« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الفقه

46/04/12

بسم الله الرحمن الرحيم

 مما يشترط في صحة الإجارة// كتاب الإجارة

الموضوع: كتاب الإجارة // مما يشترط في صحة الإجارة

 

والحاصل من بيان سيدنا الخوئي (قدس سره):

أنّ المستفاد من الإرشاد إلى نفوذ العقد بصيغة الأمر بالوفاء في قوله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[1] أنّ المجعول هو الصحة المستتبعة للوفاء، لا الصحة لا بشرط، فإذا كان الوفاء بالعقد ممنوعاً شرعاً فلا دلالة للآية على صحة العقد، وإذا لم يكن هناك دليل على صحته فالمرجع أصالة الفساد.

وهنا إشكالات ثلاثة في هذا المطلب:

الإشكال الأول: ما ذكره بعض الأجلة (رحمه الله تعالى)[2] ، حيث قال: وفيه أولا: عدم اختصاص أدلّة الصحة بآية أوفوا بالعقود، فلو فرض سقوطها يكفي للصحة التمسك بآية التجارة عن تراض أو أحلّ الله البيع في خصوص البيع)

وتوضيح كلامه، هو: عدم اختصاص أدلّة النفوذ بآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ فإذا كانت آية ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قاصرة عن الشمول لما هو محل الكلام؛ لأنّ مفاد ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ الإرشاد إلى نفوذ العقد المستتبع للوفاء، وحيث إنّ الإجارة على المحرم ليس عقداً مستتبعاً للوفاء لحرمة الوفاء به، فلا شمول في الآية له.

لكن عدم شمول الآية له لا يعني عدم صحته لوجود عمومات أُخرى تدل على الصحة مطلقاً، ومنها قوله عزّ وجلّ: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[3] فإنّ مقتضى هذه الآية الشريفة أنّ المناط في الصحة التراض، فمتى كان العقد موقعاً للتراضي المعاملي بين الطرفين كان نافذاً، سواءً كانت المنفعة محرمة أم مباحة، وسواءً كان العمل محظوراً أم مباحاً كان نافذاً.

ولكن هذه المناقشة محل تأمل من جهتين:

الجهة الأُولى: أنّ هذه المناقشة إنّما تتم لو كانت الآية الشريفة وهي ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ في مقام بيان نفوذ المعاملة عند التراضي، فإنّ مقتضى إطلاقها نفوذ الإجارة المتعلقة بالحرام منفعةً أو عملاً لحصول التراضي.

لكن بعض الأجلة نفسه (رحمه الله تعالى)[4] ، أفاد أنّ الآية أجنبية عن ذلك.

والسر في ذلك: أنّ هذه الآية وهي قوله عزّ وجلّ: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ ليست في مقام بيان نفوذ المعاملة إطلاقاً؛ لأنّ التجارة ليست اسماً لنفس المعاملات والعقود، وإنّما التجارة بمعنى الاسترباح من خلال استخدام رأس المال وتداوله وتنمية المال، فإن عملية الاسترباح وتنمية المال يعبر عنها في العرف العربي بالتجارة.

وبما أنّ التجارة عنوان للاسترباح وتنمية المال وليست عنوانا للإجارة أو البيع أو المضاربة أو الشركة، فمفاد الآية الشريفة حينئذٍ ليس إلا بيان المشروعية، وهذا يجعل تمام النظر في الآية إلى سبب حلّية الربح الحاصل لدى الإنسان من أموال الآخرين حيث قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[5] أي أنّ أكل المال بسبب باطل غير مشروع، والاسترباح المنوط بالتراضي مشروع، فهي ليست في مقام بيان نفوذ المعاملة وضعاً كي يتمسك بإطلاقها في محل الكلام.

الجهة الثانية: سلمنا أنّ مفاد قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ بيانُ نفوذ المعاملات.

لكنه قد يدعى أنّ آية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[6] دالة على عدم الصحة، لا أنّه لا دلالة لها على الصحة، فيقع تنافي بين الآيتين.

وبيان ذلك:

قد يقال: إنّ مفاد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ مكون من مدلول مطابقي ومدلول التزامي.

أما المطابقي: فإنّ قوله ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ظاهر في أنّ العقد النافذ ما وجب الوفاء به؛ بقرينة صياغة النفوذ بالأمر، إذ كان بإمكانه أنْ يقول: "كل عقد نافذ"، لكنه صاغ بيان النفوذ بإسلوب الأمر وهو قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، فصياغة بيان النفوذ بإسلوب الأمر مع أنّ الأمر هنا ليس أمراً تكليفياً ظاهرٌ في أنّ المدلول المطابقي قضيةٌ شرطية، وهي العقد النافذ هو ما وجب الوفاء به.

وأما المدلول الالتزامي: فهو عكس النقيض، أي ما لم يجب الوفاء به فليس بنافذ؛ لأنّه إذا كان مفاد المدلول المطابقي قضية شرطية وهي العقد النافذ ما وجب الوفاء به، فالمدلول الالتزامي هو عكس النقيض وهو ما لم يجب الوفاء به فليس بنافذ.

كما إذا قال المولى: "العالم هو الذي يجب إكرامه"، فإنّ المدلول الالتزامي هو أنّ من لم يجب إكرامه فليس بعالم، والمفروض أنّ الإجارة على الحرام مما لا يجب الوفاء بها؛ لحرمة الوفاء، فليست بعقدٍ نافذٍ.

فمدلول ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ عدم الصحة، لا أنّها قاصرة عن إثبات الصحة، فتكون معارضة لمفاد قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[7]

أو فقل: لا منافاة بينهما؛ لأنّ قوله تبارك وتعالى: ﴿إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ مطلقة، وغاية مفادها أنّ نفوذ التجارة مشروطٌ بالتراضي، فلا تنافي اشتراط أمرٍ آخر وهو أنْ يكون العقد مما يجب الوفاء به، فتأمل.

المناقشة الثانية: قد ذكر سيدنا الخوئي (قدس سره الشريف)[8] ، أنّ قوله عزّ وجلّ: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ قاصرة الدلالة على صحة الإجارة المستتبعة للحرام؛ وذلك لأنّ مفاد ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ نفوذ العقد المستتبع للوفاء العملي وهو التسليم والتسلم، فالعقد الذي لا يستتبع الوفاء العملي به لحرمة الوفاء لا دلالة في الآية على نفوذه.

وهذا هو ظاهر قوله (قدس سره): (إنّ أدلّة صحّة العقود ووجوب الوفاء بها قاصرة عن الشمول للمقام، إذ لا يراد من صحّة العقد مجرّد الحكم بالملكيّة، بل التي تستتبع الوفاء ويترتّب عليها الأثر من التسليم والتسلّم الخارجي، فإذا كان الوفاء محرّماً والتسليم ممنوعاً فأيّ معنى بعد هذا للحكم بالصحّة؟! أفهل تعاقدا على أنّ المنفعة تتلف بنفسها من غير أن يستوفيها المستأجر، أم هل ترى جواز الحكم بملكيّة منفعة لابدّ من تفويتها وإعدامها وليس للمستأجر أن ينتفع بها؟!).

إلا أنّه (قدس سره)[9] ، أفاد بأنّ مدلول ﴿َوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ليس الأمر بالوفاء العملي وهو التسليم والتسلم؛ بل الأمر بالوفاء العقدي.

وبيان ذلك بذكر مقدمتين:

المقدمة الأُولى: إنّ متعلق الأمر في الآية المباركة وهي ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ الوفاء بالعقد، والوفاء بكل شيءٍ بمعنى عدم نقضه ورفع اليد عنه.

فإذا قلنا (في بعهدك) كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾[10] ، فمعنى الوفاء بالعهد أنْ لا تنقضه ولا ترفع اليد عنه.

وكذلك متعلق الأمر بالوفاء هنا الوفاء بالعقد، والوفاء بالعقد معناه عدم نقضه، لا الوفاء العملي وهو التسليم والتسلم؛ فإنّ تسليم العين إلى المستأجر وتسليم المستأجر الأُجرة إلى المؤجر أثرٌ من آثار الوفاء.

فكأنّه قال: "إذا تعاقد شخصان فليس لأيٍّ منهما رفع اليد عما تعاقدا عليه".

المقدمة الثانية: بما أنّ الأمر التكليفي بعدم نقض العقد غير محتمل بحسب المرتكزات، فالأمر بالوفاء العقدي ليس أمراً تكليفياً؛ بل هو إرشاد إلى لزوم العقد.

فكأنّه قال: "من أبرم عقداً فنقضه لا أثر له".

فالآية ليست في مقام بيان أنّ صحة العقد منوطة باستتباع الوفاء العملي فإذا حرم الوفاء العملي فلا دلالة في الآية على صحة العقد، وإنّما مفاد الآية المباركة أنّه إذا تعاقد الطرفان فنقض أحدهما مما لا أثر له، وهذا يعني أنّ العقد لازم، وأما عالم التسليم والتسلّم الخارجي فليس منظوراً في الآية.

وبالتالي يصح الاستدلال بالآية على نفوذ الإجارة على الحرام؛ لأنّ مفاد الآية أنّه إذا تعاقد الطرفان فنقض أحدهما لا أثر له، ومقتضى إطلاقها شمولها للمقام.

المناقشة الثالثة: ما ذكره سيدنا الخوئي (قدس سره) من التفصيل بين إجارة الأعيان وإجارة الأعمال.

ففي إجارة الأعمال الاستدلال تام؛ لأنّ ما ملكه المستأجر على الأجير نفس العمل، ولا يوجد واسطة بين ما ملكه وبين العمل كالغناء، وبما أنّه محرم فمن اللغو ملكية أمر يمتنع تسليمه لمالكه، بخلاف إجارة الأعيان حيث إنّ المملوك غير المحرم.

وهذا ما أفاده بعض الأجلة (رحمه الله)[11] ، حيث قال: (لو سلمنا ذلك فهذا لا يصح في إيجار الأعيان، لأنَّ ما هو المملوك الحيثية والقابلية الخاصة، وهي قابلة للوفاء من خلال دفع العين للمستأجر لكي ينتفع بها، وهذا ليس محرماً، وإنّما المحرم الانتفاع بالفعل الذي هو عمل المستأجر لا الأجير).

والحاصل: أنّ الآية الشريفة وهي ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ لا تشمل الإجارة على الأعمال؛ لأنّ مفاد الآية المباركة النفوذ المستتبع للوفاء بمعنى أداء المملوك، والمفروض أنّ أداء المملوك لمالكه حرامٌ، فالآية قاصرة الدلالة على صحته.

وأما في إجارة الأعيان فهناك واسطة بين ما مَلك وبين ما حَرُم؛ حيث إنّ في إجارة الأعيان ما ملك غير ما حرم.

فإذا آجر المالك سيارته لحمل الخمر إلى مكان معين، فإنّ ما ملكه المؤجر هو الأُجرة وما ملكه المستأجر قابلية السيارة للانتفاع، وما هو المحرم هو استيفاء المستأجر للعمل المحرم وهو حمل الخمر.

فهناك فرقٌ بين ما هو مملوك وبين ما هو المحرم، فإذا كان هناك فرق بين ما هو مملوك وبين ما هو المحرم فلا مانع حينئذٍ من أنْ يقال إنّ هذه الإجارة قابلة للوفاء؛ إذ غاية ما هناك أنّ المؤجر سيسلم السيارة للمستأجر، وأما العمل المحرم فهو من شؤون المستأجر نفسه.

فلا مانع من شمول الآية الشريفة للإجارة على الأعيان.

والشاهد على ترتب أثر على الملكية للمنفعة وإن حرم التسليم -ما سبق ذكره-، من أنّه لو غصب السيارة غاصب في وقت الإجارة ضمن للمستأجر قيمة ذلك.

ولكن في إجارة الأعمال، إذا أكرهه على عدم العمل، كما لو فرض أنّه استأجر الجارية للغناء وبعد الإجارة سيطر الظالم على الأجير فمنعه من العمل المستأجر عليه في مدة الإجارة، فإنّه لايضمن، وقد أفاد سيدنا الخوئي (قدس سره)[12] حيث قال: (لو أجبر حرّاً على عمل محرّم من كذب أو ضرب أو حمل الخمر ونحو ذلك، فإنّه لا يضمن هذه المنافع، إذ الحرام لا ماليّة له في شريعة الإسلام، فلا يكون الحرّ مالكاً لذاك العمل حتى يكون الغاصب ضامناً لما أتلفه).

ولكن السيد الحكيم السبط (قدس سره)[13] ، أفاد قائلاً: (ومن الغريب ما عن بعض مشايخنا (قدس سره) من أن من أجبر حرّاً على عمل محرم -من كذب أو ضرب أو حمل الخمر أو نحو ذلك- فإنه لا يضمن هذه المنافع، لأن الحرام لا مالية له في شريعة الإسلام، فلا يكون الحرّ مالكاً لذلك العمل، حتى يكون الغاصب ضامناً لما أتلفه.

إذ فيه: أنه مع فرض إجبار الحرّ على العمل المحرم تسقط حرمته في حقه، فلا موجب لسقوط حرمة جهد الذي استوفاه من أجبره عليه).

والسر في ذلك: أنّه إذا أكرهه على عمل محرم ارتفعت الحرمة وأصبح العمل مباحاً، لقول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): رفع عن أمتي تسعة أشياء... وما أكرهوا عليه[14] ، وإذا كان مباحاً فله ماليّة، ومقتضى أنّ له ماليّة أنّه مضمون.

ولكن يمكن أنْ يقال: بأنّ الإكراه إنّما يرفع الحرمة الفعلية بمعنى عدم استتباع الحرمة للعقوبة، لا أنّه يرفع اتصاف الفعل بالمفسدة، فإنّ ما هو المحرم ما كان في نفسه ذا مفسدة.

والإكراه غاية ما يرفع فعلية الحرمة، فيرتفع أثر الفعلية وهو استتباع العقوبة، لا أنّه يرفع اتصاف الفعل بالمفسدة اللزومية، ومقتضى اتصاف الفعل بالمفسدة اللزومية أنّه غير مضمون؛ لأنّ اتصافه بالمفسدة اللزومية يعني عدم الماليّة له شرعاً، فالشارع ألغى ماليته بتحريمه حرمةً ذاتية الكاشف عن مفسدته اللزومية.


[1] المائدة، 1.
[2] كتاب الإجارة، ج1، ص102.
[3] النساء، 29.
[4] كتاب مباحث عامة حول العقد، ص85.
[5] النساء، 29.
[6] المائدة، 1.
[7] النساء، 29.
[8] موسوعته، كتاب الإجارة، ج30، ص41.
[9] كتاب مصباح الفقاهة، ج4، ص27.
[10] الإسراء، 34.
[11] كتاب الإجارة، ج1، ص102.
[12] موسوعته، كتاب الإجارة، ج30، ص40.
[13] كتاب الإجارة، ص179.
[14] الوسائل، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ج15، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب56 باب جملة مما عفي عنه، ح1.
logo