« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الفقه

46/04/19

بسم الله الرحمن الرحيم

 مما يشترط في صحة الإجارة// كتاب الإجارة

الموضوع: كتاب الإجارة // مما يشترط في صحة الإجارة

 

الجهة الثانية: رواية جابر للحلال والحرام:

قد ذكر الشيخ النجاشي (عليه الرحمة) في حق جابر بن يزيد الجعفيّ، قائلاً: (وقلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام)[1] .

بمعنى أنّ روايات جابر في الفروع قليلة، بخلاف غيره من الرواة الذين عرف عنهم كثرة من الروايات في مجال الفروع.

وهذا ما يقتضي التعليق عليه بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحدث النوري في كتاب[2] حيث قال:

أولاً: (فإن في كثير من أبواب الأحكام منه خبرا. وروى الصدوق في باب السبعين من الخصال عنه خبرا طويلا فيه سبعون حكما من أحكام النساء يصير بمنزلة سبعين حديثا.

وكتاب جعفر بن محمّد بن شريح أكثر أخباره عنه، وأغلبها في الأحكام، فلو جمع أحد أسانيد جابر في الأحكام لصار كتابا، فكيف يستقلّ هذا النقاد) أي الشيخ النجاشي (مروياته في الحلال والحرام) مع أنّها لا تقل عن ما رواه غيره من أواسط الرواة، فلماذا خصه بهذا التعبير (وقلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام).

وثانياً: (ومع الغضّ نقول: ليس هذا وهنا فيه، فإنّ القائمين بجمع الأحكام في عصره كان أكثر من أن يحصى، فلعلّه رأى أن جمع غيرها ممّا يتعلّق بالدين، كالمعارف والفضائل والمعاجز والأخلاق والساعة الصغرى والكبرى أهمّ، ونشرها ألزم) أو أنّ من قام بجمع الروايات وتدوينها رأى أنّ جمع ما ورد عن جابر في الأصول والفضائل والمعاجز والأخلاق أهم وألزم من جمع ما رواه جابر في الحلال والحرام (فكلّها من معالم الدين وشعب شريعة خاتم النبيين، كما أنّ قلّة ما ورد من زرارة وأضرابه في هذه المقامات) وهي الأصول والمعاجز والفضائل والأخلاق (لا تورث وهنا فيهم) فكذلك قلة ما ورد عن جابر في الحلال والحرام لا تورث وَهْنّاً (ولكلّ وجهة هو مولّيها).

أي عندما يذكر النجاشي عن جابر الجعفيّ: (وقلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام)، فلِم لا يذكر في أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وجميل الدراج "أنّهم قل ما ورد عنهم شيء في العقائد والأصول" فإذا لم تكن القلة في روايات الأصول وَهْنّاً فليست القلة في الفروع وهْنّاً.

وقد نحى منحى هذا الجواب سيدنا الخوئي (قدس سره)[3] ، حيث قال: (ثم إن النجاشي ذكر أنه قل ما يورد عنه شيء في الحلال و الحرام، وهذا منه غريب، فإن الروايات عنه) أي عن جابر الجعفيّ (في الكتب الأربعة كثيرة، رواها المشايخ).

وثالثاً: على فرض أنّ روايات جابر الجعفيّ في الفروع قليلة.

فإنّه يمكن توجيه ذلك: بأنّ هذا الأمر هو من توجيه الإمامين الباقر والصادق (صلوات الله عليهما).

فإنّ الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) كانوا يتعاملون مع أصحابهم معاملة التربية لا مجرد التعليم، وفرقٌ واضحٌ بين التعليم والتربية، ولذلك أعدوا كلّ واحدٍ لشأنٍ معين، فهم (عليهم السلام) الذين أعدوا مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهم لهذا الاختصاص، وأعدوا مثل هشام بن الحكم للحوارت الكلامية مع الفرق الأُخرى، وأعدوا مثل جابر بن يزيد الجعفيّ لرواية المقامات والفضائل وما ورد عنهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن) في الأصول.

وبالتالي لا يكون قلة ما ورد عن جابر الجعفيّ في الحلال والحرام سمة غمزٍ فيه.

مضافاً إلى أنّ طرق الأصحاب إلى رواياته كثيرة مما يظهر العناية بمروياته، فللشيخ الكليني (عليه الرحمة) تسعة عشر طريقاً إليه، وللصفار (رحمه الله) في البصائر تسعة طرق، وللبرقي (رحمه الله) خمسة طرق، وللصدوق (عليه الرحمة) في الأمالي والتوحيد وثواب الأعمال وعلل الشرائع ومعاني الأخبار وكمال الدين عشرة طرق.

وأكثر طرق الأصحاب إلى رواياته في الحلال والحرام مما يعني العناية بالكيف وإنْ كانت قليلة بحسب الكم.

الجهة الثالثة: تشبث الغلاة بجابر الجعفيّ

لا ريب أنّ جابر بن يزيد الجعفيّ اتخذه الغلاة رأساً وراية، وما مرّ جيل من الغلاة إلا وتشبثوا بما روي من أحاديث جابر، حتى العلوية والنصيرية والبابية، فما هو السر في ذلك؟

مع أنّ نسبة مضامين الغلو إليه جاءت من خلال الرواة الضعاف، لكن حيث إنّها وردت وبكثرة عن تلامذته المباشرين وهم: "عمرو بن شمر الذي كان ملازماً له وصار يصلي مكانه في مسجده بعد موته وروى عنه أحاديث كثيرة، والمفضل بن صالح، وعبدالله بن الحارث، أوجب ذلك أنْ يكون رمزاً لهذا الباب.

ثم نشأت عن هذه الطبقة المعروفة بالغلو في زمانها طبقةٌ أُخرى وهم: عبد الله بن القاسم، وعبدالله بن حماد، وبكر بن صالح، وفي هذه الطبقة تولدت فكرة البابية -فالبابية ظهرت منذ ذلك الوقت وتطورت إلى معاني بعد ذلك- وهي أنّ لكلّ معصوم باباً، فلرسول الله (صلى الله عليه وآله) باب وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولأمير المؤمنين (عليه السلام) باب وهو سلمان المحمدي، وللإمام الحسن (عليه السلام) باب، وللإمام الحسين (عليه السلام) باب، وكلّ إمامٍ له باب.

فكان جابر بن يزيد الجعفيّ عندهم باباً للإمام الباقر (عليه السلام)، كما ذكره أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي الثلج البغدادي (ت 322هـ) في[4] قال: (عليّ بن الحسين (عليه السّلام): بابه أبو خالد الكابليّ ويحيى بن امّ طويل، قتله الحجّاج بواسط.

محمّد بن عليّ (عليه السّلام): بابه جابر بن يزيد الجعفيّ.

جعفر بن محمّد (عليه السّلام): بابه المفضّل بن عمر.

موسى بن جعفر (عليه السّلام): بابه محمّد بن المفضّل.).

كما ذكر ابن شهرآشوب فكرة البابية -بما لها من المعنى المعهود في ذلك الوقت- في[5] فقال: (وبابه جابر بن يزيد الجعفي).

وكذلك ذكر في نفس المصدر[6] قال: (وبابه محمد بن سنان).

ثم تطورت فكرة الأبواب من كونه باباً لعلمه إلى كونه مستودعاً للأسرار، ثم تطورت الفكرة إلى أنّ الباب هو من يتجلى الله الخالق سبحانه فيه، كما ذكر الخصيبي -من خلفاء محمد بن نصير جاء بعده وتالياً له- في [الرسالة الرستباشية من الهداية الكبرى] أنّ جابر بن يزيد كان باباً للباقر (عليه السلام) وكان ممّن يتجلى الله فيه، مقتنصاً ذلك من رواياتٍ في مدح الأئمة (عليهم السلام) لجابر ومآثره وعجائبه، كما عقد الخصيبي بحثاً -في ضمن ما عقد في مناقب سائر الأبواب- حول جابر ومآثره، فروى عن مثل أبي الخطاب ومحمّد بن سنان ويونس بن ظبيان، ومحمّد بن صدقة العنبري البصري عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (إنَّما سمّي جابر -جابر- لأنَّه جبر المؤمنين بعلمه، وهو بحر لا ينزف، وهو الباب في دهره والحجَّة على الخلق، حجَّة أبي جعفر محمَّد بن علي)، أي أنّ الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) جعل حجة على الخلق وهو جابر.

وقد استفاد العلوية من ذلك، كما ذكره أبو سعيد الطبراني -وهو من أركان الغلاة- في[7] حيث قال: (الأعياد العربية عشرة أعياد، إنَّها يوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم الغدير، والسبعة عدد الأيام السبعة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ وعلا من جهة الأبواب).

وقال في السادس: (ومنها: اليوم (يوم الاثنين) الذي خاطب محمَّد الباقر منه السلام لجابر بن يزيد الجعفيّ، ووضع يده على صدره فوجد برد أنامله في ظهره، وقال: جابر حجّة الله في أرضه وسماواته على أهلها، وكان ذلك يوم الاثنين لسبعة خلون من شهر ذي الحجة).

وقال في التاسع منها: (ومنها اليوم الذي أمر الباقر منه السلام بالبيان لجابر بن يزيد الجعفيّ بالدعاء إلى الله جهراً فدعا، فأخذ فترك السندان المحمي على يده حتى حالت حمرته، ثم قتل، وكان ذلك اليوم يوم السبت لستة عشر يوماً خلون من ذي الحجَّة)، فهم يعتبرون كلا اليومين من الأعياد.

كما جعلوا جابر من الأبواب التي يتوسل بها، كما في[8] .

ونسب إلى جابر عندهم كتاب "الحجب والأنوار"، وكتاب "الهفت الشريف" المعبر عنه بالعربية بالأظلة والأشباح، وكلا هذين الكتابين عن المفضّل بن عمر عن جابر الجعفيّ.

وقد أشير لذلك في[9] حيث جاء فيه في الجهة الحادية والعشرين بعنوان [جابر والغلاة]: (ومن الكتب القديمة للغلاة -حسب ادعائهم- ما يؤْثر لديهم عن المفضّل بن عمر -وهو من طبقة تلامذة جابر تقريباً وروى عنه حسب أسانيدهم مكرراً- وقد تضمن غير واحد من الآثار المنسوبة إليه ذكر جابر والرواية عنه. ولنذكر مثالين منها: 1. كتب الحجب والأنوار ...).

إلى أنْ قال: (2. كتاب الهفت الشريف، أو الأظلة والأشباح.

وقد ذكر في مقدّمته أنَّ هذا الكتاب عن المفضّل بن عمر الجعفيّ، وهو أصل كل رواية باطنة عن أبي عبدالله (عليه السلام)، وأنَّ لفظ أوَّل الحديث عنه وعن آخرين ذكروا من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ... (وجابر الجعفيّ وكان قد رزقه جعفر العلم رزقاً).

وقد جاء في ضمن الكتاب: (قلت: يا مولاي يروى عن جابر عن الباقر في قوله: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ أنّ إسحاق هو الحسن، والحسين هو إسماعيل. قال الصادق: صدقوا بما قالوه فالحسين أعظم خطراً من الله أنْ يذبح ...)، ويتلو ذلك فقرة سأل فيها المفضّل عن (قصة الحسين كيف اشتبه على الناس قتله وذبحه، كما اشتبه على من كان قتلهم في قتل المسيح)).

مما يعني أنّ المسلمين اشتبهوا في ذبح الإمام الحسين (عليه السلام) كما اشتبه النصارى في نبي الله عيسى (عليه السلام) وأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يذبح؛ وإنّما رفع إلى السماء ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ﴾[10] .

وكذلك كتاب الكرسي والقلب عنهم عن جابر.

ولكن عند المراجعة للروايات التي وردت في كتبنا عن جابر بن يزيد الجعفيّ مما رواه من مقامات الأئمة الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم) وفضائلهم فإنّها ليست ظاهرة في الغلو الذي يعد انحرافاً وتجاوزاً للحد، فمثلاً:

الرواية الأُولى: أخرج الرازي في تفسيره بإسناده: (عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) محمّد بن علي: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[11] ، قال: (نحن الناس))

الرواية الثانية: ما جاء في البحار: (وروي أيضا عن علي بن عبد الله عن إبراهيم بن محمد عن إسماعيل بن يسار عن علي بن حفص عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ : ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾[12] قال: قال الله لجعلنا أظلتهم في الماء العذب لنفتنهم فيه وفتنتهم في علي (عليه السلام) وما فتنوا فيه وكفروا إلا بما نزل في ولايته)[13] .

الرواية الثالثة: ما جاء في البحار: (كنز: محمد بن العباس عن إبراهيم بن محمد الثقفي عن إسماعيل بن بشار عن علي بن الصقر الحضرمي عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ﴾[14] ، قال: الحسن والحسين (عليهما السلام)، قلت: (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) قال: يجعل لكم إماما تأتمون به.)[15] .

الرواية الرابعة: ما جاء في البحار: (كا: في الروضة عن علي بن محمد عن علي بن العباس عن علي بن حماد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في حديث طويل في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ﴾[16] قال: اقسم بقبر محمد (صلى الله عليه وآله) إذا قبض، (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ) بتفضيله أهل بيته، ﴿وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ﴾[17] يقول: ما يتكلم بفضل أهل بيته بهواه، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾[18] ).

إلى أنْ قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾[19] يقول: أضاءت الأرض بنور محمد (صلى الله عليه وآله) كما تضيئ الشمس، فضرب الله مثل محمد الشمس، ومثل الوصي القمر وهو قوله عن ذكره: ﴿جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾[20] )[21] .

الرواية الخامسة: ما رويّ عن جابر الجعفيّ عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تأويل عدة آيات في آل البيت (عليهم السلام) جمعها في رواية واحدة، في حديث طويل كما جاء في روضة الكافي: (علي بن محمد عن علي بن العباس عن علي بن حماد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)‌ في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾[22] ، قال: من تولى الأوصياء من آل محمد واتبع آثارهم فذاك يزيده ولاية من مضى من النبيين والمؤمنين الأولين حتى تصل إلى آدم (عليه السلام) ...) إلى آخر الرواية[23] .

الرواية السادسة: ما جاء في تفسير العياشي: (عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ﴾[24] قال لي: يا جابر، أتدري ما سبيل الله؟ قال: لا أعلم إلّا أنْ أسمعه منك، فقال: سبيل الله عليّ وذريته (عليهم السلام) ومن قتل في ولايتهم قتل في سبيل الله، ومن مات في ولايتهم مات في سبيل الله).[25] .

وأمثال تلك المضامين من الروايات الشريفة.

ومن الواضح أنّه ليس في هذه الروايات ما يعد غلواً وتجاوزاً للحد، كي يكون ذلك سبباً لكون جابر الجعفيّ رمزاً للغلاة.

نعم، بعضها -ممن رواه من طعن فيهم- لا تخلو من الإيحاء والإيهام والإشعار بما يستفيد منه الغلاة إذا أرادوا التأويل، ولذلك أصبح جابر حتى في نظر البابية والعلوية والإسماعيلية الباطنية رمزاً ورايةً يتمسك بالأحاديث الواردة عنه.

ولعله لذا أدرجه السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره)[26] في أرباب الاتجاه الباطني؛ باعتبار شهرته بين الغلاة.

وإنْ كان ذلك لا يوجب الطعن فيه؛ لأنّ هذا كله من مرويات تلامذته الذين طعن فيهم من قبل مشهور الإمامية، خصوصاً مع أنّ حدود الغلو لم تحسم في كلمات أصحاب الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) في تلك الفترة التي عاصروا فيها الأئمة.

ومما يؤكد أنّ قول السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في أصوله أنّ جابر من أرباب الاتجاه الباطني لا يريد به الطعن فيه، وإنّما يبين واقع الحال من اتخاذ الغلاة إياه رمزاً لهم، وأنّه لا يبني في تضعيفه لجابر على ذلك؛ هو ما ذكره[27] ، عندما تعرض لهذه الرواية كما في الوسائل: (وعن أبي علي الأشعري، عن محمّد بن سالم، عن أحمد ابن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخمر عشرة: غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها).[28] .

قال: (وهي ضعيفة بعمرو بن شمر، الذي ضُعِّف واتُّهم بالكذب) ولم يتعرض لجابر.

والنتيجة: أنّ الصحيح: هو وثاقة جابر الجعفيّ، لما مضى من صحيح زياد بن أبي الحلال التي قال فيها أبو عبدالله الصادق (عليه السلام): (رحم الله جابر الجعفي كان يصدق علينا).[29] ، وكونه من المعاريف الذين لم يرد في حقهم قدح سلوكي أو لساني، وإنّما القدح الوارد في حقه قدحٌ فكريّ، وهو محل كلام في نسبته إليه.

وأما موثقة زرارة التي قال فيها أبو عبدالله الصادق (عليه السلام): (ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة وما دخل علي قط).[30] فلا يبعد أنّها واردة على سبيل التقية حفاظاً على سمعة حواري أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) من تهمة الغلو والابتداع.

وذلك لعدة قرائن:

القرينة الأُولى: -ما سبق بيانه- من انقلاب العامة على جابر، بعد أنْ كانوا يروون عنه، ويأخذون بأحاديثه باعتبار أنّه أظهر الرفض والقول بالرجعة والغلو -بحسب نظرهم- حتى طلب رأسه هشام بن عبد الملك.

فكان مقتضى ذلك أنْ يظهر الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: (ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة وما دخل علي قط) نحواً من البراءة من المضامين المنسوبة لجابر في ذلك الجو المثار ضده من قبل العامة، حفاظاً على حواري أصحاب الأئمة من أنْ يؤخذوا بما أُخذ به جابر بن يزيد الجعفيّ.

القرينة الثانية: ما ورد من النهي عن إذاعة حديثه، كما جاء في الرواية الشريفة المعتبرة، كما في اختيار معرفة الرجال: (340- جبريل بن أحمد، حدثني محمد بن عيسى، عن عبد اللّه بن جبلة الكناني، عن ذريح المحاربي، قال: سألت أبا عبدالله (عليه السّلام) عن جابر الجعفي وما روى؟ فلم يجبني، وأظنه قال: سألته بجمع فلم يجبني، فسألته الثالثة؟ فقال لي: يا ذريح دع ذكر جابر فإن السفلة إذا سمعوا بأحاديثه شنعوا، أو قال: أذاعوا)[31] .

أي أنّ أحاديث جابر مما يستفيد منها الغلاة والمبتدعون بتأويلها لمعتقداتهم، كما يستفيد منها العامة في التشنيع علينا، فلذلك نهى عن رواية أحاديثه.

القرينة الثالثة: أنّ الإمام (عليه السلام) بعد أنْ نهى عن إذاعة أحاديثه، وقال (عليه السلام): لمثل زرارة الذي يعتني الأصحاب بنقله (ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة وما دخل علي قط)، ومع ذلك استمر الأصحاب في نقل أحاديث جابر الجعفيّ ورواياته، مما يعني أنّهم فهموا من الرواية صدورها على سبيل التقية، وليس على سبيل المراد الجدي.

القرينة الرابعة: ما جاء في الرواية كما في الكافي: (عليُّ بن محمّد، عن صالح بن أبي حمّاد، عن محمّد بن اُورمة، عن أحمد بن النضر، عن النعمان بن بشير قال: كنت مزاملاً لجابر بن يزيد الجعفيّ، فلمّا أن كنّا بالمدينة دخل على أبي جعفر (عليه السلام) فودَّعه وخرج من عنده، وهو مسرورٌ حتى وردنا الاُخيرجة -اسم موضع في طريق مكة إلى المدينة- يوم جمعة فصلّينا الزوال، فلمّا نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم معه كتابٌ، فناوله جابراً فتناوله فقبّله ووضعه على عينيه وإذا هو: من محمّد بن عليّ إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب، فقال له: متى عهدك بسيّدي؟ فقال: الساعة، فقال له: قبل الصّلاة أو بعد الصّلاة؟ فقال: بعد الصّلاة، ففكَّ الخاتم وأقبل يقرؤه ويقبض وجهه حتّى أتى على آخره، ثمَّ أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً حتّى وافى الكوفة، فلمّا وافينا الكوفة ليلاً بتُّ ليلتي، فلمّا أصبحت أتيته إعظاماً له فوجدته قد خرج عليَّ وفي عنقه كعابٌ، قد علّقها وقد ركب قصبة وهو يقول: (أجد منصور بن جمهور أميراً غير مأمور) وأبياتاً من نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً ولم أقل له وأقبلت أبكي لما رأيته واجتمع عليَّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتّى دخل الرحبة وأقبل يدور مع الصبيان والناس يقولون: جُنَّ جابر بن يزيد جُنّ، فوالله ما مضت الأيّام حتّى ورد كتاب هشام بن عبدالملك إلى واليه أن انظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفيّ فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه، فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من يزيد بن جابر الجعفيّ؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجَّ فجنَّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم، قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب، فقال: الحمدلله الذي عافاني من قتله، قال: ولم تمض الأيّام حتّى دخل منصور بن جمهور الكوفة وصنع ما كان يقول جابر).[32] .

وقد نقلت الرواية باختلافٍ يسيرٍ في بعض سندها، ومتنها في كتاب الإختصاص للشيخ المفيد (عليه الرحمة)، وذلك يفيد أنّه أُمر مِن قبل الإمام (عليه السلام) أنْ يظهر الجنون حفاظاً على حياته، كما يستفاد منها إخباره ببعض المغيبات استنادا لإخبار الإمام (عليه السلام).

وهي في كتاب الإختصاص كالتالي: (محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن البرقي، عن أحمد بن النضر الخزاز، عن النعمان بن بشير قال: زاملت جابر بن يزيد الجعفي إلى الحج فلما خرجنا إلى المدينة ذهب إلى أبي جعفر الباقر (عليهما السلام) فودعه ثم خرجنا فما زلنا حتى نزلنا الأخيرجة، فلما صلينا الأولى ورحلنا واستوينا في المحمل إذا دخل رجل طوال آدم شديد الأدمة ومعه كتاب طينه رطب من محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) إلى جابر بن يزيد الجعفي فتناوله جابر وأخذه وقبله، ثم قال: متى عهدك بسيدي قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ قال: بعد الصلاة الساعة، قال: ففك الكتاب وأقبل يقرأه و يقطب وجهه فما ضحك ولا تبسم حتى وافينا الكوفة وقد كان قبل ذلك يضحك ويتبسم ويحدث، فلما نزلنا الكوفة دخل البيت فأبطأ ساعة ثم خرج علينا قد علق الكتاب في عنقه وركب القصب ودار في أزقة الكوفة وهو يقول: منصور بن جمهور أمير غير مأمور، ونحو هذا من الكلام وأقبل يدور في أزقة الكوفة والناس يقولون: جن جابر جن جابر، فلما كان بعد ثلاثة أيام ورد كتاب هشام ابن عبد الملك على يوسف بن عثمان بأن انظر رجلاً من جعف يقال له: جابر بن يزيد فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه فلما قرأ يوسف بن عثمان الكتاب التفت إلى جلسائه فقال: من جابر بن يزيد؟ فقد أتاني من أمير المؤمنين يأمرني بضرب عنقه وأن أبعث إليه برأسه؟ فقالوا: أصلح الله الأمير هذا رجل علامة صاحب حديث وورع وزهد وأنه جن وخولط في عقله وها هو ذا في الرحبة يلعب مع الصبيان، فكتب إلى هشام بن عبد الملك: أنك كتبت إلي في أمر هذا الرجل الجعفي وأنه جن؟ فكتب إليه دعه، قال: فما مضت الأيام حتى جاء منصور بن جمهور فقتل يوسف بن عثمان فصنع ما صنع)[33] .


[1] رجال النجاشي، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ص128، رقم 332.
[2] خاتمة مستدرك الوسائل، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ج4، ص218-219.
[3] [كتاب معجم رجال الحديث، مؤسسة الإمام الخوئي الإسلامية، ج4، ص345.
[4] كتاب تاريخ أهل البيت، ابن أبي الثلج، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ج1، الفصل السابع، أبواب النبي (ص) والأئمة (ع)، ص147.
[5] كتاب مناقب آل أبي طالب، مؤسسة انتشارات علامه، ج4، باب إمامة أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فصل في أحواله وتاريخه، ص211.
[6] باب إمامة أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، فصل في تاريخه وأحواله، ص280.
[7] كتاب مجموع الأعياد، سلسلة التراث العلوي، ج3، ص230-231.
[8] كتاب المشيخة، سلسلة التراث العلوي، ج9، ص172.
[9] كتاب التابعي الكوفي جابر بن يزيد الجعفي، دراسة تحليلية في حياته وعلومه وكتبه واساتذنه وتلامذته في ضوء المدرستين، تأليف الشيخ محمد الجعفري، منشورات مجلة دراسات علمية، ص177-178.
[10] النساء، 157.
[11] النساء، 54.
[12] الجن، 16-17.
[13] بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، ج24، ص29، ح8.
[14] الحديد، 28.
[15] بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، ج23، ص319، ح31.
[16] النجم، 1.
[17] النجم، 2-3.
[18] النجم، 4.
[19] البقرة، 17.
[20] يونس، 5.
[21] بحار الأنوار، للعلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، ج23، ص321، ح38.
[22] الشورى، 23.
[23] الكافي، للشيخ الكليني، دار الكتب الإسلامية، ج8، ح574، ص397-381.
[24] آل عمران، 157.
[25] تفسير العياشي، ص202، ح159، من سورة آل عمران.
[26] كتاب بحوث في علم الأصول، ج4، ص285.
[27] كتاب بحوث في شرح العروة الوثقى، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر (قدس سره)، ج4، ص395.
[28] وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ج17، كتاب التجارة، أبواب ما يتكسب به، الباب55 باب تحريم بيع الخمر وشرائها وحملها والمساعدة على شربها، فإن باع تصدق بالثمن، ح4.
[29] اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي، ج2، ص436.
[30] اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي، ج2، ص436.
[31] اختيار معرفة الرجال، الشيخ الطوسي، ج2، ص439.
[32] الكافي، دار الكتب الإسلامية، ج1، كتاب الحجّة، باب أن الجن يأتيهم فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم، ص396، ح7.
[33] كتاب الإختصاص، للشيخ المفيد، دار المفيد، ج1، ص67.
logo