< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/09

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر

 

وصل الكلام في استفادة الوجوب إلى المسلك الثاني وهو استفادة الوجوب من الإطلاق كما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره.

و قبل بيان مطلبه لا بد من عرض مقدمتين :

المقدمة الأولى: ما هي حقيقة الوجوب؟ حتى يمكن لنا البحث في استفادة الوجوب من الإطلاق وعدمها، فإن استفادة الوجوب من إطلاق الخطاب فرع كونه بمعنى يمكن استفادته من الإطلاق، فلا بد من تحرير معنى الوجوب أولاً كي يتعقل استفادته من الإطلاق وعدمه.

والبحث حول حقيقة الوجوب يرتكز في أن الوجوب هل هو من مقولة الكيف النفساني المبرز؟ أم أنه من مقولة الاعتبار؟ أم هو من سنخ حكم العقل العملي؟ أم من سنخ الإنشاء؟

فهنا أربعة آراء في حقيقة الوجوب:

الرأي الأول: - وهو المختار - أن حقيقة الوجوب هي عبارة عن الإرادة اللزومية المبرزة، فهو من مقولة الكيف النفساني بقيد الإبراز.

وبيان ذلك: أن المراجعة للعرف العقلائي تشهد أن الوجوب يتسم بخصوصيتين طوليتين، أي: إحداهما في طول الأخرى.

الخصوصية الأولى: أن الوجوب كمفهوم عقلائي هو مؤلف من عنصرين:

١- هو كون صدور الفعل من المكلف مصباً لغرض فعلي من المولى بنحو لا يرضى المولى بتركه.

والوجه فيه أن المولى إذا أدرك أن في الفعل الفلاني - كصوم شهر رمضان أو الصلاة اليومية - ملاكاً مقوماً للحياة المعنوية للمكلف، ولم يكن هناك مانع من الاستيفاء ولا مزاحم دائم له صار غرضه الفعلي هو صدور الفعل من المكلف بنحو لا يرضى بالترك.

وليس المراد بالإرادة الحب أو الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات، وإنما المراد بها كون صدور فعل المخاطب غرضاً للمولى كما سيأتي شرحه في المقدمة الثانية.

٢- إن الغرض الفعلي المزبور يحتاج إلى الإبراز لا كعنصر جوهري في الأثر - وهو بناء العقلاء على الاحتجاج به على العبد - بل كعنصر تمهيدي طريقي لتحقيق حركة المكلف نحو العمل، إذ لا يمكن للمكلف عادة أن يتحرك لولا وصول الإرادة المبرزة من قبل المولى، وإلا فروح الوجوب وجوهره ليس إلا كون الغرض الفعلي للمولى هو صدور العمل من المكلف بنحو لا يرضى بتركه، سواء كان الإبراز بمادة الأمر أم بصيغة الأمر أم بجملة خبرية، كما لو قال: (أنا أريد منك هذا العمل ولا أرضى بتركه) ونحو ذلك من العبارات، فإن هذا تنوع في الإبراز ليس إلا.

الخصوصية الثانية: أن من مميزات الوجوب أن وصوله موضوع لبناء العقلاء على صحة الاحتجاج به على العبد المساوق لضرورة العمل والتنفيذ، وهذه الخصوصية متفرعة على الخصوصية السابقة.

المبنى الثاني: مبنى سيدنا الخوئي قدس سره الشريف من أن الوجوب من سنخ حكم العقل العملي بحسب ما في المحاضرات ج٢ ص١٤ ، ولا ربط للوجوب بالمولى فهو ليس من شؤون المولى في شيء.

بيان ذلك: أنه ليس دور المولى إلا إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف، فإذا قام المولى بإبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف ولم تقم قرينة على الترخيص حكم العقل العملي بضرورة التنفيذ والخروج عن عهدة ما أمر به المولى قضاءً لحق العبودية وأداء لوظيفة المولوية وتحصيلاً للأمن من العقوبة بلحاظ أن الاعتبار صادر من المولى بما هو مولى، ولم يصدر من طفل أو شخص متطفل أو من المولى على سبيل الإرشاد والنصح. ولامعنى للوجوب إلا إدراك العقل لابدية الخروج من عن عهدة الخطاب إذا لم يحرز من الداخل أو الخارج ما يدل على جواز تركه.

أو فقل بتقريب مني: إن الوجوب منتزع من حكم العقل العملي بضرورة التنفيذ في طول صدور الاعتبار من قبل المولى.

ويلاحظ على ذلك:

أولاً: ما أشكل به جمع من تلامذته قدست أسرارهم من أن اعتبار الفعل على ذمة المكلف عنوان أعم من التكليف والوضع، بينما موضوع حكم العقل بالطاعة هو الحكم التكليفي والحكم الوضعي ليس موضوعا لحكم العقل بالطاعة إلا إذا ترتب عليه حكم تكليفي فيكون موضوع حكم العقل بالطاعة هو التكليف المترتب على الوضع.

والوجه في ذلك: أن اعتبار الفعل على ذمة المكلف قد يكون بمعنى اعتبار المسؤولية عن الفعل فيكون تكليفا وقد يكون اعتبار الملكية فيكون وضعاً.

مثلاً: إذا استأجر شخص شخصاً آخر للعمل كما إذا استأجره للخياطة، فإن معنى الاستئجار في الأعمال هو اعتبار العمل في ذمة الأجير فيكون كسائر الديون التي لا يشترط في صحة اعتبارها القدرة على الأداء، بخلاف اعتبار التكليف الذي يقتضي اعتبار القدرة على متعلقه.

نعم لو كان مرجع كلامه قدس سره إلى اعتبار التكليف - بشهادة ما نقل عنه في المنتقى ج٣ ص٨٥ من أن سيدنا قدس سره في غير مورد قد قيّد الاعتبار وجعل الفعل على العهدة بما يكون الغرض منه إمكان الدعوة والتحريك - كي يختلف عن الحكم الوضعي فلا يرد الإشكال، ولكن بناءً عليه فإن المولى إذا اعتبر الفعل على الذمة بغرض التحريك بالإمكان أو جعل المسؤولية على ذمة المكلف فربما يقال إن ذلك هو الوجوب بالنظر العقلائي، أي: أن منشأ الوجوب سيكون هو نفس اعتبار المسؤولية لا أن الوجوب هو حكم العقل المتفرع على الاعتبار لكنه موضع تأمل يأتي.

وثانياً: أن ما أفيد في تقرير كلماته قدس سره الشريف مخالف للعرف العقلائي في حقيقة الوجوب، وذلك لمنبهين:

المنبه الأول: أن لازم كلامه أن لا يتعقل في الوجوب كونه مجهولاً، لأنه إذا كان الوجوب متقوماً بحكم العقل - وحكم العقل فرع الوصول، إذ لو لم يصل اعتبار الفعل على ذمة المكلف لم يحكم العقل بضرورة التنفيذ - حكم العقل بالطاعة وضرورة التنفيذ، فلا يوجد وجوب مجهول.

مع أنه بالضرورة - كما هو عنده وعند غيره - أن الوجوب له ثبوت في لائحة الأحكام الشرعية والعقلائية بغض النظر عن حكم العقل، وقد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً، وإذا شك في الوجوب ولم يقم دليل عليه بعد الفحص المعذر جرت البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي على الخلاف.

فجريان البراءة أو الاحتياط عند الشك في الوجوب فرع أن يكون للوجوب واقع في رتبة سابقة على حكم العقل، إذ لو لم يكن للوجوب واقع بغض النظر عن حكم العقل لم يتصور الشك فيه، وكون الشك فيه مجرى للبراءة أو الاحتياط مما يعني أن الوجوب سابق رتبةً على حكم العقل. وستأتي في بيان مسلكه قدس سره دعوى أن مورد البراءة موضوع الوجوب ومنشأه لا نفس الوجوب، وهو موضع تأمل يأتي بيانه.

المنبه الثاني: أنه لا يتصور حكم العقل دون إدراك الغرض اللزومي بمعنى أن حكم العقل متفرع عليه، والشاهد على ذلك - كما ذكر قدس سره الشريف في مبحث المقدمة المفوتة - من أن العقل إذا أدرك الغرض اللزومي للمولى وأدرك توقف الغرض اللزومي على مقدمةٍ بحيث لو لم يصنع المكلف المقدمة لفات الغرض اللزومي في ظرفه، فإن العقل حينئذ يحكم بضرورة الإتيان بالمقدمة، فحكم العقل هنا لم يتأت لولا إدراكه للغرض اللزومي للمولى من دون أن يكون حكم العقل حينئذ وجوباً، بل هو صرف حكم عقلي ناشئ عن إدراك مراد المولى وغرضه اللزومي، ولامعنى للغرض اللزومي في ظرفه إلا المصلحة التامة التي لا يرضى المولى بفوتها.

فكذلك في محل الكلام، فإن العقل لولا أنه أدرك أن اعتبار الفعل على ذمة المكلف ناشئ عن غرض لزومي للمولى بمعنى ما لا يرضى بتركه لما حكم العقل بوجوب الطاعة، وإلا فمجرد الاعتبار لا موضوعية له في حكم العقل بالطاعة.

وبعبارة أخرى: إن موضوع حكم العقل بلزوم الطاعة إما نفس الاعتبار بما هو اعتبار أو الاعتبار الناشئ عن غرضٍ لزومي للمولى، فإذا كان المدعى أن مجرد اعتبار الفعل على ذمة المكلف الصادر من المولى الذي لم تقم قرينة على الترخيص في تركه هو موضوع حكم العقل بالطاعة فهذا منافٍ للعرف العقلائي، فإنهم يرون أن الاعتبار عنصر فني مرتبط بمقام الصياغة، ولا موضوعية له في الأحكام العقلية، وإن كان موضوع حكم العقل هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف الناشئ عن غرض لزومي الكاشف عنه عدم القرينة على الترخيص في الترك لم يكن الوجوب هو نفس حكم العقل، بل هو متفرع على إدراك الوجوب، ولذلك فلا كلام في ظهور الروايات الشريفة التي تشتمل على تعداد الواجبات والمندوبات في الصلاة أو شهر رمضان مثلاً أو يوم العيد في أن الوجوب شأن من شؤون الشارع يتم بنفس بيانه لا أنه مجرد بيان لمنشأ انتزاع الوجوب ودور الشارع مجرد الاعتبار.

وثالثاً: أن قوله قدس سره الشريف: أن الوجوب عبارة عن حكم العقل بلزوم الطاعة إذا كان المقصود به بناء العقلاء على صحة الاحتجاج - كما ورد التعبير بذلك في مصباح الأصول ج١ ص٢٥٢ - أو أن المراد منه الشأنية - أي: أن من شأن الخطاب المولوي أن يحكم العقل بضرورة تنفيذه وإن لم يحكم به فعلاً - فهو كلام متين، وأما إذا كان المراد من حكم العقل فعلية ذلك فهذا ليس أمراً مطرداً، فإن أغلب أفعال عامة الناس سواء في القانون الشرعي أو القانون الوضعي لا تصدر عن حكم العقل من قبلهم بضرورة التنفيذ قضاءً لحق المولوية، وإنما يصدر الفعل من أغلب الناس إما فراراً من العقوبة أو رغبة في المثوبة بحيث لو أن هذه العقوبة نفسها صدرت من غير المولى لتحرك الناس على إثرها أيضاً.

فدعوى تقوّم الوجوب في الاعتبار الصادر من المولى بما هو مولى بكونه موضوعا لحكم العقل بالطاعة بالفعل محل تأمل.

أو أن مراده من حكم العقل قضاء الفطرة كقضاء الفطرة بالفرار من الضرر المحتمل أو قضاء الفطرة بطلب المثوبة التي لا بد منها، وإلا فبحسب الاصطلاح حكم العقل العملي - وهو ما كان متعلقاً بالحسن والقبح - ليس ملازماً ومطرداً لإدراك الاعتبار الصادر من المولى الذي لم تقم قرينة على الترخيص في الترك.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo