< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/15

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

القول الثالث في منشأ استفادة الوجوب: انصراف الأمر إلى هذه الحصة الخاصة - وهي كون الأمر إلزاميا - في فرض الإطلاق وعدم القرينة.

وبيان ذلك أن منشأ الانصراف هو دعوى قيام السيرة العرفية على ذلك، بمعنى أن السيرة العرفية في جميع الموالي بالنسبة إلى العبيد والحكومات بالنسبة للشعوب أنهم يتكئون في مقام بيان الوجوب واللزوم على مجرد إطلاق الخطاب لا على القرينة، بخلاف ما لو كان المراد الجدي عندهم هو الندب، فإنهم يتوسلون لتفهيمه بالقرينة، وأما لو كان المنظور بيان الحصة اللزومية من الطلب فيكفي لدى السيرة العرفية ذكر الأمر من دون ضميمة، وحيث جرت السيرة العرفية بين الموالي والعبيد على بيان المراد الجدي - وهي الحصة اللزومية - بنفس إطلاق الخطاب دون ضم أي قرينة له كانت هذه السيرة منشأ لانصراف عنوان الأمر دون قرينة إلى إرادة الحصة اللزومية، أي: كان احتفاف الخطاب بالسيرة سببا في انصرافه لكون المراد الجدي هو الوجوب .

ولعل منشأ السيرة مصلحة نظامية، أو لعل منشأها ما يعبر عنه بقاعدة المقتضي، حيث إن البعث التشريعي كالبعث التكويني يقتضي في ذاته الانبعاث ما لم يكن هناك مانع، فلأجل أن مرتكزاتهم العقلائية على العمل بالمقتضي ما لم يقم مانع والبعث مقتض للانبعاث ما لم يحصل الترخيص جرت سيرتهم على الإتكاء على إطلاق خطاب البعث دون قرينة في بيان الوجوب، فمتى أرادوا بيان الحصة اللزومية مقابل الحصة الندبية اكتفوا بالبعث أي: بخطاب الأمر من دون ضميمة لبيانه .

القول الرابع: ما ذهب إليه سيدنا الخوئي قدس سره من أن منشأ استفادة اللزوم هو حكم العقل لا الوضع ولا مقدمات الحكمة ولا الانصراف.

وبيان ذلك بذكر مطلبين في كلامه قدس سره:

المطلب الأول: ما ذكره وفاقا لشيخه المحقق النائيني قدس سرهما من أن مادة الأمر وضعت لإبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف، وصيغة الأمر - وهي قوله: (افعل) - وضعت للنسبة الإيقاعية بين المتكلم والمخاطب، ومرجعها لُبًّا إلى إيقاع الفعل على ذمة المكلف، وبمجرد أن يدرك العقل العملي النظري أن المولى أوقع الفعل على ذمة المكلف بمادة الأمر أو بصيغته حكم العقل الفطري العملي بلا بدية العمل قضاءً لحق المولوية وإبرازا لواقع العبودية. ولا معنى للوجوب إلا هذا، وموضوعه أن يتصدى المولى لإيقاع الفعل على ذمة المكلف.

وسند هذا الكلام عنده البداهة والوجدان لا البرهان.

المطلب الثاني: ذكر قدس سره أن هناك مسلكين في حقيقة الإنشاء:

المسلك الأول: أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ بمعنى أن المعاني إما تكوينية أو اعتبارية، فالمعاني التكوينية توجد بأسبابها التكوينية كالحرارة والكتابة والشباب والمرض ونحوه، وأما المعاني الاعتبارية كالأمر والملكية والزوجية فإنها توجد في عالم الاعتبار العرفي بالألفاظ، فقول المتكلم: (بعتُ) أوجد الملكية في عالم الاعتبار، وقول المولى: (أمرت) أوجد ماهية الأمر والطلب في عالم الاعتبار، وهكذا سائر المعاني الإنشائية إنما توجد بالخطابات بقصد إنشاءها وإيجادها. وهذا ما ذهب له جماعة منهم صاحب الكفاية قدس سره.

وبناءً على هذا المسلك يصح أن يقال: إن عنوان الأمر وضع للطلب أي لإيجاد الطلب، باعتبار أن الطلب معنى اعتباري والموجد له هو الخطاب.

المسلك الثاني: مسلك سيدنا الخوئي قدس سره أن الإنشاء ليس بإيجاد بل هو إبراز لا بقصد الحكاية، حيث إن الإبراز بقصد الحكاية عن الواقع إخبار، والوجه في ذلك أنه لا يمكن أن تكون الألفاظ موجدة بل مقتضى شأنها اللغوي والعرفي أن تكون مبرزة، حيث إن علاقة الألفاظ بالمعاني علاقة البيان والفناء، فاللفظ متى ورد أخطر المعنى في الذهن، لا أنه يقوم بإيجاده، أي أن شأن اللفظ في باب الإنشاء كشأنه في باب الإخبار وهو كونه موجبا لخطور المعنى في الذهن وليس سببا لإيجاد ذات المعنى وتوليده في عالم الإعتبار العقلائي، غاية الأمر أن اللفظ في باب الإخبار يقصد به الحكاية عن المعنى وفي باب الإنشاء يقصد باللفظ إخطار المعنى في ذهن المخاطب من دون قصد الحكاية عنه، فبما أن شأن اللفظ الإبراز للمعاني القائمة في نفس المتكلم فلا بد من تعيين المبرَز قبلها كي تقوم بإبرازه.

وهذا المبرز تارة يكون من الأمور التكوينية الوجدانية، كالتمني والترجي في قوله: (ليت ولعل)، فإن المتكلم بالوجدان لا يوجد في عالم الإعتبار شيئا بقوله: ليت الشباب يعود، أو لعل المال يعود ، وإنما يبرز ما في نفسه من تمنٍّ أو ترجٍّ، وأخرى يكون المبرَز أمرا اعتباريا كالملكية والزوجية فإذا أراد أن يبرزه فلا بد من اعتباره أولا ثم إبراز هذا المعتبر، وإلا فالمعنى الإعتباري كالمعنى التكويني الخارجي لايمكن أن يوجد في ظرفه - وهو وعاء الاعتبار العقلائي - بدون سببه الذي هو من سنخه، ولا يكفي في وجوده في عالمه الألفاظ لأنها وحدها ليست موجدة بل مبرزة ، لذلك لا يعقل أن يوجد المعنى الإعتباري قبل قيام النفس بالاعتبار، فإذا قال: (بعتُ) قاصدا إبراز الملكية وهي من المعتبرات المحتاجة إلى الاعتبار فلا بد من ركنين أولهما اعتبار الملكية وثانيهما إبرازها بقوله: (بعت) فهذه هي حقيقة الإنشاء، فهو إبراز لا بقصد الحكاية إما لمعنى وجداني أو لمعنى اعتباري في طول اعتباره.

وبناء على هذا المسلك في الإنشاء فليس الأمر إيجادا للطلب كما في كلمات القوم بل هو إبراز، وبما أن المبرَز - وهو الطلب والبعث - من الاعتباريات فلا بد من اعتباره أولا ثم إبرازه، ولذلك فإن حقيقة الأمر هي إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف، فإن اعتبار الفعل على ذمة المكلف هو المقتضي لوجود ماهية الأمر والتكليف عند العقلاء إذا انضم له شرط الإبراز، وبعد الاعتبار يقوم بإبرازه، فإذا أبرزه صدق عنوان الأمر والطلب لدى العرف، وإذا وصل إلى عقل المكلف حكم عقل المكلف بأن مقتضى المولوية أن يأتي بالعمل، وهذا هو الوجوب.

هذا تمام كلامه زيد في علو مقامه.

ولكن بما أن المسألة وجدانية، حيث لم يقم قدس سره دليلا على مسلكه سوى الوجدان الشاهدِ بأن ليس وراء صدور الأمر إلا حكم العقل بلا بدية العمل، وحكمه هو الوجوب وليس شيئا آخر. فلذلك اتجه الأعلام من تلامذته قدس سره الشريف إلى مناقشته بضرب الوجدان المدعى.

وبيان ذلك بذكر منبهات وجدانية:

المنبه الأول: لو أن المولى أصدر أمرا دون ترخيص في الترك، ولكن العقل أدرك أن ملاك هذا المطلوب ملاك غير لزومي وأنه لو لم يفعل لن يتأذى المولى، كما لو قال المولى: (آمرك بزيارة أمير المؤمنين عليه السلام كل فجر) وأحرز عدم وجود ترخيص في الترك، ولكن العقل جازم بأن ذلك ليس ناشئا عن ملاك لزومي بل عن ملاك راجح، ولذلك لا يتأذى المولى بالترك، فهنا لا ريب وجدانا في أن العقل لا يحكم بلابدية العمل بمجرد ابراز اعتبار الفعل على الذمة و عدم وجود أي ترخيص في الترك، مما يعني أن المدار في حكم العقل باللابدية هو إحرازه نوع الملاك، فإن أدرك ملاكا لزوميا حكم بلابدية العمل وإن أدرك ملاكا غير لزومي لم يحكم بلابدية العمل، فحكم العقل باللابدية ليس ناشئا من ذات إبراز اعتبار الفعل من دون ترخيص، بل هو مستند لأمر أسبق وهو إدراك نوع الملاك، وبعبارة أخرى: إن العقل إنما يحكم بضرورة العمل عند وصول الأمر مع عدم الترخيص في الترك لا لموضوعية فيهما بل لكشف عدم الترخيص عن كون الملاك لزوميا لايرضى المولى بفوته، ولذا لو اكتشف عكس ذلك لم يحكم بلابدية العمل مما يعني أن منشأ حكم العقل سابق وهو كون الملاك لزوميا، وهذا يؤكد أن ليس قوام الوجوب بحكم العقل، بل هو عبارة عما يدركه العقل في رتبة سابقة على حكمه وهو إدراك الملاك اللزومي من الخطاب .

المنبه الثاني: أنه لو كان الأمر لبيا لا لفظيا وشك أنه اقترن بالترخيص بالترك أو لم يقترن؟ أو كان لفظيا ولكن نسخة الرواية مرددة مثلا، ولم يعلم أنها مقترنة بالترخيص أو لا، ففي هذين الفرضين لا يتأتى من العقل حكم بلابدية العمل قطعا، مع احتمال اقتران الأمر من حين صدوره بالترخيص في الترك، مما يعني أنه لا يكفي في حكم العقل بضرورة العمل اجتماع عنصرين: وهما ابراز اعتبار الفعل على الذمة، وعدم الترخيص في الترك، بل لابد أن يكون الخطاب نفسه بيانا ومبرزا للمنع من الترك أو لعدم الرضا بالترك أو لسد باب الترخيص في الترك، ولايكفي مجرد إبراز الإعتبار بضميمة عدم صدور ترخيص في الترك، مما يعني أن الوجوب أمر يبرزه الخطاب نفسه وهو بيان الخطاب للطلب وعدم الترخيص، وفي ضوء ذلك يحكم العقل باللابدية للعمل، فدعوى وجود حكم عقلي فطري مفاده أنه متى ما وصل البعث من المولى وجب الانبعاث غير تامة، حيث إن بعث المولى قد يصل ولا وجود لترخيص في الترك معه، ومع ذلك فنتيجة التردد في اقتران البعث بالترخيص لم يحكم العقل باللابدية، وهذا يؤكد أن هناك عنصرا مفقودا هو الدخيل في حكم العقل بالانبعاث، فلا يكفي في حكم العقل به مجرد وصول بعث المولى، بل لا بد من ضميمة وهي إما إحراز الملاك اللزومي وإما إحراز عدم الرضا بالترخيص، وإذا حصل ذلك فقد أدرك العقل الوجوب من نفس الخطاب، وعلى إثره حكم بضرورة العمل، وإلا فإن مجرد البعث لا يكفي في حكم العقل.

فإن قيل: في فرض الشك في الترخيص بالإمكان أن يقال: بما أن الترخيص مشكوك فيجري استصحاب عدم الترخيص ومقتضى ضم البعث والأمر إلى عدم الترخيص الثابت باستصحاب عدم الترخيص هو حكم العقل باللابدية قلت: لكن هذا ليس هو الوجوب الواقعي بل هو حكم ظاهري موضوعه الشك وتنقيح الواقع بالأصل العملي، والبحث فعلا في حقيقة الوجوب الواقعي.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo