< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/21

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر/کيفية استفادة الوجوب من الأمر /تكملة مناقشة السيد الخوئي قدس سره في حقيقة الوجوب.

 

العبارة الثالثة: أن الوجوب هو حكم العقل بلابدية العمل قضاء للعبودية عند وصول الأمر وعدم نصب قرينة على الترخيص.

وقد أورد السيد الصدر قدس سره نقضا فقهيا على أصل مبنى سيدنا قدس سره، وهو أنه لو صدر من المولى دليلان دليل يتضمن الأمر كما إذا قال: (آمرك بإكرام الفقيه) ودليل يتضمن الترخيص كما لو قال: (يجوز ترك إكرام العالم)، فهنا إما أن يختار سيدنا قدس سره تقديم الترخيص أو يختار تقديم الأمر، فإن اختار تقديم الترخيص بمعنى أن الدليل الثاني - وهو قوله: (يجوز ترك إكرام العالم) - يمنع من حكم العقل بلزوم إكرام الفقيه، فيحمل قوله: (آمرك بإكرام الفقيه) على الاستحباب، فهذا خلاف المرتكزات، فإن المرتكز الفقهي - حتى عنده قدس سره - تقديم الأخص موضوعا على العام، فيقدم (أكرم الفقيه) على (يجوز ترك إكرام العالم) باعتباره أخص. وإن اختار تقديم الخاص والعمل بـ(أكرم الفقيه) بنحو اللزوم ورد عليه أنه على مبناه لا تنافي بين الخطابين في أنفسهما، إذ لا تنافي بين الأمر - بمعنى اعتبار الفعل على الذمة - والترخيص كي يجمع بينهما بحمل العام على الخاص، وإنما التنافي بين حكم العقل بلا بدية العمل بقوله: (أكرم الفقيه) مع الترخيص الصادر من المولى، وحيث إن حكم العقل معلق على عدم ورود الترخيص في تركه فلا تقديم ل(أكرم الفقيه) على (يجوز ترك إكرام العالم)، ولا وجه لدعوى تعليق حكم العقل على ترخيص خاص وهو الترخيص ضمن الدليل اللفظي القابل للقرينية على خطاب الأمر لا مطلق الترخيص لمنافاته للوجدان العقلي في سائر الموارد.

وعلق بعض الأعلام حفظه الله في كتابه المباحث الأصولية [ج٣ ص٣٢] على ما في بحوث السيد الشهيد قدس سره - بأن حكم العقل بلابدية العمل منوط بعدم وصول الترخيص في إطار القرينة العرفية على خطاب الأمر، وحيث إن الخطاب الدال على مطلق الترخيص ليس قرينة عرفية على خطاب الأمر فلا تنافي بين حكم العقل بلزوم إكرام الفقيه وبين الترخيص في ترك إكرام العالم، فإن هناك فرقا بين القرينة الشارحة للخطاب ومطلق الدال على الواقع.

وتطبيق ذلك على المقام: أنه إذا قال المولى: (آمرك بإكرام الفقيه) وقال: (يجوز ترك إكرام العالم) فالدليل الثاني وإن كان ترخيصا لكنه ليس قرينة، لأن الدليل الثاني ليس ناظرا للدليل الأول كي يكون قرينةً عليه وإن كان دالا على الترخيص، و المدعى أن الوجوب حكم العقل بلابدية العمل عند صدور الأمر وعدم نصب قرينة على الأمر، لا عدم دليل على الترخيص ولو كان ترخيصا عاما. وفي المقام وإن وجد دليل على الترخيص العام إلا أنه ليس قرينة على الخطاب الأول، وبما أنه ليس قرينة على الخطاب الأول فبالنسبة للخطاب الأول تم الوجوب حيث صدر الأمر بقوله: (أنا آمرك بإكرام الفقيه) ولم ينصب قرينة عليه، فحكم العقل بوجوب إكرام الفقيه، ولا ينافيه وجود دليل عام على الترخيص، فحكم العقل خارج موضوعا عن الترخيص العام.

وهذا المطلب إن كان شرحا لمبنى سيدنا الخوئي قدس سره الشريف فيعني ذلك أن الوجوب هو حكم العقل باللابدية الذي أخذ في موضوعه الأمر وعدم نصب قرينة على الترخيص لا عدم الترخيص ولا عدم العلم بالترخيص كما في العبارتين السابقتين، ويرد عليه مضافا الى أنه تضييق للرافع لحكم العقل بلا وجه عقلي يقتضيه، فإن حكم العقل يرتفع وجدانا بالترخيص الشرعي الشامل لمورده ولا يختص بما كان في إطار القرينة العرفية على خطاب الأمر، أنه لو سلم أنه مراد لأصحاب هذا المبنى فمن الواضح أنه منافٍ للمرتكزات العرفية والفقهية من أن للوجوب ثبوتا فعليا في رتبة سابقة على حكم العقل، وذلك الثبوت الفعلي يقع موردا للعلم والجهل فلامعنى بحسب المرتكزات لأن يكون الأمر بزكاة الفطرة مثلا وجوبا واقعا في حق من لم تصله القرينة على الترخيص واستحبابا واقعا في حق من وصلته القرينة، ولذلك ترى عند التصفح في تضاعيف كلمات سيدنا قده أصولا وفقها أن الشك في الوجوب مجرى للبراءة عقلا ونقلا بعد الفحص واليأس عن الدليل لا أنه يخص البراءة بما إذا شك في أصل اعتبار الفعل على ذمة المكلف، فلو كان الوجوب هو نفس حكم العقل عند عدم نصب القرينة فلا يتصور الشك فيه يوما من الأيام، بل إما أن هناك قرينة على الترخيص فلا وجوب واقعا بلا حاجة للبراءة أو لم تصل قرينة على الترخيص فالوجوب فعلي، ولا يتصور الشك في الأحكام العقلية.

نعم في بعض عبارات المحاضرات في تقرير كلام سيدنا الخوئي قدس سره قال: إن للوجوب ثبوتا بثبوت الملاك لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، ولا محالة لا يعقل أن يراد بهذا الثبوت الثبوت الفعلي، أي: أن للوجوب بغض النظر عن حكم العقل ثبوتا بالفعل بثبوت الملاك، فإنه لو كان كذلك لم يجتمع مع كون الوجوب هو خصوص حكم العقل، فلا محالة يراد به الثبوت الاقتضائي لا الفعلي، أي: كما أن العقل يحكم بضرورة العمل عند وصول الأمر وعدم نصب قرينة على الترخيص فإن العقل يحكم بأن لا أمر من المولى من دون ترخيص إلا في فرض وجود ملاك، وهذا هو معنى الثبوت الاقتضائي.

الأمر الرابع: عندما يقال أن الوجوب من شؤون العقل لا من شؤون الشرع فهنا معنيان وتفسيران لهذا الكلام:

التفسير الأول: أن المقصود أن العقل يكتشف الوجوب من باب دلالة- الإن - فيحكم على إثر اكتشافه بضرورة العمل، فعندما يقال: الوجوب إدراك العقل للابدية فالمقصود أن الوجوب هو تلك اللابدية المدركة التي لها ثبوت في نفسها ودور العقل تجاهها هو الإدراك، مما يعني أن ما يصدر من المولى هو الأمر، أي: إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف وعدم نصب قرينة على الترخيص، وفي طول ثبوتهما - الأمر وعدم نصب القرينة - يكتشف العقل أن هناك لابدية نتيجة وجود غرض لزومي أو إرادة لزومية فيمكن الاستدلال على الوجوب لا باللفظ بل بحكم العقل بضرورة الطاعة قضاء للعبودية من باب الدليل الإني وهو دلالة الأثر على المؤثر، فالعقل دوره دور الكشف وإلا فاللابدية ثابتة بغض النظر عن دور العقل، وبناء على ذلك فهذه اللابدية لابد لها من وعاء تكون فعلية فيه ليدركها العقل، وذلك الوعاء إما عالم الاعتبار أو عالم الإرادة، بحيث يدرك العقل بعد الأمر وعدم نصب قرينة على الترخيص أن هناك لابدية إما في عالم الاعتبار وإما في عالم الإرادة، وعلى إثر اكتشاف اللابدية يحكم بلزوم الطاعة.

فعلى هذا التفسير لا يبقى مائز جوهري بين مبنى السيد الخوئي قده وباقي الأعلام قدهم، لأنه متى كان للوجوب ثبوت وراء إدراك العقل إما في عالم الاعتبار أو في عالم الإرادة فهذا يعني أن الوجوب ليس من سنخ الأحكام العقلية، وأنه أمر يمكن تفهيمه باللفظ بالوضع أو الإطلاق أو الانصراف أو بالقرينة الخاصة، إذ مادام له ثبوت في نفسه فهو كسائر المعاني الاعتبارية أو النفسية مما يمكن إبرازه بالخطاب ولو مع القرينة الخاصة، نعم يمكن للعقل أن يصل اليه كمدرك وكاشف لكنه ليس متأطراً به.

التفسير الثاني: وهو الموافق لظاهر عبارة التقرير والموافق للتسجيل الصوتي لدرسه طاب ثراه، وهو أن الوجوب ليس من المداليل التي تحكى بالألفاظ بل الوجوب هو نفس إدراك العقل للابدية، لا نفس اللابدية.

وبيان ذلك أن الوجوب كسائر أحكام العقل العملي مما له واقع، فإن المتكلمين - ومنهم سيدنا الخوئي قدس سره - يرون أن لأحكام العقل العملي ثبوتا في نفس الأمر والواقع، فقبح الظلم وحسن العدل وقبح الكذب والخيانة قضايا مرتسمة في نفس الأمر والواقع والعقل دوره إدراكها، إذ ليس للعقل شأن الحكومة وإنما شأنه الإدراك، غاية الأمر أن المدرك قد يكون نظريا كامتناع التناقض واستحالة الدور وقد يكون عمليا كقبح الظلم والكذب، فمن القضايا المرتسمة في نفس الأمر والواقع كبرى لزوم إطاعة أمر المولى قضاءً للمولوية، والعقل يدركها ولا يصنعها نظير قبح الظلم وحسن العدل. وهذه الكبرى تامة، ولكن الشأن في الصغرى، وأنه متى يكون لهذه الكبرى فعلية؟ إنما يكون ذلك إذا وصل أمر ولم يقترن بالترخيص فتلك الكبرى حينئذ تصبح فعلية، وفعلية هذه الكبرى لفعلية موضوعها هو الوجوب الفعلي، إذ ليس الوجوب الا صغرى من صغريات حكم العقل العملي، بمعنى أن إدراك العقل ضرورة العمل بالأمر بزكاة الفطرة تطبيقا للكبرى العقلية العامة وهي ضرورة إطاعة المولى قضاء للعبودية هو الوجوب.

وهنا مورد للتأمل: أما من حيث الكبرى فالبحث ليس في عنوان الوجوب لغة وعرفا الذي هو بمعنى الثبوت، وليس في خصوص الوجوب الشرعي وإنما البحث في حقيقة عرفية عقلائية مثل حقيقة الملكية والزوجية وهي حقيقة الوجوب، سواء كان الأمر صادرا من الدولة أو الأب أو شيخ العشيرة أو من الشارع نفسه، فإذا حصرنا الوجوب في حكم العقل بضرورة إطاعة أمر المولى الحقيقي قضاءً للعبودية وإبرازا للرقية فلم نطرح تفسيرا للوجوب كحقيقة عرفية عقلائية.

وأما من حيث الصغرى فمن الواضح أننا لا نناقش في ضرورة إطاعة أمر المولى وأنها من جملة مدركات العقل العملي، وإنما الكلام في الصغرى كوجوب صلاة الجمعة ووجوب زكاة الفطرة، وأنه ما هو معنى الوجوب في هذه الموارد؟

فهنا دعويان كل منهما تدعي الوجدانية:

الدعوى الأولى: ما في كلمات سيدنا قدس سره من أنه متى وصل الأمر ولم يقترن بالترخيص حكم العقل بضرورة العمل به وهذا الحكم الصغروي الذي هو في الواقع إدراك للابدية في هذا المورد هو الوجوب.

الدعوى الثانية: ما نراه موافقا للوجدان من أن العقل لا يمكن أن يحكم بضرورة العمل إلا بعد إحرازه أن المولى لم يرخص في الفعل لا بنحو العلم الوجداني، بل يكفي فيه إطلاق الطلب - بمعنى أن المولى عندما أطلق الطلب ولم يقيده بالترخيص كان إطلاقه للطلب منعا منه من الترك، وليس الجزء الدخيل في حكم العقل عدم الترخيص كعدم واقعي ولو كان المولى غافلا كما في الموالي العرفية، أو عدم العلم بالترخيص بل ما هو الدخيل في حكم العقل بضرورة العمل هو إحراز العقل للواقع وهو أنه لا ترخيص واقعا ولو كان ذلك ببركة إطلاق الطلب، وهذا هو المنبه الثاني الذي سبق منا، فقد ذكرنا - أن لازم مبنى سيدنا الخوئي قده من أن نفس الأمر وعدم الترخيص موضوع لحكم العقل - فيما إذا كان الأمر لبيا وشك في أنه مقرون بالترخيص في علم المولى أو لا؟ أو كان لفظيا وشك في نسخة الرواية - حكم العقل بضرورة العمل، وهذا خلاف الوجدان، فإنه شاهد في هذين الموردين بتوقف العقل وعدم حكمه لاحتماله الترخيص، مما يعني أن لا حكم للعقل إلا بعد إحراز أن الواقع لا ترخيص فيه. كما أنه ليس لعدم الترخيص واقعا موضوعية الا بلحاظ كشفه عن غرض لزومي أو إرادة لزومية، وقد ذكرنا ذلك في المنبه الأول وهو أن عدم الترخيص إنما يجدي في حكم العقل بضرورة العمل إذا اكتشف العقل من عدم الترخيص غرضا لزوميا، وإلا فلو اكتشف العقل أن وراء الأمر وعدم الترخيص غرضا غير لزومي لما حكم بضرورة العمل، فعدم الترخيص لا موضوعية له في حكم العقل، وإنما الاعتبار به لكونه كاشفا عن غرض لزومي. فإذا وصل الأمر - كـ(أقم الجمعة - وكان اعتبارا للفعل على ذمة المكلف وأحرز أن لا ترخيص، وأن عدم الترخيص لغرض لزومي فقد حصل الوجوب أو منشأ انتزاع الوجوب، وهذا يعني أن لا معنى للوجوب إلا هذا المثلث، أي الأمر وعدم الترخيص الناشئ عن غرض لزومي أو أن ذلك منشأ انتزاع الوجوب، وليس وراء الأمر وعدم الترخيص لغرض لزومي شيء آخر يتوقف على حكم العقل يسمى بالوجوب. نعم على إثرذلك يحكم العقل بضرورة الامتثال، فإدراك العقل لضرورة العمل في طول إدراكه للأمر وعدم الترخيص الناشئ عن الغرض اللزومي الذي مر شرحه سابقا.

فتحصل مما مضى كله: أن الأقرب من الأقوال هو انصراف الأمر مع عدم نصب قرينة على الترخيص إلى الوجوب أي: إلى إرادة لزومية أو اعتبارٍ ناشئ عن غرض لزومي ولكنه انصراف لقرينة عامة وهي احتفاف الخطابات بالسيرة القائمة على إبراز الوجوب بهذا النحو.

وبالمناقشة في أن الوجوب من أحكام العقل تتبين المناقشة في القول بأن الوجوب هو بناء العقلاء وحكمهم بضرورة العمل حيث إن للوجوب واقعا يعلم ويجهل بغض النظر عن تباني العقلاء على ضرورة التنفيذ عند وصوله.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo