< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/11

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

المقدمة الثانية: في علاقة التكليف بالإرادة.

بمعنى أن التكليف - إلزاميا أو غيره - هل هو متقوم بسبق إرادة الفعل من المكلف أم لا؟ وهنا ثلاثة آراء:

الأول: أن لا علاقة بين الإرادة والتكليف.

الثاني: أن هناك علاقةً مع حصر الإرادة في الإرادة الإلزامية، وهو مختار المحقق الإيرواني قده[1] [نهاية النهاية ج1ص90] كما سبق عرضه في الدرس الثالث .

الثالث: أن هناك علاقة مع انقسام الإرادة إلى لزومية وغيرها.

الرأي الأول: رأي سيدنا الخوئي قدس سره الشريف، وهو أن لا علاقة بين التكليف والإرادة، بمعنى أن التكليف لا يوجد قبله إرادةٌ من المكلِّف نحو فعل المكلَّف، فليس التكليف إلا علما بالملاك وإرادة التكليف لا إرادة فعل المكلف، بمعنى أن المولى إذا علم أن في صلاة الجمعة ملاكا فليس هناك إلا إرادته الأمر بصلاة الجمعة لا إرادة صلاة الجمعة، أي: إرادة التكليف لا إرادة الفعل من المكلف.

وذلك استنادا إلى أحد وجهين:

الوجه الأول: أنه لا يعقل أن يكون لدى المكلِّف - وهو المولى الآمر - إرادةٌ للفعل من المكلف. والسر في ذلك أن الإرادة هي عبارة عن صرف القدرة في إيجاد العمل، وليست الإرادة مجرد شوق أو شوق مؤكد، فإن هذه مقدمات للإرادة وليست هي عينها. وبعبارة السيد الأستاذ مد ظله أن أمارة الإرادة إشارة الدماغ للأعصاب بالحركة، وبالتالي فإن الإرادة لا تتعلق إلا بما إذا كان الفعل تحت اختيار الفاعل كي يقوم بصرف القدرة في فعله، فما لم يكن الفعل تحت اختيار الفاعل لا يعقل تعلق الإرادة به، والمفروض أن فعل المكلف ليس تحت اختيار المكلِّف لأن المكلِّف مجرد مقنن، وليست أفعال المخاطبين تحت اختياره بماهو مولى بل هي تحت اختيارهم، فبما أن فعل المكلَّف خارج عن إطار اختيار المكلِّف فلا يعقل أن تحصل إرادة من المكلِّف متعلقة بفعل المكلَّف، فإنه محال.

والنتيجة: أنه لا يوجد إلا إرادة الأمر لا إرادة الفعل، أي: أن المولى حيث علم بأن في صلاة الجمعة ملاكا توجهت إرادته إلى إصدار الأمر بصلاة الجمعة لأن إصدار الأمر بصلاة الجمعة فعل المولى لا فعل العبد، فتتعلق به إرادته، وأما فعل العبد - وهو صلاة الجمعة نفسها - فليس تحت اختيار المولى كي تتعلق به إرادته.

وعلى هذا فما اشتهر بين الأصوليين من أن التكليف متقوم بسبق الإرادة من قبل المكلِّف نحو فعل المكلَّف باطل غير معقول.

 

وما ذكره قدس سره متين بناء على تفسير الإرادة بأحد معنيين:

أولهما: أن الإرادة هي صرف القدرة في العمل، فلا معنى لصرف القدرة في فعل الغير، وإنما تصرف القدرة في فعل النفس، إلا إذا كان الغير مقهورا لإرادة الآمر أو كان للآمر وثوق بقدرته على تحريك الغير تكوينا من خلال تأثيره التام على مقاصده ودواعي نفسه كالأب بالنسبة لطفله .

ثانيهما: أن الإرادة بمعنى الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات على نحو الاستتباع الفعلي، بأن يكون المقوم للإرادة هو استتباع الشوق لحركة العضلات بالفعل، فلا يعقل أيضا أن يكون لدى المولى شوق مستتبع بالفعل لحركة عضلات المكلف.

فبناء على أحد هذين التفسيرين فكلام سيدنا الخوئي قدس سره واضح لا غبار عليه.

وأما بناء على تفسير الإرادة بأحد وجهين آخرين فلا.

أولهما: أن الإرادة هي الشوق المؤكد لكن الاستتباع شأني لا فعلي، أي: أن هذا الشوق المؤكد مستتبع إذا اجتمعت الشروط أو انتفت الموانع للحركة، فمتى ما بلغ الحب والميل إلى درجة الشوق المؤكد الذي يقتضي حركة العضلات لو توفرت الشروط فهي إرادة، فهي بهذا المعنى كما تتعلق بفعل النفس تتعلق بفعل الغير، فيكون لدى المكلِّف علم بالملاك وشوق مؤكد يقتضي حركة عضلات المكلف لو وصل إليه الأمر وبنى على امتثاله، فالشوق المؤكد - حيث أخذ فيه الاستتباع بنحو الاقتضاء لا الفعلية - متعقل في إرادة المكلِّف نحو فعل المكلَّف.

ثانيهما: ما ذكرناه سابقا من أن الإرادة هي كون فعل المكلف غرضا للمولى المكلِّف، بمعنى أن هناك غرضا مصححا وغرضا مقوما، فالغرض المصحح هو الملاك إذ لا يمكن أن يأمر المولى بعمل دون ملاك فيه، وهذا هو الغرض المصحح للأمر، والمولى حين يعلم أن في فعل العبد ملاكا - أي: غرضا - مصححا للأمر به يقوم بدراسة الموانع والعوائق وكيفية إيصال غرضه وملاكه هذا للمكلف، وفي طول ذلك يكون صدور الفعل من المكلَّف هو غرضه الفعلي، فالأول هو الغرض في الفعل والثاني الغرض هو الفعل بحيث لو سئل المولى: (ما هو غرضك؟) لقال: (نفس فعل المكلف غرضي)، فكون فعل المكلَّف غرضا بالفعل للمولى هو الإرادة المولوية الشرعية، مقابل الإرادة التكوينية التي هي بمعنى صرف القدرة في الفعل التي تتعلق بفعل النفس وفعل الغير عند كونه خاضعا لتصرف الفاعل .

وإنما كان الغرض النهائي هو الإرادة المولوية لكونه موضوع حكم العقل بلزوم التنفيذ.

بيان ذلك أن العقل تارة يحكم بأن للمولى حق الطاعة في أوامره، وتارة يحكم بأن للمولى حق حفظ أغراضه وإن لم يأمر بها، ولذلك لو اطلع العقل على غرض لزومي للمولى لحكم عقله بلزوم حفظ ذلك الغرض وإن لم يأمر المولى به لمانع منعه، كما في حالات التقية وأشباهها، وكلا الحكمين - حكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى وحكمه بلزوم حفظ أغراض المولى - يرجعان لحكم واحد وهو حفظ حرمة المولى، فالحكم الأساس الموجود لدى عقل العبد هو حفظ حرمة المولى، وحفظ حرمته قد يتحقق بوجوب طاعته وقد يتحقق بلزوم حفظ أغراضه.

وهذا الحكم العقلي موضوعه أن يصل أن فعل المكلف غرض للمولى، فمتى وصل للعبد أن غرض المولى فعله لزمه عقلا تحقيق غرضه بالإتيان بالفعل، فلأجل ذلك نقول أنه يجب أن ينشأ التكليف عن إرادة من المكلِّف نحو فعل المكلَّف ولكن بمعنى كون غرض المولى الفعلي هو صدور الفعل من المكلَّف.

وبناء على ذلك فإن التكليف إبراز الإرادة المولوية، وهذه الإرادة المولوية التي هي الغرض قد تكون بنحو لا يرضى المولى بتركه، فتكون لزومية كما سبق بيانها، وقد تكون بنحو رجحان فتكون ندبية خلافا للرأي الثاني وهو رأي المحقق الإيرواني من حصرها باللزومية، لشهادة الوجدان بانقسامها للوجوب والندب تبعا لاختلاف درجة الملاك سواء أريد بها الشوق باختلاف درجاته أو كون فعل الغير غرض فعليا للمولى .

الوجه الثاني: لو سلمنا أن تعلق إرادة المكلِّف بفعل المكلَّف أمر ممكن معقول، لكن لا وجود له بحسب الوجدان، فإن مراجعته تشهد بأن الآمر إذا أراد أن يأمر بفعل لا يحتاج إلا أن يعلم بالملاك ويصدر الأمر، فما هو الوجه في إقحام عناصر يشهد الوجدان بعدمها؟

والجواب عن ذلك: يبتني على ما حرر في بحث اتحاد الطلب والإرادة من أنه - في فرض صدور فعل اختياري من الإنسان سواء كان فعله المباشري أم كان أمرا تجاه غيره - هل يوجد في عالم النفس عنصر وراء الإرادة يسمى بالطلب النفساني أم لا؟ وهل هناك واسطة بين الإرادة والفعل؟ بمعنى أن الفعل في طول الإرادة ضروري الحصول أم هناك واسطة بين الإرادة والفعل؟

ذكر المحقق الشيخ حسين الحلي طاب ثراه [2] [في أصول الفقه] كلام شيخه المحقق النائيني قده وأنه يقول بوجود الواسطة، فبعد العلم بالملاك والإرادة - التي هي عبارة عن الشوق المؤكد ولذا فهي من مقولة الكيف النفساني - يوجد عنصر ثالث وهو الطلب النفساني، ومعناه هجمة النفس على الفعل، وهي من مقولة الفعل الجوانحي، فإن الإنسان إذا علم أن في حضور الدرس يوم الأربعاء مصلحة أهم من الرجوع إلى بلده وفي ضوء العلم حصلت له إرادة بمعنى الشوق المؤكد فلا يتحتم بمجرد ذلك الفعل، وإلا لأصبح مجبورا، بل هناك عنصر ثالث وهو هجمة النفس، ولولاه لم يكن الفعل إختياريا، وقد عبر السيد الصدر قدس سره[3] [بحوث في علم الأصول] عن هذا العنصر بسلطنة النفس وأنها واسطة بين الوجوب والإمكان، فتحقق الإرادة بمعنى الشوق المؤكد المستتبع في نفسه لحركة العضلات لا يسلب عن النفس السلطنة على الفعل والترك، بل تبقى سلطنة النفس على الفعل والترك أو الهجمة على الفعل وعدمها حتى مع تحقق الإرادة، هذا مما يتعلق بالنقطة الثانية من بحثهم في الطلب والإرادة وهو البحث عن الواسطة بين الإرادة وبين الفعل الإختياري .

وأما بالنسبة لما يتعلق بالبحث في النقطة الأولى - وهي البحث عن وجود عنصر غير العلم بالملاك وإرادة التكليف قبل صدوره من المولى - فقد عقب الشيخ الحلي طاب ثراه على هذا بقوله: (ففي الحقيقة لايكون في البين إلا العلم بالمصلحة وجعل الوجوب أو الطلب أو الإرادة التشريعية على طبق المصلحة).

ولكن المحقق العراقي قدس سره [4] [نهاية الأفكار] أشار الى وجود عنصر ثالث بقوله: (نعم هنا غير المذكورات معنى آخر وهو غير العلم والإرادة والحب وهو البناء والقصد المعبر عنه بعقد القلب في باب الإعتقادات) إلى أن قال: (فلا مجال للإنكار بأنا لا نجد في أنفسنا عند طلب شيء غير العلم بالمصلحة والإرادة بما عرفت من وجود أمر آخر في النفس يكون هو البناء والقصد) .

وإن ناقش بعد ذلك في أن ما هو المحكي بالأمر وما هو موضوع لحكم العقل بضرورة الامتثال هل البناء أو الإرادة بمعنى الشوق المؤكد، ومبناه هو الثاني كما صرح به[5] [في حاشيته على فوائد الأصول] والمتحصل مما مضى أن المختار وفاقا للعراقي قده [6] [في نهاية الأفكار] أن التكليف عنوان لبيان الإرادة المولوية وإبرازها، وليس من سنخ الاعتبار كما سبق بيانه في المقدمة الأولى، وأن المختار في المقام وفاقا للعراقي أيضا هو المسلك الأول، أي: وجود عنصر ثالث وراء العلم بالملاك والإرادة المتعلقة بإصدار البيان والإبراز وهو القرار، : أي كون الغرض الفعلي صدور الفعل من المكلف، فإنه ما لم يصل المولى لهذه المرحلة لم يقم ببيان غرضه، ولعل المقصود بعبارة النائيني قده بهجمة النفس والعراقي قده بالبناء وعقد القلب هو هذا المعنى الذي عبرنا عنه بالقرار وكون الغرض الفعلي هو صدور الفعل من الغير. والمختار أيضا خلافا للمحقق العراقي قده أن هذه الحالة النفسية هي موضوع حكم العقل بضرورة الامتثال.


[2] في أصول الفقه، ج1، ص334.
[5] في حاشيته على فوائد الأصول، ج4، ص378.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo