الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الفقه
45/10/22
بسم الله الرحمن الرحيم
/شروط صحة العقد /
الموضوع: /شروط صحة العقد /
الوجه الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) وتقريبه:
أنّه إنْ لم نقل بلزوم تعيين العوضين فلا بُدَّ من استثناء ذلك في صورة واحدة، وهي ما إذا كان أحد العوضين كلياً ذمياً فإنّه حينئذ لا بُدَّ مِن تعيينه من خلال تعيين صاحب الذمة، حيث يعتبر في العوضين المالية، والكلي ما لم يضف لذمة شخص معين لم يكن مالاً، فمرجع اعتبار تعيين صاحب الذمة إلى تحقيق المعاوضة بين المالين.
ونظير ذلك ما ذكره السيد الحكيم (قدس سره) [1] ، وما ذكره سيدنا الخوئي (قدس سره) في مصباح الفقاهة كما مضى نقله، من أنّ الذمم تختلف مِن حيث الوثاقة وعدمها، الموجب لاختلاف العوضين مِن حيث المالية، فإضافة الكلي إلى ذمة شخصٍ لا يوثق بأدائه تختلف عن إضافة الكلي إلى ذمة شخص يوثق بأدائه، كما أنّ إضافة الكلي إلى ذمة معينة تتحمل المال الكلي مع خطره تختلف عن ذمةٍ لا طاقة لها بذلك، ونتيجة اختلاف الذمم اختلاف المالية، واختلاف المالية يعني اختلاف العوض.
ويلاحظ على ما ذكر:
نعم، إنّ وجود المال الذمي لا يكون إلا بإضافة الكلي إلى ذمة مالك، وإلا فالكلي بلا إضافة ليس إلا مفهوماً مِن المفاهيم لا هو مالٌ خارجي ولا مالٌ ذمي، لكن لا يشترط في تحقيق مالية الكلي أنْ يضاف إلى ذمةٍ شخصيةٍ معينة وإلا لم يكتسب المالية، بل الكلي قد يكتسب المالية بالإضافة إلى ذمة مجموعة أفراد كأنْ يقال: (بعتُكَ ما في ذمة أبناء فلان) أو (بعتُكَ مالي في ذمة مجموع البنوك الفرنسية)، أو بالإضافة إلى ذمة أحدهم بأنْ يقول: (بعتُكَ مالي في ذمة أحد بني فلان، أو أحد الشركاء في البنك الفلاني – مثلاً -)، ويكفي في تحقيق ماليته كون الدائرة منحصرةً في مجموعة لكل منهم القدرة على تحمل المال الذمي وأداءه، فالمالية تتحقق وإنْ لم يتحقق تعيين الشخص المضاف إلى ذمته بعينه، سواء كانت هذه الذمة محفوظة في رتبة سابقة كما إذا كان له دَين في رتبة سابقة على البيع ثم باع دَينه فقال: (بعتُك ما في ذمة فلان)، أو كان إيجادُ الدَين بنفس البيع كما لوقال: (بعتُكَ سهماً في ذمة البنك الفلاني أو الشركة الفلانية) إذا كان البنك متعهدا بتحمل ذلك، فإنّه لا فرق بينهما من جهة المالية لإضافة الكلي إلى ذمة من كان قادراً على أداءِ المال، ولا يتوقف ذلك على تعيينه بشخصه.
وقد ظهر أنّ حقيقة المعاوضة لا تقتضي تعيين العوضين تفصيلاً - مع أنّ العوضين ركن في المعاوضة -؛ كما تبين أن اعتبار المالية في صحة المعاوضة أو اعتبار عدم الغرر في صحتها لا يعني ضرورة التعيين، بل يكفي في ذلك تعيين العوضين بنحوٍ يرتفع به الخطر والغرر.
الأمر الثاني: هل يلزم تعيين المالكين في المعاوضة أم لا؟
حيث وقع البحث في صحة قول الوكيل: (بعتُكَ صاعاً مِن إحدى الصبرتين لأحد المالكين) حيث لم يعين مَن هو مالك المَبيع، أوقال: (بعتُ صاعاً مِن إحدى الصبرتين لأحد المالكين على أحد الرجلين) حيث لم يعين مَن هو مالكُ المَبيع ومَن هو مالك الثمن؛ وإنّما عنوان الأحد هو المنظور إليه في جهة المُعَوض والعوض، أو قال: (بعتُ سيارة مَنْ أعينه بالقرعة) وإنْ لم يكن معيناً رتبةٍ سابقة، فهل يصحُ ذلك في المعاوضة البيعية أو الإيجارية أم لا؟
قد يستدل على البطلان بأحد وجوه:
الأول: أنّ التمليك للعنوان الذي ليس له مصداق متعين واقعاً حين التمليك كأنْ يقول: (ملكْتُ السيارة الكذائية من أُعينه بالقرعة أو أحد طلاب المدرسة) مستلزم للملك بلا مالك، أو التعليق المبطل.
وبيان ذلك: أنّ التمليك للعنوان الإجمالي إما فعلي أو في ظرف تعيينه بالقرعة أو بالولاية، فإنْ كان الأول لزم الملك بلا مالك، حيث خرجت السيارة عن ملك البائع ولم تدخل في ملك شخص معين.
وإنْ كان الثاني لزم منه التعليق، أي تعليق ملكية السيارة على فرض تعيينه.
الثاني: أنّ قول الموجب (بعتُ سيارة من أُعينه بالقرعة أو السيارة الفلانية لمن أُعينه بالقرعة) إما ناظر لمن هو معين في الواقع، ولازمه الجهالة الغررية للطرف الآخر، أو من لا تعين له واقعاً ولازمه انتفاء المعاوضة لعدم المبادلة بين المالين في جهة الإضافة - الملكية أو الوقفية - حيث تتوقف المبادلة على وجود ملكين أو حقين في الخارج تقع المبادلة بينهما.
ولكن قد يجاب عما مضى: بأنّه مضافاً إلى أنّ مانعية التعليق والغرر لا تشمل فرض التعليق على حين تعيين المالك، والجهالة في المالك دون العوضين، أنّ التمليك فعلي لا تعليق فيه أصلاً، أي أنّ التمليك مِن قِبَلِ مالك المَبيع للمشتري تمليكٌ بالفعل، لا أنّه تمليكٌ على فرض حصول التعيين بالقرعة، وأنّ المالك الموصوف بكونه معيناً بالقرعة معين واقعاً، فإنّ ظهور القرعة باسم أحدهم أمرٌ معلومٌ في علم الله وليس فرداً مردداً، وإنّما التعيين كاشف عمن هو مالك مِن حين العقد.
وأما الجهالة، فإنّما تكون مبطلةً للبيع إذا كانت جهالةً تقودُ إلى الغرر والخطر المالي، وحيث إنّ آثار المعاملة من التسليم والتسلم وحق التصرف لا فعلية لها إلا بعد تعيين المالك، فلا يؤدي مثل هذه الجهالة التي ترتفع بالتعيين بالقرعة للخطر والغرر الماليين كي يكون ذلك مانعاً مِن صحة العقد.
الثالث: أن يُقال: إنّ عنوان "أحد الرجلين" أو عنوان "مَن تعينه القرعة" إما شخصية حقوقية مثل: عنوان (الجمعية الخيرية)، وعنوان (البنك أو المؤسسة )، وإما شخصية حقيقية وهو إنسانٌ موجودٌ متعين خارجاً، وإما مجرد عنوان انتزاعي لا شخصية حقوقية ولا حقيقية.
وفي التمليك عن الجميع أو لهم إشكالٌ.
أما الأول: وهو أنها شخصية حقوقية.
فيرد عليه: أنّ هذا فرعُ اعتبار العقلاء لمثل هذه الشخصية، فإنّ الشخصية الحقوقية هي الشخصية التي يبني العقلاء أو المشرع على صحة التعامل معها لكونها جهة نافعة مضمونة، ولا شاهد على أنّ عنوان "أحد الرجلين" أو عنوان "مَن تعينه القرعة" كذلك كي يكون التعامل معها مندرجاً تحت عمومات النفوذ والوفاء.
وأما الثاني: وهو أنّها شخصية حقيقية.
فالمفروض أنّ المالك لا تعين له حين العقد؛ وإنّما سيتعين بالقرعة، فكيف يكون شخصيةً حقيقية ولا مصداق له بالفعل؟
وأما الثالث: وهو العنوان الانتزاعي.
فالتمليك للعنوان الانتزاعي أو التمليك عن العنوان الانتزاعي لغوٌ؛ لأنّ العقد بمجرد فعليته موضوعٌ لوجوب الوفاء، كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[2] ، والعنوان الانتزاعي ليس قابلاً لتحمل الأحكام التكليفية والآثار الوضعية مِن وجوب الوفاء ووجوب التسليم والضمان على فرض التلف.
والجواب عن ذلك:
أولاً: يمكن اختيار أنّه شخصية حقيقية ولا يرد محذور.
والسر في ذلك: أنّه متعين في علم الله، فإنّ مَن تخرج القرعة باسمه معلومٌ معينٌ عند الله تبارك وتعالى، لوجود مصداقٍ متعينٍ له خارجاً، والتعيين كاشف عن تملكه الثمن أو المُثمن مِن حين العقد، ومحذورُ الجهالة قد سبق بيان عدم مانعيته.
وثانياً: يمكن اختيار أنّه العنوان الانتزاعي، غايته أنّه إنْ لم يكن مشيراً لدائرة معينة، كأنْ يقول: (بعتُكَ سيارة رجل، أو بعتُ السيارة رجلاً) كان لغواً؛ لانتفاء مَن يتحمل آثار العقد، وإنْ كان مشيراً لمَنشأ الانتزاع المنحصر خارجاً في دائرةٍ معينة، فلا يرد إشكال اللغوية؛ كما أفيد بذلك في العقد الفضولي، فإنّ العقد الفضولي لا يجب الوفاء به بمجرد وقوعه؛ وإنّما يُنتظر فيه الإجازة، فإذا أجازَ المالك العقد ترتبت الأحكام التكليفية، وعلى القول بكون الإجازة كاشفة بالكشف الانقلابي فإنّها تكشف عن ترتب الآثار الوضعية من حين العقد، فبين تحقق العقد وترتب الآثار قد تفصل شهور أو سنة حيث لا تترتب عليه الآثار إلا عند إجازة المالك.
والسر في ذلك: أنّ وجوب الوفاء بالعقد على أي شخصٍ فرعُ انتساب العقد إليه، وانتساب العقد له متقوم بإجازته له، فكذلك المقام فإنّ العقد هنا عقدٌ صدر مِن الوكيل المفوض ولا تترتب عليه الآثار التكليفية إلا حين انتسابه للمالكين الحاصل ذلك بتعيين مَن هو المالك بواسطة القرعة، فإذا عينه بالقرعة انكشف ترتب الآثار الوضعية من حين العقد، ولا محذور في ذلك.
فتبين بما ذكر أنّه لا يلزم تعيين المالكين تفصيلاً؛ بل يكفي التعيين الإجمالي بالمقدار الرافع لخطرٍ أو غرر.
الأمر الثالث: إنّ التطابق بين الإيجاب والقبول دخيلٌ في فعلية الرضا بالمعاملة وتنفيذها لا بحقيقتها.
والسر في ذلك: أنّه إذا لم يكن تعيين المتعاملين دخيلاً في صدق المعاقدة كما مر البرهان عليه، فكيف يكون الاختلاف في تعيين المتعاملين مانعاً مِن صدق المعاقدة؟ كما ذهب إليه المحقق الأصفهاني (قدس سره الشريف).
فلو عين البائع – مثلاً - مَن هو المشتري فلم يقبل وقبله شخص غيره، أو عين المشتري مَن هو البائع فباعه غيره، فلا يكون ذلك مانعاً مِن صدق المعاقدة.
وإنّما التطابق بين الإيجاب والقبول في تعيين المتعاملين ولو إجمالاً مما أُنيط به الرضا بالمعاملة وتنفيذها وترتيب الآثار عليها، فلو اختلف المتبايعان في تعيين المشتري أو تعيين البائع كانت المعاملة بمثابة المعاملة الفضولية التي تتوقف على رضا البائع بِمَن قَبِلَ بيعَه دون مَن أرادَ تمليكَهُ، أو رضا المشتري بمَن تصدى لبيعه دون مَن عينه كونه بائعاً.
الأمر الرابع: إنّ هناك فرقاً بين مقام الثبوت ومقام الإثبات، فبحسب مقام الثبوت لا ملازمة بين صدق العقد في باب المعاوضات وتعيين المالكين، كما لا ملازمة كبروية بين صدق العقد والتطابق بين الإيجاب والقبول في خصوصية المتعاملين؛ لعدم اقتضاء الغرض النوعي من المعاوضة له من دون فرق بين العوضين الشخصيين والكلي الذمي، بخلاف باب النكاح والوصية والوقف والهبة حيث إنّ الغرض النوعي فيها متقومٌ بشخص المتعاملين الذي يقتضي تعيينهما بنحوٍ مُحَققٍ للغرض، وإن لم يكن تعييناً تفصيلياً.
وأما بحسب مقام الإثبات، فإنّ الأغراض الشخصية للمتعاملين قد تقتضي التعيين والتنصيص عليهما حتى في المالين الشخصيين، كما قد يتعلق الغرض الشخصي بالتطابق بين الطرفين في خصوصية المتعاملين، ويترتب على ذلك أنّه لو عين أحدهما من يتعامل معه، كما لو قال البائع للمخاطب: (بعتُك أنت) فقال ثالثٌ: (قبلتُ البيع)، فتارةً يكون التعيين على نحو التطبيق، وتارةً يكون على نحو التقييد.
فإنْ كان التعيين على نحو التطبيق فلا ضرر في عدم التطابق، أي أنّ المالك عندما قال: (بعتُ البضاعة منك) وكان قاصداً (بعتُ البضاعة ممن هو مالكٌ للثمن أو المتحمل لأدائه) وطبقه على المخاطب خطأً في اللفظ أو اعتقاداً منه أنّه المالك للثمن أو لأنّه وكيل المالك، فهذا مجرد تطبيق، فإذا قال الثالث: (قبلتُ البيعَ) لأنّ الثالث هو المالك للثمن أو المتحمل لأدائه، لم يضر ذلك بصدق المعاقدة، إذ غايته أنّه مِن باب الخطأ في التطبيق.
وإنْ كان التعيين على نحو التقييد، كما لو قال المالك: (بعتُكَ أنت) على نحو التقييد لا على نحو الخطأ في التطبيق فلم يقبل، فقال الثالث: (قبلتُ البيع)، فحينئذٍ لا يمكن ترتيب الأثر على هذه المعاملة إلا إذا رضيّ البائع بكون الثالث شريكه أو طرفه في المعاملة، بأنْ يتنازل عن القيد الذي أخذه في تحديد مَن يتعامل معه، وتكون المعاملة كالمعاملة الفضولية التي تتوقف على الرضا بهذا الطرف الجديد.
وحيث تبين الفرق بين مقام الثبوت ومقام الإثبات، فالبحث في أنّ قول البائع: (بعتُكَ أنت)، هل هو ظاهرٌ في التقييد أو هو ظاهرٌ في التطبيق؟ وما هي القرينة على أحدهما؟
بحث إثباتي، فلو قامت القرينة على أنّ قوله: (بعتُكَ أنت) ظاهرٌ في التقييد وقَبِلَ الثالث، فحيث إنّ البائع أناطَ رضاه بكون المشتري هو المخاطب فلا يتم ترتيب الآثار حتى يتنازل عنه.
هذا تمام الكلام في شروط العقد.