« قائمة الدروس
الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الفقه

46/04/01

بسم الله الرحمن الرحيم

 شرطية القدرة على التسليم// كتاب الإجارة

الموضوع: كتاب الإجارة // شرطية القدرة على التسليم

 

اللحاظ الثاني: في الفرق بين متعلق الحكم والمعاملة من حيث الانحلال الحكمي.

حيث بنى سيدنا الخوئي (قدس سره) على تصوير الانحلال الحكمي في متعلق الحكم دون المعاملة، والانحلال الحكمي عبارة عن انحلال المعلوم بالإجمال بحسب الأثر العملي، وذلك بجريان الأصل العملي في أحد طرفي العلم الإجمالي من دون معارض. وهذا إنّما يتصور في متعلق الحكم لا في المعاملة.

وبيان ذلك: بالتفصيل بين قسمين:

    1. متعلق الحكم.

    2. موضوع الحكم.

القسم الأول: وهو انحلال المعلوم بالإجمال من جهة متعلق الحكم.

وله موردان: الأول: متعلق الأمر، والثاني: متعلق النهي.

المورد الأول: في الانحلال الحكمي في متعلق الأمر.

وتقريبه: أنّ المولى إذا أمر بالصلاة -مثلاً- ودار المأمور به وهو الصلاة بين الأقل والأكثر بأنْ لا يعلم هل أنّ الصلاة المأمور بها تسعة أجزاء، أم أنّ الصلاة المأمور بها عشرة أجزاء؟

مما يعني أنّ هنا علماً إجماليا بأنّ المأمور به إما الأكثر أو الأقل، فإذا جرت البراءة عن الأكثر من دون معارض انحل العلم الإجمالي؛ وذلك لأنّ البراءة عن الأقل منتفية إما لعدم الموضوع أو لمحذور اللغوية، فإنّه إذا تردد المأمور به بين عشرة وتسعة فالتسعة أمرٌ معلوم، ومجرى البراءة إما ذات الأقل أو حده الاستقلالي، وكلاهما ممنوع.

أما البراءة عن ذات الأقل فهي منتفية بانتفاء موضوعها؛ لأنّ موضوع البراءة الشك، والمفروض أنّ الأقل معلومٌ، وأما البراءة عن حد الأقل بأنْ يقال: حيث لا يعلم هل أنّ الصلاة عشرة أو تسعة فقط، فمجرى البراءة قيد الفقطية، فهو لغوٌ لا يترتب عليه أثرٌ عملي.

والسر في ذلك: أنّ المكلف حيث طُلب منه الصلاة فلا بُدّ أنْ يأتي بالأقل على كل حال، ولأجل ذلك لم يكن هناك ثمرة في جريان البراءة عن الحد الإستقلالي للأقل، وبما أنّ البراءة تجري في أحد الطرفين دون الآخر، أي أنّ البراءة تجري في طرف الأكثر دون طرف الأقل، لا عن ذات الأقل، ولا عن قيده، فحينئذٍ ينحل العلم الإجمالي حكماً؛ لجريان الأصل في أحد طرفيه بلا معارضٍ.

وببيان آخر ذكره سيدنا الخوئي (قدس سره)، ومحصله: أنّ متعلق الأمر دائر بين الإطلاق والتقييد؛ للشك في أنّ المأمور به الصلاة لا بشرط وهو الإطلاق، أو الصلاة بشرط العاشر وهو التقييد، فتجري البراءة عن التقييد ولا معنى لجريانها عن الإطلاق؛ لأنّ في التقييد مؤنة وكلفة، أما الإطلاق فهو مساوقٌ للترخيص وإرخاء العنان، وليس فيه ضيقٌ وكلفة كي يكون مجرى للبراءة، فإذا جرت البراءة عن التقييد دون معارضٍ للغوية جريانها عن الإطلاق انحل العلم الإجمالي.

المورد الثاني: متعلق الحكم التحريمي، وهو مما لا يتصور فيه الانحلال الحكمي.

مثلاً: إذا علم المكلف بحرمة الغناء، ولكن لا يعلم أنّ الغناء المحرم هو مطلق الكلام اللهوي أو خصوص الكلام اللهوي المناسب لمجالس الطرب. فهنا لا يتصور انحلالٌ كما في متعلق الأمر الوجوبي.

والسر في ذلك: أنّ مناط الانحلال هو جريان البراءة عن الأكثر، ولا معنى لجريان البراءة عن الأكثر في المقام؛ إذ الغرض من جريان البراءة عن الأكثر إما نفي تنجز الأكثر أو إثبات تعلق الحرمة بالأقل.

والأول ليست له ثمرة عملية؛ بلحاظ أنّ الكلام اللهوي المناسب لمجالس اللهو متيقن الحرمة، وبما أنّ القدر المتيقن من الغناء المحرم هو الأكثر، فلازم جريان البراءة عن الأكثر الترخيص في الغناء المناسب لمجالس اللهو، والترخيص فيه ترخيصٌ في المخالفة القطعية. والثاني وهو أنّ الغرض من جريان البراءة عن الأكثر إثبات تعلق الحرمة بالأقل فهو أصلٌ مثبت، إذ جريان البراءة عن تعلق الحرمة بالأكثر لا يثبت أنّ الحرام هو الأقل، يعني طبيعي الكلام اللهوي، فالبراءة لا تجري في المقام لا بغرض نفي تنجز الأكثر؛ لأنّه لغوٌ، ولا بغرض إثبات الحرمة للأقل؛ لأنّه أصلٌ مثبت.

وحيث لا تجري البراءة في المقام، فالعلم الإجمالي بأنّ متعلق الحرمة إما الكلام اللهوي أو الكلام المناسب لمجالس الطرب غير منحل ومقتضى قاعدة الاشتغال الاجتناب.

القسم الثاني: وهو تصوير الانحلال في موضوع الحكم -لا في تعلق الحكم-:

وموضوع الحكم قد يكون من قسم المعاملات، وقد لا يكون من قسم المعاملات.

فهنا مثالان: المثال الأول: -وهو باب المعاملات-: كما إذا شُك في أنّ البيع النافذ شرعاً هل هو البيع بشرط التقاول اللفظي أم يكفي أيّ مبرز ولو كان إشارة؟ وحيث إن نسبة البيع للنفوذ نسبة الموضوع للحكم، فموضوع النفوذ مردد بين الأقل والأكثر.

المثال الثاني: كما لو شك في موضوع الخُمس -مثلاً- هل أنّ موضوع ثبوت الخمس مطلق الهدية أو الهدية التي لها خطر؟

فهذا من الدوران بين الأقل والأكثر في موضوع الحكم وإنْ كان في غير باب المعاملات.

وقد أفاد جملة من الأعلام ومنهم سيدنا الخوئي (قدس سره) أنّه لا معنى للانحلال في المقام، كما قيل به في متعلق الأمر الوجوبي.

والسر في ذلك: أنّ المراد بجريان البراءة عن الأكثر إما نفي ثبوت الخُمس ظاهراً أو إثبات تعلق الخُمس بالأقل؟

فإنْ كان المنظور من جريان البراءة عن الأكثر هو نفي تعلق الخُمس بالهدية ذات الخطر، فهذا ترخيصٌ في المخالفة القطعية؛ لأنّ القدر المتيقن من ثبوت الخُمس هو ذلك، فكيف ينفى بالبراءة؟

وإنْ كان المنظور في البراءة عن الأكثر ليس النفي وإنّما الإثبات، يعني إثبات تعلق الخُمس بطبيعي الفائدة، فهذا من الأصل المثبت.

ونفس هذا البيان يأتي في المعاملة، فإنّه إذا دار أمر البيع النافذ بين البيع بقيد المقاولة اللفظية أو طبيعي البيع، فلا معنى لجريان البراءة في المقام؛ لأنّه إنْ كان المقصود بالبراءة نفي نفوذ البيع الخاص وهو البيع ذو المقاولة اللفظية فهذا هو القدر المتيقن من البيع النافذ فلا معنى لنفي نفوذه بالبراءة.

وإنْ كان المقصود إثبات أنّ موضوع النفوذ هو طبيعي البيع، فهذا من الأصل المثبت.

فتحصل بذلك: أنّه لا يتصور انحلالٌ في باب المعاملات؛ فإنّ مجرى البراءة إما الأكثر وهو نفي لما هو القدر المتيقن أو إثبات الأقل وهو أصلٌ مثبت.

هذا بالنسبة إلى التعليقة الثانية في كلمات سيدنا الخوئي (قدس سره) عند مناقشته للمحقق الايرواني (قدس سره) الذي ذهب إلى إمكان جريان البراءة في المعاملات.

التعليقة الثالثة: لو سلمنا جريان البراءة في نفسه، في باب المعاملات، فهل يكون للبراءة عن الشرطية أو المانعية حكومة على أصالة الفساد أم لا؟

حيث أفاد المحقق الشيخ علي الايرواني (قدس سره) بأنّ جريان البراءة عن الشرطية حاكمٌ على جريان أصالة الفساد.

فإنّه إذا شُك في أنّ البيع نافذٌ بدون المقاولة اللفظية أو ليس بنافذ، فالشك في النفوذ مُسببٌ عن الشك في أنّ المقاولة اللفظية شرطٌ أو ليست بشرط، فبما أنّ الشك في النفوذ مُسببٌ عن الشك في الشرطية فجريان البراءة عن الشرطية أصلٌ سببي وأصالة الفساد أصلٌ مسببي والأصل السببي حاكمٌ على الأصل المسببي، فالبراءة عن الشرطية حاكمٌ على أصالة الفساد، أي استصحاب عدم نفوذ البيع الخالي من المقاولة اللفظية.

ولكن لا حكومة في المقام.

والسر في ذلك: أنّ موضوع الأثر لو كان مركباً من المعاملة وثبوت القيد لكفانا في نفي اعتبار الجزء الثاني جريان البراءة.

ولكن موضوع النفوذ هو الإطلاق، أي إذا دار الأمر في أنّ البيع النافذ هل هو البيع بشرط المقاولة اللفظية أم لا؟ فقد وقع التردد في أنّ موضوع النفوذ هل هو التقييد أو الإطلاق؟

ومن الواضح أنّ جريان البراءة عن التقيد لا يثبت أنّ الإطلاق هو موضوع النفوذ؛ لأنّ البراءة أصلٌ عملي وليست أمارة كي تكون مثبتاً للوازمها، فيقال لازم نفي التقيد ثبوت الإطلاق، فجريان البراءة عن تقيد المعاوضة بيعاً أو إجارة بالمقاولة اللفظية لا يثبت أنّ موضوع النفوذ هو الإطلاق.

وبالتالي فلا معنى لدعوى حكومة أصالة البراءة على استصحاب عدم النفوذ؛ لأنّ الحكومة فرع كون البراءة عن التقيد مثبتة للإطلاق، وإذا ثبت أنّ موضوع النفوذ هو الإطلاق فلا معنى لاستصحاب عدم النفوذ.

وأما إذا كانت البراءة عن التقيد لا تثبت الإطلاق، فلا موضوع لحكومة البراءة على استصحاب عدم النفوذ من باب حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي.

logo