< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/10

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

الرأي الثالث: أن الوجوب والندب من مقولة الاعتبار، فالوجوب عبارة عن اعتبار اللابدية والندب عبارة عن اعتبار الرجحان، فكلاهما نوعان من الاعتبار.

ولكن هذا المبنى يلاحظ عليه:

أن كون الخطاب من مقولة التكليف أو مصداقا للتكليف ليس متقوما بالاعتبار كما هو الملحوظ بالوجدان في الأوامر والتكاليف العرفية، فمثلا: إذا صدر من الأم تجاه ولدها خطاب بأن قالت: (أريد منك الفعل الفلاني ولا أرضى بتركه) فمن الواضح جدا أن هذا تكليف ومصداق للإلزام مع أنه ليس متضمنا لنوع من الاعتبار، فإن الأم لم تقم بعملية اعتبار، لا اعتبار الفعل على ذمة ولدها - كما في عبارات سيدنا الخوئي قدس سره - ولا اعتبار اللابدية - كما هو مضمون هذا الرأي - بل غايته أنها أبرزت ما في نفسها من ضرورة وجود الفعل، مما يعني أن كون الخطاب مصداقا للتكليف والإلزام ليس منوطا بعنصر الاعتبار في شيء.

نعم قد يحتاج لعنصر الاعتبار في بعض الموارد، لا كنعصر مقوم لحقيقة التكليف والإلزام، وإنما كعنصر تنظيمي، مثلا: إذا أرادت الدولة أن تلزم المواطنين باحترام إشارات المرور في الطرقات فإنها لو تركت الأمر لمقدار الغرض والملاك فقالت: (متى ما كان هناك احتمال معتد به للخطر في العبور وتجاوز الإشارة فلا يجوز ومتى ما لم يكن فيجوز) لكان ذلك فتحا لباب الفوضى، لاختلاف أذهان الناس وتفاوت معرفتهم بميزان الخطر واختلاف الحالات المقتضية للتجاوز، فمن أجل المصلحة التنظيمية تصدر الدولة اعتبارا عاما أوسع من دائرة الغرض والملاك، وهو أن على كل مواطن أن لا يتجاوز إشارات المرور في أي حال، مع أن الغرض والملاك هو في بعض الحالات لا مطلقا، إلا أنه احتيج في المقام إلى تدخل عنصر الاعتبار بتعميم القانون تفاديا للفوضى، فهذه الحاجة لعنصر الاعتبار لا تعني أن الاعتبار مقوم لحقيقة التكليف بحيث لا يصدق التكليف والإلزام إلا مع وجود اعتبارٍ كما عليه هذا المسلك ومسلك سيدنا الخوئي قدس سره، وإن احتيج إلى الاعتبار في بعض الموارد لمصلحة تنظيمية، أو فقل: إن الغرض في هذه الموارد حفظ الغرض، أي: أن التحرز وحفظ الغرض الأساس - وهو سد جميع أبواب الخطر - هو بنفسه الغرض من جعل القانون، لا أن القانون أوسع دائرة من الغرض والملاك .

الرأي الرابع: أن الوجوب من سنخ الإنشاء ، ومن الواضح أن النسبة بين الإنشاء والاعتبار نسبة العام والخاص فكل اعتبار إنشاء ولا عكس، حيث إن الإنشاء هو عبارة عن إبراز حالة في النفس لا بقصد الحكاية وقد لا يتضمن أي اعتبار كما في فرض التمني والترجي والتهديد والإرشاد ونحوها، والاعتبار عبارة عن عملية إبداعية بمعنى فرض العنوان وجعله كأنه يوجد في الخارج بالجعل نحو جعل الملكية والزوجية .

وقد ذُكِرَت عدة تصويرات لهذا الرأي نقتصر منها على قولين:

القول الأول: ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ التبريزي قدس سره - كما تلقيته منه وقد أشار اليه [في دروس مسائل علم الأصول ج١ ص٢٦٧] من أن الوجوب عبارة عن اقتضاء إطلاق الطلب لسد باب الترخيص في الترك، وبيان ذلك: أنه ليس الوجوب بمعنى طلب الفعل والمنع من الترك - كما في بعض الكلمات - لأنه لم يصدر من المولى إنشاءان بل صدر منه شيء واحد بسيط، كما أنه ليس عبارة عن طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك واقعا - كما في تعبيرات بعض آخر - فإن عدم الترخيص في الترك بما هو عدم في نفسه ليس حاكيا عن الوجوب إذ قد يجتمع هذا العدم مع الغفلة وعدم الالتفات. كما أن الوجوب ليس عبارة عن طلب الفعل مع عدم نصب قرينة على الترخيص في الترك، لأن نصب القرينة وعدمه من شؤون مقام الإثبات الخارج عن إطار خطاب الوجوب، والبحث عن حقيقة الوجوب ثبوتا بغض النظر عن مقام ما يستدل به عليه ، فلا معنى لأن نقحم قيدا إثباتيا - من شؤون الحاكي عن الوجوب - في تحديد مفهوم ثبوتي وهو حقيقة الوجوب، وإن كانت حقيقة الوجوب حقيقة إنشائية إلا أن من الواضح الفرق بين ماهو دخيل في قوامها وبين ما هو في مقام القرينة والحكاية عنها .

وإنما الوجوب عبارة عن إطلاق الطلب، أي: أن المولى في مقام الإنشاء حيث أنشأ الطلب قاصدا للإطلاق وعدم تحديده بمرتبة من الطلب، كانت نتيجة الإطلاق انسداد باب الترخيص في الترك، فانتفاء الترخيص في الترك من مقتضيات إطلاق الطلب التي لا تنفك عنه، من دون أن يستلزم ذلك التركيب والتقييد في حقيقته بل هو إنشاء بسيط اقتضى بصرف ومحض الإطلاق سدَّ باب الترخيص في الترك، والنتيجة أن إطلاق الطلب الذي يستتبع ويقتضي انتفاء الترخيص في الترك هو المقوم للوجوب والتكليف الإلزامي.

ولكن رغم دقة المبنى المزبور فإن الملاحظة السابقة على جملة من الآراء في حقيقة الوجوب واردة هنا، وهي أن مجرد إطلاق الطلب الذي يقتضي أن لا ترخيص في الترك ليس مصداقا للإلزام ما لم يكن ناشئا عن غرض لزومي في رتبة سابقة، حيث لا معنى لسد باب الترخيص في الترك لولا كون الغرض لزوميا، مما يعني أن تحديد حقيقة الوجوب بخصوصية عدم الترخيص تحديد باللازم لا بالملزوم الذي هو اللب والجوهر في حقيقة التكليف الإلزامي، لذلك فنشوء الطلب الذي يقتضي إطلاقه عدم الترخيص في الترك عن غرض لزومي هو المقوم لحقيقة الوجوب .

القول الثاني: ما ذهب إليه السيد الأستاذ مد ظله من أن الفرق بين الوجوب والندب لا من حيث المبدأ - وهو الملاك اللزومي وغير اللزومي - ولا من حيث اللازم - وهو المنع من الترك والترخيص فيه - وإنما من حيث العنصر الجزائي وهو أن الوجوب عبارة عن إنشاء الطلب أو البعث المستبطن للوعيد على الترك، والندب عبارة عن الطلب أو البعث المستبطن للوعد على الفعل لا على نحو التركيب وإنما على نحو الاندماج الناتج عن الجمع بينهما عبر القرون كاندماج حرمة التصرف في المال بدون إذن المالك في مفهوم الملكية، فلا حاجة بناءً على هذا المبنى إلى إقحام عنصر العلو والاستعلاء في حقيقة التكليف، بل متى صدر الطلب مع الوعيد فهو تكليف وإلزام وإن لم يكن عن علو واستعلاء، فلو صدر من شخص طلب مستبطن للوعيد وكان قادرا على تنفيذ الوعيد كان تكليفا وإلزاما وإن لم يكن له أهلية الإلزام أو التكليف.

ولكن يلاحظ على ذلك:

أولا: أن الملحوظ في التكاليف العرفية عدم إناطة صدق عنوان الإلزام بعنصر الوعيد فالطلب الصادر من الأم أو الأستاذ المقرون بعدم الرضا بالترك مصداق لعنوان الإلزام عرفا وإن لم يكن مستبطنا للوعيد، ويؤيد ذلك أن الملحوظ في الأوامر الشرعية في الكتاب الكريم والقوانين الوضعية فصل العنصر الجزائي من الوعد والوعيد عن بيان نفس الأحكام، فالآيات القرآنية مثلا الواردة في بيان الأحكام الشرعية لم تتضمن العنصر الجزائي وإنما الذي تكفل ببيان ذلك العنصر آيات أخرى، كما أنه في القوانين الوضعية تذكر لائحة للعقوبات غير لائحة التكاليف والقوانين.

وثانيا: بما أن عنصر الوعيد كاشف لا محالة عن غرض لزومي في نفس مصدر التكليف، وإلا لم يعقل الوعيد منه فهذا يؤكد أن المقوم الفارق بين الوجوب والندب هو في رتبة سابقة على عنصر الوعيد والوعد، وهو النشوء عن غرض لزومي أو رجحاني وأن العنصر الجزائي إنما هو دخيل في محركية القانون وفاعليته. ولذلك يتحقق التكليف والإلزام عرفا بإبراز الغرض اللزومي بمعنى الغرض الذي لا يرضى الآمر بتركه سواءً كان بإنشاء أو إخبار مع عنصر الوعيد أم مع عدمه، نعم قد يحتاج عنصر الوعيد في بعض الموارد لإعطاء شحنة من المحركية والفاعلية للتكليف، لكنه ليس مقوما له.

فتلخص من ذلك أن الصحيح أن التكليف الإلزامي المعبر عنه بالوجوب عبارة عن إبراز الغرض اللزومي.

وقد اختار ما يقرب من ذلك المحقق العراقي قدس سره حيث أفاد أن الفارق بين الوجوب والندب بنشوء الطلب أو البعث عن إرادة شديدة - مساوقة لعدم الرضا بالترك - أو ضعيفة مساوقة للترخيص فيه - وقد حصل النزاع في بيان مقصوده من الإرادة الشديدة والضعيفة، فهل المقصود بها الشوق المؤكد وغير المؤكد؟ أم المقصود ماذكره في [نهاية الأفكار ج1 من ص 164 الى ص168] مبحث الطلب والإرادة في رد دعوى من يقول: (إنه لايوجد في مقام تصدي الإنسان لعمل مباشر أو صدور أمر من قبله - صفة أخرى في النفس وراء العلم بالملاك والإرادة) إذ قد يقول قائل: أيضا لا نجد في مقام تصدي المولى للتكليف إلا العنصرين، بمعنى أن المولى حيث علم أن في الصلاة ملاكا وأراد أن يحفظ ذلك الملاك فقال: (أقم الصلاة)، فليس وراء التكليف والخطاب إلا عنصران العلم والإرادة بمعنى إرادة صدور التكليف، كما أن الإنسان إذا تصدى لعمل فليس وراء علمه بالغرض في العمل وإرادة صدور العمل عنصر آخر في النفس .

ففي هذا المقام يذكر المحقق العراقي قده أن ثمت عنصرا ثالثا وهو فعل من أفعال النفس، وهذا الفعل عبارة عن عقد القلب، وله عدة نظائر في الشرع منها: باب الشك في عدد ركعات الصلاة، مثلا: إذا شك المكلف بين الثالثة والرابعة فحكمه أن يبني على الرابعة بمعنى أنه يعقد قلبه على كونها الرابعة عملا فإن عقد القلب هنا فعل من أفعال النفس يتعلق به الأمر الشرعي، ومنها: ما ورد في أدلة الاستصحاب من قوله عليه السلام: (يبني على اليقين) بمعنى أن يعقد قلبه على ترتب آثار اليقين بالحدوث، ومنها: التصديق المأمور به في باب الإيمان حيث لا يتحقق الإيمان بمجرد العلم بأن الله واحد بل لا بد في الإيمان من عقد القلب على ما علم، أي: لا بد من فعل من أفعال النفس وهو عقد القلب، وهذا الفعل هو المسمى الطلب النفساني المغاير للإرادة، فالأم عندما تريد أن تلزم ولدها بزيارة أرحامه مثلا فهنا عناصر ثلاثة: العلم بالملاك، وإرادة مخاطبة الولد بذلك، والطلب النفساني، وهو عبارة عن التصميم على هذا الأمر، وهو الذي نعبر عنه بحسم القرار أو اتخاذ القرار.

وماذكره العراقي في بحث اتحاد الطلب والإرادة - ولم يذكره في المقام - يصلح أن يكون شاهدا على أن المقصود بـ(نشؤ الإلزام عن إرادة لزومية) هو أن التكليف الإلزامي منوط بعنصر مقوم له في أفق النفس وهو فعل من أفعال النفس يعبر عنه بالتصميم واتخاذ القرار، وبناءً عليه فما لم يكشف الخطاب عن هذا التصميم بالحد اللزومي لم يكن مصداقا للإلزام وسيأتي التأمل في ذلك

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo