< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/04

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: الأوامر/ /منشأ استفادة الوجوب من الأمر

 

الجهة الرابعة: ما هو منشأ استفادة الوجوب من الأمر؟

ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الصادر من المولى مادة الأمر أم كان الصادر صيغة الأمر أم كان الصادر جملةً خبرية تدل على الأمر.

وفي المقام أقوال أربعة:

الأول: أن منشأ استفادة الوجوب هو الوضع.

الثاني: أن منشأ استفادة الوجوب هو الإطلاق.

الثالث: أن منشأ استفادة الوجوب الانصراف.

الرابع: أن منشأ استفادة الوجوب حكم العقل.

فالكلام فعلا يقع في مطلبين:

الأول: في ذكر الأقوال ونقدها.

الثاني: في بيان الثمرة الفقهية التي تترتب على اختلاف هذه الأقوال.

المطلب الأول: في ذكر الأقوال في منشأ استفادة الوجوب ونقدها

القول الأول: ما ذهب له صاحب الكفاية قدس سره من أن منشأ استفادة الوجوب هو الوضع، وقد يستدل على صحة كلامه بوجهين :

الأول: ما ذكره قدس سره في الكفاية من دعوى التبادر، أي: أن المنصرف والمتبادر من الأمر أو صيغته هو الوجوب، ودعوى الاستحباب تحتاج إلى القرينة.

وهذا المقدار من الاستدلال واضح المناقشة، فإن انصراف عنوان الأمر إلى الوجوب شيء واستناد هذا الانصراف إلى حاق المادة - وهي الهمزة والميم والراء - أو استناد هذا الانصراف إلى ذات الصيغة شيء آخر، إذ لعل منشأ الانصراف هو الإطلاق المتقوم بعدم ذكر القرينة، أي أن صدور الأمر بضم عدم القرينة هو منشأ الانصراف للوجوب لا نفس حاق مادة الأمر.

ولذلك ذكر المحقق العراقي قدس سره في مناقشة شيخه المحقق الآخوند قدس سره أنه لا ريب وجدانا في صحة تقسيم الأمر بلا أي تجوز إلى وجوب وندب، فإنه لا يُرى بحسب الوجدان العرفي أي عناية في قولهم: (الأمر وجوب وندب)، وهذا كاشف عن أن انصراف الوجوب ليس مستندا إلى حاق المادة والصيغة، وعلى ذلك جرت الاستعمالات العربية حيث كثر في الروايات الشريفة استعمال عنوان الأمر في الندب بلا تجوز.

ففي معتبرة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام في مستحبات الإحرام (أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر بنتف الإبط وحلق العانة والغسل والتجرد بإزار ورداء) ونحو ذلك من الروايات الشريفة الواردة في إطلاق الأمر على المستحبات بلا تجوز.

الثاني: ما ذكره في الكفاية - على سبيل التأييد - من صحة المؤاخذة على مخالفة الأمر، فإن مجرد مخالفة المكلف لأمر المولى مصحح لمؤاخذته، وصحة المؤاخذة والاحتجاج على العبد بمجرد المخالفة منبه على أن نفس الأمر مفيد للوجوب وإلا لما صحت المؤاخذة على مخالفة نفس الأمر.

والجواب عن ذلك واضح، فإن غاية ما يثبت بهذا الكلام أن مخالفة الأمر موضوع للمؤاخذة، ولكن ما هو منشأ المؤاخذة؟ هل هو ظهور الأمر في الوجوب أم عدم القرينة على الندب أم هو حكم العقل بأن الأمر مع عدم القرينة على الندب موضوع لحكم العقل باللزوم كما هو مسلك سيدنا الخوئي قدس سره الشريف؟ فصحة المؤاخذة على مخالفة الأمر أعم من صحة المؤاخذة على مخالفة حاق الأمر وإن لم يكن ظاهرا في الوجوب . ولعله لأجل هذا عبر عنه في الكفاية بالمؤيد لا الدليل .

تعقيب: ذكر المحقق الأيرواني قدس سره [1] دفاعا عن شيخه صاحب الكفاية قدس سره - في أن منشأ استفادة الوجوب ترجع إلى نفس الأمر لا إلى أمر آخر - يبتني على مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن الطلب الصادر من المولى بما هو مولى لاينقسم الى وجوبي وندبي، فإن العقل يحكم بوجوب إطاعة كل طلب صادر من المولى وليس لطلب المولى مراتب مختلفة بالشدة والضعف يكون بأحدها موضوعا لحكم العقل بوجوب الإطاعة وبالأخرى موضوعا لحكمه بحسنها، مما يعني أن الوجوب لا ينفك عن تحقق الأمر - لابمعنى أن مفهوم الأمر متقوم بالوجوب حيث إن مفهومه هو الطلب الصادر من العالي المستعلي - بل إنه من لوازمه، فإنه متى صدر الأمر من المولى بما هو مولى حكم العقل بوجوب إطاعته وكان ذلك منشأ لانتزاع عنوان الوجوب.

وبعبارة أخرى: إن الأمر هو الطلب الصادر على سبيل الاستعلاء، وليس المقصود بالاستعلاء إظهار العلو مقابل خفض الجناح بل بمعنى صدور الطلب من المولى بما هو مولى، فالطلب الصادر على سبيل الارشاد لما يترتب على نفس المطلوب من المصلحة دون إعمال المولوية ليس أمرا، كما أن الطلب المتحقق في المستحبات ليس أمرا إذ لم يصدر عن المولى بما هو مولى ولذلك لم يجب امتثاله عقلا، وانما صدر عنه بما هو ناصح وخبير، أي: من باب النصح والإرشاد إلى الكمالات والمصالح العظيمة في الأفعال القربية، فإذا قال المولى مثلا: (يستحب السواك أو الغسل يوم الجمعة) فهو مجرد إرشاد إلى مصالح كمالية لا أنه صادر من المولى بما هو مولى كي يكون أمرا.

المقدمة الثانية: إن قلت: إن الأمر كاشف عن الإرادة، والإرادة المولوية نوعان: إرادة لزومية وهي الإرادة الشديدة، وإرادة رجحانية وهي الإرادة الضعيفة، فالطلب الندبي أمر لأنه يكشف عن إرادة مولوية وإن كانت رجحانية لا لزومية. قلت: إن الإرادة لا تنقسم إلى إرادة شديدة وضعيفة، بل الإرادة وجود واحد فمتى ما تحققت فالمراد يجب تنفيذه، فكأن الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية، فكما أن الإرادة التكوينية إذا تحققت فلا بد أن يتحقق المراد ولا تنفك عن المراد فكذلك الإرادة التشريعية، فإن الإرادة التشريعية هي الإرادة المولوية، والإرادة المولوية متى تحققت من المولى فليس بعدها إلا حكم العقل بحتمية الفعل. نعم الحب ينقسم إلى الشديد والضعيف، وكذلك الشوق، ولكنهما ليسا وجوبا ولا ندبا، وإنما متى وصلت الحالة عند المولى للإرادة فهي واجبة التنفيذ، ولا يتصور فيها شديد وضعيف، وبما أن الأمر كاشف عن الإرادة المولوية وهي دائما حتمية التنفيذ عقلا، فلا يوجد أمر ندبي، وبالنتيجة: إن البحث في منشأ استفادة الوجوب من الأمر بحث مستدرك فإنه إذا كان الأمر متقوما بالعلو والاستعلاء، وكان الاستعلاء بمعنى صدور الطلب عن المولى بماهو مولى، وهذا مستتبع لتحريك العقل نحو الإطاعة فلا حاجة للبحث عن كيفية دلالة الأمر على الوجوب وأنها بالوضع أو بالاطلاق .

وقد ذكر هذا الوجه السيد الأستاذ مد ظله وناقشه استنادا لمبناه في حقيقة الأمر، وحاصله في نقطتين:

النقطة الأولى: إن الأمر له عنصران شكلي وجوهري.

فأما العنصر الشكلي فهو عبارة عن إنشاء البعث والتحريك، فإن هذا المعنى الإنشائي (افعل واذهب) هو العنصر الشكلي للأمر.

وأما العنصر المعنوي الجوهري فهو أحد أمرين: إما ربط العمل بشخصية الآمر وإما الجزاء المستبطن في البعث.

وبيان ذلك أن المجتمعات إما مجتمعات طبقية وإما مجتمعات قانونية. فالمجتمعات الطبقية كالقبائل والعشائر يكون الأمر فيها عادة متقوما بربط العمل بالشخصية، فمثلا إذا صدر الأمر من شيخ العشيرة فإن معنى الأمر أنك إن لم تعمل فقد أسأت لشخصيتي، فهو يربط طلباته بشخصيته، وهذا الربط بين العمل والشخصية هو المحقق لعنوان الأمر، حيث يعد عدم العمل هتكا لشخصية الآمر .

وأما في المجتمعات القانونية التي تسير على طبق القانون لا الطبقية فالعنصر المعنوي للأمر فيها عادة هو العنصر الجزائي، ومعنى العنصر الجزائي استبطان الوعيد أو الوعد، فإن كان الطلب متضمنا للوعيد والعقوبة فهو الأمر الوجوبي وإن الطلب متضمنا للوعد والثواب فيكون الأمر استحبابيا. وبذلك يتبين أن الفارق بين الأمر والرجاء والالتماس يكمن في العنصر المعنوي لا في أخذ العلو أو الاستعلاء في مفهوم الأمر.

النقطة الثانية: لعل الذي دعى المحقق الايرواني قده للبناء على أن الأمر لا يكون إلا وجوبا أن مبناه في حقيقة الأمر أنه ما كان صادرا عن علو واستعلاء، وبما أن الاستعلاء يتحقق بربط الشارع العمل بشخصيته ذات المولوية فلذلك كان الأمر ملازما للوجوب، فإن ربط الشارع العمل بشخصيته يعني أن المخالفة هتك لها وهو مساوق لحتمية التنفيذ عقلا.

إلا أن الصحيح أن العنصر المعنوي المقوم للأمر لا ينحصر في ربط العمل بالشخصية كي لا يكون إلا وجوبا، بل له عنصر آخر وهو العنصر الجزائي الذي قد يكون وعيدا وقد يكون وعدا، وظاهر الأوامر الشرعية أنها ليست متقومة بربط العمل بالشخصية، بل هي متقومة بالوعيد والوعد كما هو ظاهر الآيات والروايات مضافا إلى أنه لو كان الوجه في استحقاق العبد للعقوبة على المخالفة هي نكتة الهتك لحرمة المولى وهي حيثية واحدة في جميع المعاصي، مع أن مراتب العقوبة متفاوتة، بل لا تحتاج أوامر الله إلى أن يربط فيها أعمال العباد بذاته، لكفاية إدراك العقل لمقامه تعالى الذي يقتضي عقلا إطاعته، وبما أن الأوامر الشرعية متقومة بالعنصر الجزائي فهي متضمنة إما للوعيد فتكون وجوبية أو للوعد فتكون ندبية، ولاينحصر الأمر في الوجوب. فما ذكره المحقق الأيرواني من أن الأمر الشرعي لا يكون إلا وجوبيا ممنوع، لأن الأمر متقوم بالعنصر الجزائي، وهو على نوعين: وعيد فيكون وجوبيا ووعد فيكون ندبيا.

وما ذكره مد ظله الشريف محل تأمل، والوجه في ذلك أن هناك فرقا بين ما هو المقوم لعنوان الأمر وما هو المحرك لامتثال الأمر، وقد وقع مزج بين الأمرين فتارةً نبحث عما هو المقوم لعنوان الأمر بالنظر العرفي فنقول: المقوم لعنوان الأمر بالنظر العرفي صدور الطلب من العالي على وجه الاستعلاء أو فقل: إنشاء البعث بداعي التحريك من العالي على وجه الاستعلاء، ولا يوجد لدى العرف اعتبار أن يكون الأمر منوطا بربط الشخصية أو منوطا بالعنصر الجزائي من وعد أو وعيد، بل متى صدر بعث بداعي التحريك ممن هو مولى فهو عند العرف أمر، وتارة نبحث بعد تحقق الأمر وصدق عنوانه عن المحرك ما هو؟ فقد يكون المحرك إدراك العقل أن الآمر مولى ومقتضى مولويته إطاعته وهو ما يعبر عنه بحق الطاعة، وقد يكون المحرك لامتثال الأمر قيام الآمر بربط العمل بشخصيته، فربط العمل بالشخصية محرك لامتثال الأمر لا مقوم لعنوانه، وقد يكون المحرك لامتثال الأمر الوعيد على المخالفة أو الوعد بالثواب عليه، فهذه الأمور كلها محركات لامتثال الأمر بعد الفراغ عن صدق عنوان الأمر، وإلا فالأمر في نفسه وبحسب النظر العرفي غير متقوم لا بالعنصر الجزائي ولا بربط العمل بالشخصية وإن كانت المحركية لامتثاله في بعض الموارد قد تحتاج إلى ذلك.

فهذا المقدار من المناقشة للمحقق الإيرواني غير وارد، وستأتي مناقشته عند بيان كلام المحقق العراقي، حيث إننا سنناقشه بما يتضح به وجه المناقشة في كلام المحقق الإيرواني أيضا.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo