< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الأصول

45/03/03

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: اصول

 

الجهة الثانية: البحث عن حقيقة الأمر الذي يكون مصداقا للطلب.

وبيان ذلك بعرض عدة مطالب :

المطلب الأول: تحرير موضع البحث في حقيقة الأمر.

ظاهر كلمات جملة من الأصوليين أن البحث هنا بحث في تفسير مادة الأمر، أي: ما هو المقصود بمادة الأمر التي تكون مصداقا للطلب؟ والحال بأن البحث ليس كذلك، أي: ليس البحث فعلا في تحليل معنى مادة الأمر وإنما البحث في حقيقة عرفية عقلائية معنونة بعنوان الأمر.

بيان ذلك أن هناك حقائق إنشائية لدى العرف العقلائي يبحث عن حدودها ، فمثلا البحث عن حقيقة البيع ليس بحثا لغويا حول كلمة البيع وإنما هو بحث عن حقيقة عرفية عقلائية بغض النظر عن كلمة الباء والياء والعين، وكذلك البحث عن حقيقة الزوجية أو الملكية، فإنه ليس بحثا لغويا، وإنما هو بحث عن أمر اعتباري لدى العقلاء ، فكذلك الأمر في المقام، فإنه ليس البحث في المقام عن معنى مادة الأمر أو صيغته - كما هو ظاهر جملة من كتب الأصول - وإنما البحث عن حقيقة إنشائية عند العقلاء معنونة بـ(الأمر)، سواء أبرزت تلك الحقيقة باللفظ العربي أو غيره نحو (فرمان) (دستور) بالفارسي أو commandباللغة الإنكليزية، وإذا عبر عن هذه الحقيقة باللغة العربية فربما عبر عنها بمادة الأمر أو بصيغة (افعل) أو بجملة خبرية كما إذا قال: ﴿أنا أطلب منك كذا﴾

ولذلك فما ذكر في كلمات جملة من الأعلام في الأصول - من أن المشهور قد ذهب الى أن ما وضع له مادة الأمر لغة هو الطلب - وأنها بحسب اصطلاح الأصوليين عبارة عن القول المخصوص - أي: صيغة افعل وما أشبهها - وفي مقابل ذلك ذهاب جماعة منهم السيد الأستاذ مد ظله الى أن الموضوع له مادة الأمر ليس هو الطلب وإنما هو التحريك كما تشهد له موارد الإستعمال كما في قوله تعالى: ﴿أصلاتك تأمرك بأن نترك ما يعبد آباؤنا﴾ أو قوله تعالى: ﴿ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء﴾ وقوله تعالى ﴿قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين﴾ وأنها قد تستعمل بالقرينة في معنى آخر كالنصح والمشورة كما في قوله تعالى: ﴿يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون﴾ أي: ماذا تنصحون؟ (قالوا أرجه وأخاه)، وقد تستعمل بمعنى الطلب مثلا (أفغير الله تأمروني أن أعبد) أي: تطلبون مني؟

فهذا كله بحث عن مادة الأمر وموارد استعمالاتها، بينما البحث عن حقيقة عرفية معنونة بعنوان الأمر سواء عبر عن هذه الحقيقة باللفظ العربي أم غيره، كما يشهد بذلك بناء جملة من أعلام الأصول على تقرير النتيجة في البحث بالاتكاء على مايعبر عن هذه الحقيقة باللغة الفارسية

المطلب الثاني: ما هي حقيقة الأمر؟

وهنا آراء ثلاثة:

الأول: أن الأمر عبارة عن الطلب.

الثاني: ما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره الشريف من أن الأمر إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف.

الثالث: أن الأمر من مقولة الإنشاء، فهو إنشاء البعث بداعي التحريك. وهو الصحيح.

وبيان ذلك أن الأمر ليس عبارة عن نفس الطلب بالحمل الأولي، وإن كان البعث بداعي التحريك مصداقا للطلب، فإن هنافرقا بين المفهوم والمصداق، فالبعث بداعي التحريك عند العرف طلب، ولكن هذا لا يعني أن الأمر هو الطلب بالحمل الأولي، وإنما الطلب مفهومٌ عامّ ينطبق على الأمر وغيره، فتارة يتحقق طلب نفسي وتارة يتحقق طلب فعلي وتارة يتحقق طلب إنشائي، والأمر عبارة عن إنشاء البعث بداعي التحريك الذي إذا تحقق بصيغة (افعل) أو بغيرها كان ذلك مصداقا للطلب لا أن الأمر هو الطلب.

وأما ما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره من أن الأمر إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف وأن النهي إبراز اعتبار الحرمان على ذمة المكلف ففيه أن لدى العرف مفهومين بينهما اختلاف في الجملة فحقيقة الأمر شيء وحقيقة الحكم التكليفي شيء آخر، إذ تارة يقع البحث عن حقيقة الحكم التكليفي مقابل الحكم الوضعي فهنا يأتي كلام سيدنا الخوئي قده، حيث إن الحكم الوضعي هو إبراز اعتبار علقة بين طرفين كاعتبار الملكية أو الزوجية، والحكم التكليفي - هو إبراز اعتبار الفعل في ذمة المكلف - لدخالة الإنشاء والإبراز في حقيقة الحكم عرفا بنظره الشريف - وتارة أخرى يقع البحث عن الأمر مقابل النهي والالتماس والرجاء، لا الحكم التكليفي مقابل الحكم الوضعي، فلا موجب حينئذ لتفسير الأمر بأنه إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف، إذ هناك حقيقتان عرفيتان، ولا وجه للمزج بينهما.

ولأجل هذا نقول: إن الأمر عند العرف العقلائي من مقولة الإنشاء، وهو عبارة عن إنشاء البعث بداعي التحريك.

نعم، قد يكون المراد الجدي منه أحيانا إبراز اعتبار الفعل على ذمة المكلف، وقد يكون المراد الجدي الإرشاد وقد يكون المراد الجدي من الأمر ابراز الرغبة النفسية والشوق المؤكد نحو عمل معين، وإن لم يكن في البين عملية اعتبار للفعل على الذمة، لكن هذا لا يعني أن أنواع المراد الجدي هي حقيقة الأمر.

المطلب الثالث: في القيد المأخوذ في تعريف الأمر

تقدم أن الأمر إنشاء البعث بداعي التحريك، فأخذ فيه قيدٌ وهو أن يكون بداعي التحريك.

وتوضيحه أن الغرض من هذا القيد إخراج التمني والترجي والتهديد والإنذار، حيث إن إنشاء البعث على ثلاثة أقسام:

إذ تارةً يكون إنشاء البعث بداعي التحريك نحو فعل لغرضٍ في الفعل، كما إذا قال: (صل) وهذا هو الأمر الجدي.

وتارة أخرى يكون إنشاء البعث بداعي التحريك لكن لا لغرض في الفعل بل لغرض في نفس التحريك، كما في الأوامر الامتحانية، فإن الأمر الامتحاني أمر حقيقة - خلافا للمحقق العراقي [1] لأنه إنشاء للبعث بداعي التحريك وإن لم يكن للآمر غرض في الفعل بل غرضه في مجرد الحركة.

وثالثةً يكون إنشاء البعث لا بداعي التحريك بل بداعي التمني أو الترجي فلا يكون أمرا بل هو ترجٍّ أو تمنٍّ.

هذا تمام البحث في الجهة الثانية.

الجهة الثالثة: هل يعتبر في الأمر العلو أو الاستعلاء أو أحدهما أو كلاهما؟

والبحث في مطالب ثلاثة:

المطلب الأول: ما هو العلو والاستعلاء؟

ليس المقصود من العلو خصوص العلو الحقيقي الناشئ عن مبدأ تكويني كما أفاد المحقق الإيرواني في كتابه [2] بأن القدر المتيقن منه مبادئ الوجود ووسائط الفيض كعلو الله والأنبياء والأوصياء والآباء، والمعلمين ، وليس منه العلماء والأشراف، وأما من يخاف سوطه كأرباب السلطة ففي كونه عاليا إشكال وإن وجبت طاعته عقلا خوفا من شره.

بل المقصود من العلو هو العلو العرفي، إذ ليس البحث عن الأمر الشرعي بل عن حقيقة الأمر عند العرف العقلائي، ومن الواضح أن مقام الآمرية المنوط بالعلو العرفي لدى العقلاء يشمل من له مقام ديني او اجتماعي أو قانوني كالعلماء وشيوخ العشائر والدولة، فإن السلطان الثابت بحسب العرف عالٍ بالعلو العرفي، وهو أن له بنظر العرف منصب الآمرية، ولو كان ذلك المنصب ناشئا عن سلطة أو عن حق استوجب هذا العلو.

وأما الاستعلاء فقد أفاد سيد المحكم طاب ثراه [3] أن الاستعلاء هو عبارة عن أن يظهر الآمر العلو بفرض نفسه بمرتبة من ينبغي متابعته إما بالقهر أو بحقّ شرعي أو عقلي إذ تارة يقف شخص في الشارع بسلاح ويفرض نفسه، فيظهر أن له السلطنة على الأمر بالقوة، وتارة أخرى يكون له حق شرعي فيستخدمه كأن يستخدم الزوج حقه على الزوجة فيأمرها بما أن له حقوقا، وتارة يكون له حق عرفي ناشئ عن خدمة معينة، بل يكفي فيه تخيله أو ادعاؤه ذلك، وبالنتيجة: إبراز العلو بسلطة أو باستخدام حق هو الاستعلاء.

المطلب الثاني: هل أخذ في الأمر العلو أم الاستعلاء أم أحدهما أم كلاهما؟

ذهب المحقق صاحب الكفاية والمحقق العراقي قدس سرهما إلى أن الأمر طلب العالي وإن لم يستعل، فلا يقال لطلب السافل من العالي أنه أمر وإن استعلى.

فإن قلت: لو استعلى الولد على أبيه فقال الولد لأبيه: (اذهب معي أو آمرك يا أبي أن تفعل كذا) فإنه يوبخ ويقال له: لم تأمر أباك؟ فهذا شاهد على صدق الأمر على طلب السافل؟

قلت: كما في كلمات العلمين: إن التوبيخ ليس على الأمر، وإنما هو على تقمص مقام المولوية والآمرية وهو ليس أهلا له، وأما التعبير عن طلبه بالأمر مع أنه ليس بأمر فهو مجاز من باب المجاراة لأن الولد حيث ادعى مقام الآمرية ادعى أن ما يصدر منه أمر، فيقال له: (لم تأمر؟!) مجاراةً وإلا فليس أمرا.

وذهب سيد المحكم طاب ثراه مع جملة من الأصوليين إلى أن الأمر متقوم بالاستعلاء، فالأمر ما يحصل مع إبراز العلو.

والصحيح في المقام أن الأمر عرفا إنشاء البعث بداعي التحريك الصادر عن علو واستعلاء، فلا يكفي أحدهما في تحديد حقيقة الأمر.

فمثلا لو أن الأب طلب من ولده شيئا رجاءً وخفض جناحه له فليس طلبه أمرا وإن صدر من العالي، لأنه لم يصدر منه استعلاءً، أو أن الزعيم الديني أو العرفي نصح أحدا أو أرشده بصيغة (افعل) أو ما يرادفها من اللغات إلى عمل لم يكن أمرا، حيث لم يصدر منه على سبيل إعمال المولوية.

وقد يستشهد لذلك في بعض كتب الأصول بما ورد في قصة بريرة التي طلبت فراق زوجها فقال لها الرسول صلى الله عليه وآله: ارجعي الى زوجك، قالت: (أتأمرني يا رسول الله؟) أي: هل صدر هذا الطلب منك على نحو الاستعلاء وهو إعمال المولوية فقال: (لا إنما أنا شافع) أي: ليس أمرا لأنه لم يصدر على سبيل المولوية بل على سبيل النصح والرجاء. إلا أن المنقول لم يثبت بطريق معتبر كما يظهر اختلاف النقل من [4]

وكذلك الحال في الطبيب فإنه تارة يطلب من المريض العلاج واستعمال الدواء من باب النصح أو الإخبار عن الواقع وهذا ليس أمرا، وتارة يطلب منه وينشئ البعث بداعي التحريك بلحاظ أن له علوا اجتماعيا، فإذا استخدم العلو وأنشأ بعثا بداعي التحريك كان أمرا، وإن لم يكن أمرا مولويا فإن الأمر حقيقة ينقسم إلى المولوي والإرشادي.

المطلب الثالث: في الثمرة من هذا البحث.

إن الثمرة الفقهية من هذا البحث تظهر في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يجب على المكلف إذا احتمل التأثير أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيجب عليه أن يأتي بما يصدق عليه عرفا أنه أمر بفعل أو قول من أي لغة كان، وبيان ذلك: أنه لا إشكال في عدم اعتبار العلو العرفي في وجوب الأمر بالمعروف، فإن ظاهر الآية المباركة ونحوها من النصوص (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) كفاية العلو الشرعي بمعنى أن الشارع اعتبر للمؤمن الولاية على طلب المعروف والزجر عن المنكر فأصبح المؤمن باعتبار الشارع الذي هو الولي الحقيقي عاليا من هذه الجهة فكان ما يصدر عنه من طلب بالمعروف أمرا، وإنما البحث في الاستعلاء فإذا لم نقل باعتباره فلا ثمرة، وإذا قلنا: يلزم عرفا في صدق الأمر أن يكون عن استعلاء فلا يكفي في امتثال الواجب أن يصدر الطلب بداعي النصح إذا لم يجد النصح أو الالتماس في ارتداعه عن المنكر أو التزامه بالمعروف، بل لا بد أن يصدر باستعلاء وإعمال مولوية لا بأسلوب لين ناصح مشفق .


[3] المحكم، ج١، ص٢٦٠.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo