< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/08/03

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /شرایط العقد و أرکانه /

 

الشرط الثالث - مما يعتبر في العقد سواء كان بيعاً أم إجارةً -: هو تقدم الإيجاب على القبول.

وهذه المسألة محل الابتلاء في زماننا هذا، حيث إن كثيراً من التجار وشركات الاستيراد المتنافسة على البضائع والسلع والأجهزة المرغوبة تقدم على شراء البضاعة من الشركة المصنعة أو المصدرة قبل عرضها للبيع، وتتنافس بما تبذله من أثمان في سبيل تملك البضاعة قبل غيرها، لا بعنوان المساومة ولا عن طريق دفع العربون؛ بل عن طريق إنجاز صفقة الشراء، فلو تقدم التاجر إلى الشركة قبل غيره وقال: (أنا أشتري منكم البضاعة التي ستعرض للبيع في الموسم أوالسوق) واستجابت الشركة في الوقت المحدد وبعثت البضاعة باسمه، فهل يمكن تصحيح هذه المعاملة وإن تقدم فيها القبول على الإيجاب؟

قد استدل على اعتبار تقدم الإيجاب على القبول بأحد وجوه:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره[1] بقوله: إن هناك فرقاً بين العقود الإذنية والعهدية، فالأولى كالوديعة والعارية والوكالة، (أمّا العقود الإذنيّة فيجوز تقديم القبول فيها على الإيجاب، كان بلفظ ((قبلت)) أو غيره؛ لأن المدار فيها ليس إلّا الرضا في التصرّف والحفظ، فإذا استدعى الوكيل الاستنابة في التصرّف وأظهر الموكّل الرضا بها كفى لتحقّق هذا العنوان) أي عنوان الوكالة والعارية، (والسرّ في ذلك: أنّه ليس في العقود الإذنية إلزام و التزام، وإنشاء ومطاوعة، بل نيابة، وتسميتها عقداً مسامحة، ومنشؤها ليس إلّا كونها بين الطرفين فيتحقّق بكلّ ما يظهر هذا العنوان، أي النيابة في التصرّف والحفظ) فمضمونها النيابة في الحفظ أو الإذن في التصرف، (وأما في غير العقود الإذنيّة) أي في العقود العهدية (فسواء أكان قبوله منحصراً بلفظ ((قبلت)) أم لم يكن منحصراً به ولكنّه أنشأه بهذا اللفظ و نحوه فلا يجوز تقديمه) أي القبول فيها (على الإيجاب؛ لأنّه) القبول (ظاهر في مطاوعة شيءٍ وإنفاذ أمرٍ أوجده غيره، وهذا المعنى بحيث يكون جزءاً من العقد ولا يكون إيقاعاً يتفرّع على وقوع إيجادٍ من الآخر، كتفرّع الانكسار على الكسر) وهذا بخلاف الإيجاب (فإن مفهوم الإيجاب هو تمليك مالٍ بعوض، وهذا يمكن إنشاؤه في عالم الاعتبار ولو لم يتحقّق قبول أصلاً، وما يتوقّف على القبول هو تأثيره.

وأمّا مفهوم القبول فلا يمكن إنشاء النقل به اعتباراً أيضاً) قبل الإيجاب (فإنّ مطاوعة الأمر المتأخّر فعلاً يمتنع عقلاً، وليس مفهومه مجرّد الرضا بشيءٍ حتّى يقال: إنّ الرضا بأمرٍ ليس تابعاً لتحقّق ذلك الأمر في الخارج، ولا تابعاً لرضا من يوجد ذلك الأمر، بل المراد منه ما هو ركن في العقد ومطاوعة لما أوجده البائع، فلا يمكن أن يكون مقدّماً) وكون الإنشاء خفيف المؤنة لا يجدي في المقام لتقوم مفهوم القبول بالمطاوعة المتوقف على صدور الإيجاب، من غير فرق بين العقود المعاوضية وغيرها (كالهبة والرهن أيضاً لا بدّ أن يكون متأخراً ولو كان بغير لفظ ((قبلت)) كاتهبت وارتهنت؛ لأنّه لو قدّم لا يكون إنفاذاً لما أوجده غيره، ولا يتضمن نقلاً حتّى يمكن تقديمه بالهيئة الواردة على المادّة المناسبة لهذا الباب. بل التحقيق أنّه لا يجوز تقديم القبول في باب المعوضات أيضاً ولو بالهيئة الواردة على المادة المناسبة لكل باب كاشتريت واستأجرت وتزوّجت ونحو ذلك، فإنها وإن لم تتضمن المطاوعة – لأن صيغة التفعّل والافتعال والاستفعال ونحو ذلك ليست كصيغة الانفعال ومادّة القبول متضمّنة للمطاوعة دائماً، بل إذا تأخّرت عن الإيجاب – إلّا أنّها من جهة خروجها عن الإيقاع وصيرورتها جزءاً من العقد لا بدّ أن تكون متأخّرة، فأنّ قوله ((اشتريت)) لو لم يكن قبولاً للشراء لا يرتبط بقول البائع: بعت، وعدم توقّف مفهومه على بعت وإن كان مسلّماً إلّا أنّ تقديمه يوجب عدم ارتباطه بالبيع، فإنّه لو لم يتضمّن المطاوعة فلا بدّ أن يكون متأخراً).

وحاصله: أن القبول متقوم بالمطاوعة - بغض النظر عن لفظ قبلت -؛ باعتبار أن مفهوم القبول عبارة عن مطاوعة الإيجاب، وبالتالي فتقدم القبول على الإيجاب أو مقارنته له خلف كونه متقوماً بالمطاوعة.

ولكن يلاحظ على هذا الوجه: أن مَنشأ اشتراط المطاوعة في مفهوم القبول أحد أمرين:

أحدهما : أن عنوان القبول متقوم بسبق شيء يكون هو مطاوعاً له، وفيه أنه لم يقم ارتكاز عقلائي على تقوم العقد بعنوان القبول ولم يؤخذ في دليل من أدلة إمضاء العقود عنوان القبول؛ وإنما هو اصطلاح تعارف بين الفقهاء وهو أنّ العقد مركبٌ من إيجابٍ وقبول، لا أن عنوان القبول أخذ ركناً أو شرطاً في صدق عنوان العقد أو صحته كي يدور الصدق مدار هذا العنوان بلحاظ أنه متقوم بحيثية المطاوعة.

ثانيهما: أن مَنشأ اشتراط المطاوعة هو أنّ المعتبر في العقد تطابق القبول والإيجاب من حيث المتعلق، ولأجل اعتبار التطابق بينهما كان القبول مطاوعاً للإيجاب؛ لتعلقه بما تعلق به الإيجاب.

وفيه: أن هذا لا يقتضي أكثر من تطابقهما واقعاً بحسب المتعلق، لا أنه يقتضي تأخر حدوث القبول عن الإيجاب، إذ بإمكان المشتري في مقام إنشاء القبول أن يقول للبائع: (أشتري منك البضاعة الكذائية التي ستعرضها بالشروط التي أنت تراها) فيقولُ البائع: (بعتُك البضاعة الكذائية المعينة بالشروط المنظورة) ويقع التطابق بينهما وإن كان القبول متقدماً على الإيجاب.

فاعتبار المطابقة بين القبول والإيجاب لا يقتضي تقدم الإيجاب على القبول كي يكون ذلك منشأ لتقدم الإيجاب على القبول.

الوجه الثاني: إن الجزء الأول من العقد المعاوضي هو عبارة عن تمليك العين أو المنفعة بعوض، ومقتضى ذلك أن يكون الجزء الثاني هو جعل الثمن أو الأجرة بدلاً وعوضاً مكان المعوض، مما يقتضي تقدم الأول وإلا لم يكن للثاني معنى.

ويلاحظ عليه: مضافاً لما سبق من أن حقيقة العقد المعاوضي هو المبادلة الإنشائية المتقومة بالمقابلة بين المالين، المتساوية النسبة للعوضين دون تقدم ولا تأخر، أنه لو قلنا بأن حقيقة المعاوضة هي تبديل العين أو المنفعة بعوض إلا أن ذلك لا يقتضي تقدم الإيجاب.

والوجه فيه: أن كون الطرف الثاني بدلاً عن الأول وعوضاً عنه، إنما يقتضي أن لا يكون عوضاً بالفعل إلا في فرض كون الأول معوضاً بالفعل بمقتضى التضايف بينهما، وأما إنشاء العوضية فلا اقتضاء في البدلية لتأخره عن إنشاء المعوضية.

أو فقل: كما أن المعاوضة لا تقتضي مقارنة الإيجاب للقبول، بل يمكن تقدم الإيجاب عليه مع أن المعوضية بالفعل لا تتحقق إلا في فرض تحقق القبول، فكذلك لا تقتضي تأخر إنشاء القبول عن الإيجاب، وإن اقتضت اقتران فعلية العوضية بالمعوضية.

الوجه الثالث: إن تقدم القبول على الإيجاب مستلزم للتعليق في العقد، فمقتضى اشتراط التنجيز في العقود عدم تقدم القبول على الإيجاب.

والسر في ذلك: أنه لو تقدم القبول على الإيجاب فقال المشتري – مثلاً -: (أشتري منك البضاعة الكذائية بالثمن الكذائي إذا بعتني) للزم كون القبول معلقاً على الإيجاب، ومقتضى اعتبار التنجيز في صحة العقد عدم تقدمه على الإيجاب.

وأجاب عن ذلك المحقق النائيني قدس سره[2] : (وبالجملة: تبديل المال بالعوض الّذي هو فعل الموجب لا يتوقّف على القبول في ناحية الإنشاء. وأمّا قبول هذا التبديل وإنفاذه لا يمكن إلّا بعد وقوع التبديل سابقاً، لا من جهة التعليق في الإنشاء، فإنّه لا يلزم من إنشاء القبول قبل الإيجاب، فإنّ الإنشاء خفيف المؤنة فينشأ القبول فعلاً وإن توقف منشؤه على أمرٍ متأخّر كما في الوصيّة والتدبير. ولا من جهة التعليق في المنشأ، فإنّه لا دليل على بطلانه إلّا الإجماع، والإجماع قام على اعتبار التنجيز في مقام التلفظ، لا على اعتباره في واقع المعنى، وإلّا لفسد جميع المعاوضات والإيقاعات؛ لأنّ البيع يتوقّف على الملكية، والطلاق على الزوجية، وهكذا).

ولكنه محل تأمل؛ فإن ما قام الإجماع على مبطليته هو التعليق في المنشأ، أي تعليق اعتباره على أمر استقبالي، والتلفظ مجرد مبرز للتعليق في وعاء الاعتبار، لا أن معقد الإجماع هو التلفظ.

والصحيح في دفع الوجه المذكور: أن التعليق المبطل للعقد هو تعليق المُنشأ على ما ليس معلقاً عليه في واقع تقرره، كما إذا قال: (بعتُك هذه البضاعة إن نزل المطر) أو (بعتُك البضاعة إن جاء زيد من السفر) فإن تعليق المُنشأ وهو المِلكية في المثال على ما ليس متقوماً به ذاتاً هو التعليق المبطل، وأما تعليق المُنشأ في مقام الإنشاء على ما هو معلق عليه واقعاً، أي على ما هو متقوم به واقعاً فليس من التعليق المبطل في شيء، كما لو قال: (بعتُك هذه البضاعة إن كانت مِلكي)؛ لأن المُنشأ هو معلق على كونه مِلكاً له وليس شيئاً آخر، وبما أن مضمون العقد - بيعاً كان أو إجارةً - هو المبادلة المتقومة بقرار الطرفين المُوجِب والقابل البائع والمشتري في واقعها، فإذا كانت المبادلة متقومة في واقعها وحقيقتها بقرار الطرفين فلو صدر القبول قبل الإيجاب فإنه لا يعني إنشاء التملك مطلقاً؛ وإنما هو إنشاء للتملك المعلق في واقعه على وجود إيجاب، وبالتالي فما قصده القابل حين إنشاء القبول وإن كان سابقاً على الإيجاب هو التوصل لتلك المعاملة التي هي في واقعها وذاتها متقومة بالإيجاب، وهذا ليس من التعليق المبطل في شيء.

فكما أن مفاد الإيجاب المتقدم زماناً على القبول ولو بساعات هو التسبب لإيجاد العلقة الوضعية المتقومة بالقبول وإن كان متأخراً، كذلك القبول المتقدم إنما هو تحقيق لتلك العلقة الوضعية من طرف القابل، وذلك الارتباط بين القرارين المعلق على إنشاء الإيجاب وإن كان متأخراً.

الشرط الرابع: الموالاة بين الإيجاب والقبول:

وهذه من المسائل التي هي محل ابتلاء في زماننا هذا، فمثلاً من المعاملات الجارية في بيع الأسهم في البورصة عرض البائع الأسهم لمن يشتريها ولو بعد سنة، ولا دور للمشتري بعد ذلك إلا قبول تلك المعاملة التي حدثت قبل سنة، وقد يقوم البائع على جعل المعاملة ضمن شريط مفتوح، وعلى من يريد قبول المعاملة الدخول على الشريط - شريط البيع - وضغط الزر وبه تتم المعاملة ولو كان الإيجاب قبل شهور، فهل يمكن تصحيح مثل هذه المعاملة مع فقدها للموالاة بين ركني العقد؟

وقد استدل على اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول بوجوه:

الوجه الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره الشريف[3] من أن العقد شد التزام بالتزام، ولا يصدق ذلك مع الفصل بين الإيجاب والقبول.

 

و يلاحظ عليه: أنه إن كان المقصود توقف صدق العقد على الشد والربط الاعتباري فهو حاصل متى بقي الإيجاب - بمعنى عدم رفع البائع يده عنه - إلى حين حصول القبول ولو بعد سنة، وتحقق الشد من قبل المشتري، وإن كان المقصود الشد والربط اللفظي المتصل فهذا هو عين المدعى، والصحيح عدمه.

الوجه الثاني: وله بيانان:

البيان الأول: ما تعرض له المحقق النائيني قدس سره الشريف[4] وحاصله: أن عنوان العقد كعنوان الصلاة والأذان له مفهوم عرفي، وهو عبارة عن اتصال أجزاءه بحيث لا يصدق مع عدمها، والنكتة فيه أن كل أمرين أو أموراً يجمعها عنوان واحد مع تباينها، فإن المنصرف من العنوان عرفاً فرض الاتصال والموالاة.

البيان الثاني: إن العقد أمر وحداني، مركب من الإيجاب والقبول المرتبطين، وتوصيف الإيجاب والقبول بالمرتبطين باعتبار أن العقد بنظر العرف مفهوم وحداني، لا متعدد، فمقتضى وحدة العقد بحسب المنصرف العرفي كونه مركباً من الإيجاب والقبول المرتبطين لا المنفكين، وحيث إن تخلل الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول مانعٌ من الارتباط بينهما فلا يكون مصداقاً لعنوان العقد.

وأُجاب عن ذلك سيدنا الخوئي قدس سره الشريف:[5]

أولاً: بأن العقد اسمٌ للمبرَز لا للإبْراز، أي أن العقد اسم للإنشائين والقرارين في عالم الاعتبار بغض النظر عن عالم الإبراز، فإذا كان المعنون بالعقد هو القراران في عالم الاعتبار فالمفروض أن من يُصدر الإيجاب لم يرفع يده عن إيجابه إلى أن حصل الشراء ولو مع فاصل معتدٍ به، كما لو كان المشتري نائماً أو غافلاً وبعد التفاته ربط التزامه بالتزام البائع، فإذا حصل الشراء حينئذٍ فقد حصل والإيجاب فعليٌّ، لا أنّه حصل والإيجاب قد انقضى؛ إذ الذي انقضى هو إِبْراز الإيجاب وأما نفس الإيجاب بما هو قرار في وعاء الاعتبار فهو ما زال فعلياً مستمراً إلى حين حصول عملية الشراء، وبالتالي متى حصل القبول ببركة الشراء ائتلف العقد المركب من الإيجاب والقبول المرتبطين، ولم يكن الفصل الطويل بين إِبْراز الإيجاب وإِبْراز القبول مانعاً من صدق عنوان العقد.

ثانياً: على فرض عدم صدق عنوان العقد فإنّه يكفي صدق عنوان البيع، وإن لم يصدق عنوان العقد لعدم ارتباطهما، ويشمله قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾[6] ، أو صدق عنوان التجارة فيشمله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾[7] ، الشامل البيع والإجارة.

فإن قلتَ: إن قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾، إنما يدل على صحة البيع لا لزومه، فلازم الاستناد إليه في إثبات الصحة مع الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول، أن لا لزوم له في هذا الفرض؛ لأنّ دليل اللزوم هو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[8] ، والمفروض عدم شموله للبيع مع الفصل الطويل؟

قلتُ: إن دليل اللزوم لا ينحصر بآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ؛ بل هناك عدة أدلة أصرحها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾، فإن الأكل بالفسخ ليس أكلاً عن تجارة عن تراض.

ويلاحظ على جوابه الثاني: أن موضوع النفوذ في ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ ، و ﴿تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ ، هو البيع العرفي، والبيع عرفاً متقومٌ بالعقدية، فلو سلم بعدم صدق العقد مع الفصل الطويل بين الطرفين، لزم منه عدم صدق البيع والتجارة، ولم يبق مجال للتمسك بالآيتين على الصحة لانتفاء موضوعهما، بلحاظ أن الموضوع فيهما البيع من حيث كونه عقداً عرفاً، مضافاً لمنع دلالة ﴿تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾على اللزوم، حيث إن المنساق من الآية كونها في مقام بيان اشتراط التراضي في نفوذ العقد، وأن الأكل بدونه أكل للمال بالباطل، لا الكناية عن اللزوم.

الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الإيرواني قدس سره [9] قال: (إن الإخلال بالموالاة بين الإيجاب والقبول يؤدي حتماً إلى عدم التطابق بين الإيجاب والقبول).

والسر في ذلك: أن القبول إذا صدر من المشتري فهل يقبل المِلك من حين الإيجاب؟ أو يقبل المِلك من حين القبول؟ أي أن ما يمضيه هل هو المِلكية المنشأة من حين الإيجاب؟ أو هو المِلكية المنشأة من حين قبوله؟

فإن كان ما يقبله المشتري المِلكية الحاصلة من حين صدور الإيجاب لزم أن يكون العقد مركباً من الإيجاب وحده لا من إيجابٍ وقبول؛ فإن القبول صار إمضاء وتقبلاً للمِلكية التي حصلت من حين صدور الإيجاب، والمفروض أن المِلكية التي حصلت من حين صدور الإيجاب قد حصلت قبل القبول، فلو كان القبول متعلقاً بتلك المِلكية لكانت المعاملة عقداً بلا قبول؛ لأن المِلكية المقبولة هي المِلكية التي تحققت في وعاء الاعتبار من حين صدور الإيجاب لا المِلكية التي حصلت في رتبة القبول.

وإن كان المنظور لدى القابل أنه يُمضي المِلكية المتحققة بقبوله لا المِلكية الحاصلة بصدور الإيجاب، فلازمه أنه لم يتطابق الإيجاب والقبول؛ حيث إن مؤدى الإيجاب اعتبار المِلكية من حينه بينما مؤدى القبول إمضاء المِلكية الحاصلة بالقبول منه، ونتيجةً لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول لم يتحقق عنوان العقد لتقومه بالمطابقة بينهما.

ويلاحظ على ذلك: أن المُنشأ بالإيجاب ليس هو المِلكية من حين الإيجاب؛ بل المُنشأ بالإيجاب المِلكية التي هي في واقعها معلقة على القبول، إذ المُوجِب ملتفت إلى أن المِلكية مما لا تتحقق لا عقلاءً ولا شرعاً إلا بالقبول؛ لكونها أمرا طرفينياً، فمع علم المُوجِب بذلك فلا يمكن أن يصدر منه التمليك الحاصل بالإيجاب سواء حصل القبول أم لم يحصل؛ بل ما صدر منه إنشاء المِلكية المعلقة على القبول في واقعها وذاتها، وبالتالي فمتى حصل القبول ولو بعد سنتين فهو قبول لتلك المِلكية التي أنشأها المُوجِب، والمفروض أن المِلكية التي أنشأها المُوجِب هي المِلكية المعلقة على القبول فتحقق بذلك التطابق بين الإيجاب والقبول، ولم يلزم محذورٌ في البين.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo