المعبر عنه بالاختيار ليس مدلولا للكلام كي يكون من الكلام النفسي، وإنما يستدل عليه بدلالة الإن، أي أنه إذا صدر الفعل كشف عن وجود اختيار كشفَ الأثر عن المؤثر.

الأمر الخامس:
– وهو المهم – أن ما ذكره المحقق النائيني قدس سره لم يحل المشكلة، لأن الإشكال العقلي لا زال واردا، فإن الاختيار الذي اعتبر وسطا بين الإرادة والفعل إما واجب الوجود أو ممكن الوجود، إلا أنه لا يمكن الأول وإلا لزم تعدد الآلهة والشرك، وعلى الثاني إما أن يكون له علة أو لا يكون، لا سبيل للثاني فإنه خلف كونه ممكن الوجود، فإن ممكن الوجود محتاج في صميم ذاته إلى العلة، وذلك لأنه متساوي النسبة للوجود والعدم - المعبر عنه بالإمكان الماهوي - أو أنه عين الفقر والتعلق - المعبر عنه بالإمكان الوجودي - فخروجه من حالة التساوي إلى حالة الفعلية يحتاج إلى العلة وإلا لزم الترجح بلا مرجح، وهو محال. فالاختيار محتاج إلى علة، و لكن هل العلة فيه اختيار آخر أم علة موجِبة؟ فإن قيل: إن العلة في وجود الاختيار هو الاختيار لزم التسلسل في الوجود وهو باطل، وإن قيل: علة موجِبة جاء محذور أن الشيء ما لم يجب لم يوجد، أي: إما أن تكون علة الاختيار تامة فيجب وجوده وإن كان وجوبا بالغير، وإما أن لا تكون تامة فيستحيل وجوده لأنه ترجح بلا مرجح. فتعين أن يكون الاختيار الذي جعل عنصرا وسطا تابعا وناشئا عن علة موجِبة تحتم وجوده، فإذا تمت وجب وجود الاختيار، وإذا حصل الاختيار حصل وجود الفعل كما هو المفروض، فعادت مشكلة الجبر مرة أخرى، فما ذكره المحقق النائيني قدس سره لم يحل المشكلة.

والجواب – كما أفاده سيدنا الخوئي قدس سره وفصله وأضاف له السيد الصدر قدس سره – أنه لا ملازمة عقلا بين حاجة الممكن إلى العلة وبين نفي الاختيار، كما لا ملازمة عقلا بين إنكار العلية والقول بالاختيار.

والسر في ذلك أنه ما هي النكتة في حاجة الممكن إلى العلة كي نقول: إذا احتاج إلى العلة لزم أن تكون علته موجبة ومحتمة لوجوده؟ إن النكتة في حاجة الممكن إلى العلة خروجه من حالة الاستواء – وهو تساوي الوجود والعدم - إلى الحالة الفعلية، وهذا الخروج لا يقتضي عقلا أن يكون الممكن واجبا بالغير وإلا لم يوجد، بل قد يوجد وإن لم يكن واجبا بالغير، بمعنى أن الفواعل قسمان: فاعل موجب - كالنار الموجبة للإحراق - وفاعل بالسلطنة، والفاعل بالسلطنة وإن أخرج الممكن من الاستواء إلى الوجود لكنه لا يحتم وجوده، فهو علة مفيضة من دون أن يكون محتما لوجود فعله أي من دون أن يكون فعله واجبا بالغير، فإن قولهم: (الشيء ما لم يجب لم يوجد) ليس آية منزلة، بل هو نكتة منتزعة من دعوى أن الحاجة إلى العلة حاجة إلى العلة الموجبة، وإلا لولاها بحسب نظر أهل المعقول لزم الترجح بلا مرجح، لكن هذا مما لابرهان عليه بل يكفي مطلق الفاعل المفيض في نقل الاختيار وبتبعه من الاستواء إلى الوجود ولو على سبيل الأولوية والترجيح. ومعنى ذلك: أن الفاعل بالاختيار من له أن يفعل وأن لا يفعل، والاختيار بعد العزم والشوق المؤكد غير واجب، وإنما يكون الشوق المؤكد مستتبعا لحركة العضلات على نحو الاقتضاء لا بالفعل ، وإنما يتحقق الشروع في الفعل بالإختيار وهو إعمال السلطنة، لا بالعزم والتصميم واتخاذ القرار ولا بالشوق المؤكد ، فمقتضى كون العنصر الأخير الذي مبدأ الشروع في الفعل اختيارا أن لا تكون علته علة محتمة وإلا لم يكن اختيارا، وهذا يعني أن الاختيار بمعنى إعمال السلطنة ليس وجوبا محضا ولا إمكانا محضا، فهو يشترك مع وجوب الوجود في نقطة وهي أنه كما أن وجوب الوجود في العلل الموجبة يقتضي وجود الفعل فكذلك إعمال السلطنة يقتضي وجود الفعل، إلا أن الأول - وهو الوجوب - محتم لوجود الفعل بخلاف الثاني. كما يشترك إعمال السلطنة مع الإمكان في نقطة، وهي أنه كما أن الإمكان يعني تساوي نسبة الوجود والعدم فقد لا يوجد الممكن فكذلك إعمال السلطنة، إلا أن إعمال السلطنة يمتاز عنه بأن فيه الاقتضاء لإفاضة الوجود بخلاف الإمكان .

وبذلك يتضح الخلل في برهان رغيفي الجائع وطريقي الهارب المتساويين من تمام الجهات، حيث ذكر جملة من الفلاسفة هذين المثالين، كمنبه على ضرورة شمول أن الشيء مالم يجب لم يوجد للاختيار أيضا، فإن تمت علته بأن كان في النفس مرجح وجد، وإن لم تتم علته فلا يعقل وجوده، لذلك لو لم تتم علة اختيار أكل أحد الرغيفين - بالشروع في أكل أحدهما - لم يوجد الأكل، وإذا وجب وجوده فيجب أكل أحد الرغيفين. ولكن المتكلمين يمنعون ذلك، فإن أكل أحد الرغيفين لا يحتاج إلى أكثر من إعمال السلطنة، وهو مرجح وليس محتما.

الأمر السادس:
قد يقال: لا حاجة لدعوى وجود عناصر في النفس قبل الفعل منها العلم والإرادة والاختيار، لأن المسألة تعتمد على أن الاختيار داخل تحت قانون أن الشيء ما لم يجب لم يوجد أم لا؟ وهذا لا يقتضي تكثير الوسائط، وإنما نقول: ليس هناك إلا النفس - التي هي متصفة بأن لها الفعل وعدمه - والفعل، ولا تحتاج النفس لكي تشرع في الفعل بصرف القدرة فيه إلى أي عنصر سوى إعمال السلطنة بنفس الشروع في الفعل، وبناء عليه فصرف القدرة في إيجاد الفعل من قبل النفس هو الفعل، والفرق اعتباري فإن نظر إليه من حيث الأثر فهو الفعل وإن نظر اليه من حيث المؤثر فهو صرف قدرة، والا فليس بين النفس والفعل أي واسطة، وهذا لا يخرج الفعل عن كونه اختياريا، إذ لا معنى لاختيارية الفعل إلا أن النفس البشرية تمتلك سلطنة فعلية بشروعها في الأفعال، فلا حاجة إلى فرض كثرة الوسائط والمبادئ.

فتلخص من ذلك أن كلام المتكلمين وبعض الأصوليين أوفق بالوجدان، والوجدان شاهد صادق.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo