< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

ومن أجل تنقيح مطلب الكلام النفسي الذي ورد في عبارة سيد المنتقى قدس سره فلا بد من تمهيد مقدمة وهي:

قد ذكر السيد الشريف الجرجاني في شرح المواقف أن الكلام النفسي عند الأشاعرة في باب الإنشائيات هو الطلب وفي باب الإخباريات هو أمر وراء العلم ووراء الإرادة، وهو في حق الباري تعالى قديم كسائر صفاته، واستدل على ذلك بقوله عز وجل: (وكلم الله موسى تكليما) بدعوى أن ظاهر الآية قيام الكلام به قيام حلول لا قيام صدور، فهو كلفظ النائم والصائم حيث يقوم النوم والصوم بالإنسان قيام حلول لا قيام صدور، وبناء عليه فكلامه تعالى قائم به لا صادر منه فيكون قديما بقدمه، وحيث إنه لا يعقل قيام الكلام اللفظي الحادث بذاته تعالى فتعين أن يكون المراد به الكلام النفسي .

 

وأجاب المحقق الأصفهاني قدس سره عن ذلك [في نهاية الدراية ج1ص265] وتقريبه :

أولا:
بأن الكلام ليس قائما بالمتكلم قيام حلول، فإن الكلام يقوم بالهواء، ونسبة المتكلم للكلام نسبة الفاعل للفعل والمصدر للصادر، فتختلف نسبة الكلام للإنسان عن نسبة النوم له، فالنوم حالّ في الإنسان، وأما الكلام فهو حالّ في الهواء صادر من الإنسان، فلأجل ذلك لا ظهور في قوله تعالى: (وكلم الله موسى) في قيام الكلام بذاته قيام حلول وإنما هو صادر منه كسائر الأفعال.

وثانيا: على فرض أن ظاهر الآية كون الكلام بالنسبة إليه قائما به قيام حلول فلا بد من الخروج عن ظاهر الآية بما قام عليه البرهان القطعي من أن الكلام من صفات الفعل لا من صفات الذات، وذلك لصحة نفيه وتعلق الإرادة به، فيقال: (كلم الله موسى ولم يكلم قبله إبراهيم ولا بعده عيسى) وصحة النفي فرع كونه فعلا، ويقال: (أراد أن يكلم موسى فكلمه) وتعلق الإرادة به كاشف عن كونه من الأفعال لا من الصفات، فالاستدلال بالآية على كون الكلام في حقه تعالى قديما استدلال زائف.

وبذلك يتضح وجه التأمل في ما أفيد من قبل سيد المنتقى طاب ثراه من أن مدعى الأشاعرة من الكلام النفسي مما لا محذور فيه في الجمل الخبرية دون الجمل الإنشائية، حيث إن المراد بالكلام النفسي في الجمل الخبرية تصور الموضوع والمحمول والنسبة والتصديق بها والبناء عليها، أو فقل: هو الحكم والجزم وبيان ذلك :

أولا:
بأن مقصود الأشاعرة من الكلام النفسي أمر غير العلم والإرادة، فإذا قلنا: إن الكلام النفسي هو عبارة عن تصور الموضوع والمحمول والتصديق بالنسبة والبناء عليها كان ذلك علما، فبعضه من العلم التصوري - وهو تصور الموضوع والمحمول والنسبة - وبعضه من العلم التصديقي - وهو التصديق والبناء - بينما مدعى الكلام النفسي أنه شيءٌ ثالث غير العلم والإرادة.

وثانيا:
أن ما يتصور في الخبريات يتصور في الإنشائيات، فكما أن المخبر قبل أن يخبر يصدق بالنسبة ويبني عليها - لو سلم بذلك - ثم يخبر كذلك في الإنشائيات، فإن الآمر بفعلٍ قبل أن يأمر يصدق أولا بأن فعل الغير محقق لغرضه ويبني على ذلك ثم يقوم بأمره بالفعل، فما هو موجود من التصديق والبناء في الجمل الخبرية موجود في الأوامر، فلا وجه للتفكيك بينهما.

وثالثا:
أن كل فعل اختياري - كلاما كان أم غير كلام - مسبوق بالتصور والتصديق والبناء عليه، فهل يعني ذلك أن هناك كلاما نفسيا في كل الأفعال الاختيارية؟ فالغذاء مثلا مسبوق بتصوره والتصديق به ودفع العوائق عنه فهل يقال: هناك غذاء نفسي وغذاء خارجي؟ وكذلك القيام فهل ينقسم إلى قيام نفسي وقيام خارجي؟ فإن التصور والتصديق والبناء لا يخلو منه فعل اختياري، مما يؤكد أنه ليس هو المقصود بالكلام النفسي الباطل المدعى عند الأشاعرة.

الأمر الرابع:
وقع البحث عند الأصوليين استطرادا في حقيقة الإرادة التكوينية في الإنسان، فهل الإرادة التكوينية هي العزم والتصميم أم الإرادة التكوينية هي الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات فعلا؟ أم أنها صرف القدرة في إيجاد الفعل كما هو مبنى سيدنا الخوئي قدس سره.

لا يبعد أن يقال: الإرادة التكوينية في الإنسان هي العزم على الفعل والتصميم عليه، لا الشوق المستتبع لحركة العضلات، ولا صرف القدرة في إيجاد الفعل، وذلك لمنبهين وجداني وروائي:

أما المنبه الوجداني فلما نراه بالوجدان من أن الإرادة قد تتعلق بالفعل الحالي وتتعلق بالفعل المستقبلي، فيقال: (أريد الصوم غدا) و(أريد حضور الدرس بعد ساعة) فلو كانت الإرادة خصوص ما يستتبع حركة العضلات بالفعل لم تكن متعلقة بالفعل الاستقبالي كما هي متعلقة بالفعل الحالي إلا أن يكون المقصود بالاستتباع الشأني لا الفعلي، كما أن الإرادة قد تخلو من الشوق كما في موارد دفع الأفسد بالفاسد فالمريض قد يقدم بإرادته على بتر رجله وقطع يده تخلصا من خطر الموت دون شوق لذلك، كما أن دعوى أن الإرادة هي صرف القدرة في إيجاد الفعل مخالفة للوجدان، فإن صرف القدرة في إيجاد الفعل تالٍ للإرادة مترتب عليها لا أنه هو الإرادة فإنه لاينفك عن الشروع في الفعل والإرادة بالوجدان متقدمة زمانا على الفعل، ولذلك فقد تتعلق الإرادة بما لا يمكن تحقيقه لمانع فعلي بأن يقال: (أردت تحريك السيارة فلم تتحرك) و(أردت أن أقوم بالفعل الفلاني فلم أستطع)، ولو كانت الإرادة ما يستتبع حصول الفعل أو ما هو مبنى سيدنا الخوئي قدس سره وهو صرف القدرة في إيجاد الفعل لما تصور التفكيك بينها وبين الفعل فهي مما لاحضور لها عند امتناع الفعل لعارض أو مانع من الموانع.

وقد يقال من المنبهات الوجدانية أيضا على أن الإرادة غير صرف القدرة أن الإنسان لو أخذ كأسا معتقدا أنه عصير فأراد شرب العصير وشربه فتبين أنه ماء وليس عصيرا، فما هو المراد؟ هل هو شرب الماء أم شرب العصير الذي لم يتحقق؟ فإذا قلنا: الإرادة صرف القدرة فالذي صرفت القدرة فيه شرب الماء فهو المراد، وإذا قلنا: الإرادة هي العزم فما تعلق به العزم شرب العصير لا شرب الماء وإن كان لم يتحقق. إلا أن يقال - كما عن شيخنا الأستاذ قدس سره - أن الإرادة بمعنى العزم والتصميم أو الشوق المؤكد قد تعلقت بالفعل الخارجي وهو شرب ما في الكأس، وعنوان كونه عصيرا داعي وغاية للفعل، والمراد قد تحقق وإن تخلفت الغاية، فإن الالتفات للعنوان دخيل في العمد لا في الإرادة، وهناك فرق بين العمد والإرادة، فمثلا القتل الخطأي فعل إرادي وإن لم يكن عمديا، فعدم كونه عمديا لعدم الالتفات للعنوان لا ينفي كونه إراديا لصدوره عن عزم واختيار فتخلف الالتفات لا يعني تخلف الإرادة وإنما يعني تخلف العمد، فمن رفع الكأس بقصد أن يشرب عصيرا فشرب ماءً فما شربه مرادٌ لأن الالتفات للعنوان لا دخل له في الإرادة وإن لم يكن فعلا عمديا.

والمهم أن الوجدان شاهد أن الإرادة - دخل فيها عنصر الالتفات أم لم يدخل - هي العزم والتصميم ويتلوها صرف القدرة في إيجاد الفعل.

وأما المنبه الروائي فصحيحة صفوان عن أبي الحسن عليه السلام: (قلت أخبرني عن الإرادة من الخلق ومن الله فقال عليه السلام: الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك) أي: أن إرادة الله من صفات الفعل وهي نفس فعله لا غير، وأما الإرادة من الإنسان فالضمير، أي: خطور الفعل في ذهن الإنسان، فيقال: أضمر الفعل أي: نواه، (وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل) أي: ما يبدو للإنسان أن يحققه بمعنى عزمه عليه بعد أن خطر في ضميره هو الإرادة. ولم يرد في الرواية الشريفة: (و ما يبدو منهم) كي يقال: إن الرواية تعني صرف القدرة في إيجاد الفعل.

الأمر الخامس:
بناء على أن الإرادة هي العزم أو الشوق المؤكد فهل يوجد بين الإرادة والفعل عنصر ثالث أم لا؟

وهنا اتجاهان:

الاتجاه الأول:
اتجاه الفلاسفة وهو أنه لا عنصر ثالث بين الإرادة - بمعنى الشوق المؤكد المستتبع في نفسه لحركة العضلات- والفعل.

الاتجاه الثاني:
اتجاه المتكلمين و جملة من الأصوليين - ومنهم النائيني والخوئي قدس سرهما وغيرهما - وهو أن بين الإرادة بمعنى العزم أو الشوق المؤكد والفعل عنصر ثالث - وهو الاختيار- وإلا لزم الجبر.

توضيح الاتجاه الأول أن اختيارية الفعل بسبقه بالإرادة لا بشيء آخر، وهذا هو الفرق الوجداني بين حركة المرتعش وحركة الإنسان الطبيعي، فإن حركة الإنسان الطبيعي مسبوقة بالإرادة - بمعنى الشوق المستتبع في نفسه لحركة العضلات - بخلاف حركة المرتعش، فالميزان في اختيارية الفعل سبقه بالإرادة، ولكن البحث كله في الإرادة فهل الإرادة مسبوقة بعلة تحتم وجودها أم لا؟ قد ذكر الفلاسفة أن الإرادة أمر ممكن الوجود كسائر الممكنات، والوجود الإمكاني لا يعقل وجوده دون علة توجب وجوده، فإن الشيء ما لم يجب لم يوجد، أي إما أن تسبق الإرادة علة تامة تفرض حصولها وتحتم وجودها وإما أن لا يسبقها ذلك، فعلى الأول توجد الإرادة قهرا ويوجد الفعل بعدها لأن المناط في حصول الفعل الإرادي سبق الإرادة، وعلى الثاني لا يعقل وجود الإرادة وإلا لزم الترجح بلا مرجح وهو محال.

فإن قلت: إن للإرادة مبادئ من التصور والتصديق بالفائدة ودفع العوائق عن الفعل، وبعض هذه المبادئ اختياري فأين الوجود القهري للإرادة؟

قلت:
متى فرض كون شيءٍ اختياريا سواء كان من الأفعال الخارجية أم النفسية فقد فرض قبله إرادة، لأن مناط اختيارية الفعل سبقه بالإرادة، ولو كان قبله إرادة لزم التسلسل الباطل، فلا بد من انقطاع السلسلة في إرادة ليس قبلها مبدأ اختياري. والنتيجة أن وجود الإرادة قهري وليس اختياريا لأنه خاضع لقانون أن الشيء ما لم يجب لم يوجد، وإذا وجدت الإرادة وجد الفعل.

وتقريب الاتجاه الثاني: أنه قد ذكر المحقق النائيني وتلاه سيدنا الخوئي قدس سرهما وغيرهما من الأعلام أن ما ذكره الفلاسفة جبرٌ، ويتخلص عن محذور الجبر بالبناء على توسط عنصر بين الإرادة - بمعنى الشزق المستتبع للحركة - والفعل وهو المسمى بالاختيار، وقد عبر عنه النائيني قدس سره بهجمة النفس على الفعل، ولولاه لكان الفعل جبريا، وعبر عنه سيدنا الخوئي قدس سره بأنه هو صرف القدرة في إيجاد الفعل - بل هو الإرادة الحقيقية التي بها اختيارية الفعل، وعبر عنه السيد الأستاذ مد ظله - كما في تقريره - بإشارة الدماغ للأعصاب بالحركة، وعبر عنه السيد الصدر قدس سره بإعمال السلطنة، وكلها تشير إلى عنصر الاختيار الفاصل بين الإرادة والفعل، وهذا العنصر خارج موضوعا عن القاعدة العقلية وهي ‐ أن الشيء ما لم يجب لم يوجد، وليس تخصيصا للقاعدة كي يقال: إن القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص، فالاختيار مع أنه وجود إمكاني من الممكنات التي لا توجد إلا بسبب، إلا أنه لا يخضع للقاعدة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo