< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/29

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /تعریف الإجارة /

 

الجهة الثانية - في تعريف الإجارة بأنها المبادلة على الانتفاع -: والكلام فيها في أمرين:

الأمر الأول: في الفرق بين عقد الإجارة وعقد العارية:

وفي المقام محتملاتٌ ثلاثة في الفرق بين عقد الإجارة وعقد العارية:

المحتمل الأول: أن مفاد عقد الإجارة هو المِلك، بينما مفاد عقد العارية هو الإباحة المالكية، وإن ترتب عليها الإباحة الشرعية، بمعنى أن دور المُعِير ليس إلا إباحة العين المستعارة للمُستعير من دون مِلك في البين، بخلاف عقد الإجارة فإن مؤداه أن يحصل المُستأجِر على مِلكٍ مِن قِبل المُؤجِر.

وأُورد على ذلك من المحقق الإصفهاني قدس سره الشريف[1] [في رسالته في الحق والحكم ص33]: بأنّ عقد العارية لو كان مفاده مجرد إباحة مالكية لما توقف على القبول، فإن الإباحة والإذن في الانتفاع لا يتوقف على قَبول الآخر؛ إذ ليس الإذن في الانتفاع بالعين تدخلاً في سلطنته وشأنه كي يتوقف على قبوله.

المحتمل الثاني: أن الإجارة تمليك المنفعة، بينما العارية تمليك الانتفاع، وهذا ما استقربه بعض الأعلام في الفرق بين العارية وبين الإجارة، فإن المُستعِير في عقد العارية لا يملك نفس المنفعة كي ينقلها إلى غيره، بينما المُستأجِر في عقد الإجارة يملك المنفعة؛ ولذلك يمكنه نقل المنفعة إلى غيره.

إلا أن هذا المحتمل مورد منعٍ أيضاً؛ لعدم ترتب آثار مِلك الانتفاع على العارية وأوضحها أثران:

الأثر الأول: أن من المتسالم عليه أنه لو استأجر شخصٌ البستان فإن له عند انقضاء مدة الإجارة أن يجني ما بقيّ من الثمار في البستان؛ حيث إن هذه الثمار مما دخل في حوزته في مدة إجارته فله أن يجنيها وإن انقضت مدة الإجارة، بينما لو استعار شخصٌ البستان فانقضت مدة العارية أو أن المُعير رجع عن عاريته فليس للمُستعير أن يجني الثمار الباقية التي كانت في مدة الاستعارة مع أنه لو كان يملك الانتفاع في مدة الاستعارة لترتب على المِلك جني الثمار التي حصلت في مدة استعارته خصوصاً إذا كانت نتيجة عمله.

الأثر الثاني: أنه لو غصبَ العينَ غاصبٌ، فإن كانت العين مُستأجَرة، كما لو استأجر شخصٌ الدار أو السيارة وغصبها منه غاصبٌ، أو منعه ظالم من الاستفادة منها فإنّ المُتسالم عليه أن يضمن الغاصبُ قيمة ما فات من المنافع للمُستأجِر لا لمالك العين، بينما لو غصبَ العينَ غاصبٌ وكانت عارية لم يضمن الغاصبُ قيمة المنافع للمُستعير؛ وإنما يضمن قيمة المنافع لمالك العين، مما يكشف عن أن المُستعير لم يملك شيئاً بالعارية؛ وإلا لو كان يملك شيئاً ولو كان هذا المِلك هو الانتفاع لا المنفعة لترتب على ملكيته الضمان له.

فهذه الآثار شاهدة على أن المحتمل الثاني في الفرق بين الإجارة والعارية غير تامٍ.

المحتمل الثالث: أن المترتب على الإجارة حقٌ عيني، ومِلك سواء كان مِلكاً للمنفعة أو كان مِلكاً للانتفاع، بينما المترتب على عقد العارية حقٌ شخصي، بمعنى أن المُعير إنما منح المُستعير سلطنةً على التصرف في العين قابلة لرفع اليد عنها، نظير ما يترتب على عقد الضمان - بناءً على أنه من ضم عهدة إلى عهدة لا من ضم ذمة إلى ذمة - فإن الإنسان لو ضمن عن مَدينٍ مُعينٍ فقال الضامنُ للدائن: (إن حلّ وقتُ الأجل ولم يسدد المَدينُ الدَين فأنا أتعهد بالأداء)، فإنه لا يترتب على عقد الضمان أيُّ مِلك؛ إنما يترتب عليه أنه لو تخلف المَدين في الوقت المحدد لكان للدائن حق مطالبة الضامن بالأداء، فالحقُ المترتب على عقد الضمان حقٌ شخصي وهو ليس إلا حق المطالبة، كذلك ما يترتب على العارية حقٌ شخصي وهو أن له أن ينتفع بالعين لا أكثر من ذلك، ولهذا فإن هذه السلطنة القاصرة القابلة للزوال مما لا تورث ولا تصلح للنقل بصلحٍ أو نحوه.

وهذا هو الصحيح في الفرق بين عقد الإجارة وعقد العارية.

الأمر الثاني: - بعد الفرق بين عقد الإجارة وعقد العارية - يقع الكلام في تحليل المُنشأ المعاملي لعقد الإجارة بحسب المرتكز العقلائي.

فهل أن مؤدى عقد الإجارة المبادلة على المنفعة، أم المبادلة على الانتفاع؟

وهو مما يتوقف على بيان الفرق بين تمليك المنفعة وتمليك الانتفاع، وقد تعرض المحقق الإصفهاني قدس سره الشريف[2] إلى الفارق بين مِلك المنفعة ومِلك الانتفاع، المردد بين ثلاثة محتملات:

المحتمل الأول: أن المراد بالمنفعة الحيثية القائمة بالعين، والمراد بالانتفاع العرض القائم بالمنتفع فلو كان مفاد عقد الإجارة في قوله: (آجرتُك العين لمدة سنةٍ بكذا) هو المبادلة على المنفعة، فالمقصود تمليك قابلية العين للانتفاع والاستيفاء، فإن القابلية هي الحيثية القائمة بالعين، بينما لو كان مفاده المبادلة على الانتفاع فالمقصود بالإجارة هو تمليك نفس العمل أو نفس السُكنى، كأنه قال: (ملكتُك السُكنى).

ولكن يلاحظ على هذا الفرق: ما سبق من أن قابلية العين للانتفاع ليست أمراً قابلاً للمبادلة بالتمليك أو النقل؛ فإن قابلية العين للانتفاع بها أمرٌ ثابتٌ في العين لا يقبل النقل والتمليك، وإنما الذي يكون مُتعلقاً للنقل والتمليك ما ينعدم بالاستيفاء أو ينقضي بشكلٍ تدريجي وهو المُعَبر عنه بالمنفعة لا قابلية العين للانتفاع بها وهو نفس السُكنى في ما ذكر مثالاً للانتفاع.

المحتمل الثاني: ما هو المختار لدى المحقق الإصفهاني قدس سره الشريف من أن المنفعة لها نسبتان، نسبة للعين ونسبة للمنتفع، وهي بلحاظ النسبة الأولى لا بشرط من حيث شخص المنتفع، وبلحاظ النسبة الثانية متقومةٌ به.

مثلاً: سُكنى الدار لها نسبتان: نسبةٌ للدار، ونسبة للمنتفع بها، فيقال: (هو ساكنٌ والدارُ مسكونةٌ)، فإن لوحظت النسبة الأولى وهي النسبة للعين فهي طبيعي السُكنى بغض النظر عن شخص المُستأجِر، وإن لوحظت النسبة الثانية فهي سُكنى المنتفع نفسه لا غيره.

وبعبارة أخرى: إن النقل أو التمليك أو التبديل الصادر من المُؤجِر إما أن يتعلق بطبيعي السُكنى بغض النظر عن سُكنى المُستأجِر، كأن يقول المُؤجِرُ للمُستأجِر: (ملكتُك طبيعي السُكنى في هذه المدة سكنتَ أنت أم غيرك، انتفعت أم لم تنتفع)، فهذا ما يعبر عنه بتمليك المنفعة، وأثر ذلك أن للمُستأجِر أن ينقل ما مَلَك إلى غيره بصلحٍ أو بإجارةٍ.

أو أن الصادر من مالك الدار هو تمليك أو نقل الانتفاع القائم بشخص المنتفع، كأن يقول له: (ملكتُك سُكناك) لا (طبيعي السُكنى)، أو (ملكتُك ركوبك السيارة) لا مطلق الركوب، وأثره أنه لا يورث ولا يقبل النقل لغيره؛ لأنّ مُتعلق التمليك سُكناهُ لا طبيعي السُكنى.

نعم، لو اشترط في عقد الإجارة عدم انتقال المنفعة لغيره، كما لو قال: (ملكتُك سُكنى الدار وأشترط عليك أن تستوفي السُكنى بنفسك لا بغيرك)، فهنا لا يعني اِتحاد مِلك المنفعة ومِلك الانتفاع؛ باعتبار أن الشرط خارجٌ عن إطار المُنشأ المعاملي، فإن المُنشأ المعاملي هو تمليك السُكنى، واشتراط أن لا يستوفيّ السُكنى غيره أمر خارجٌ عن حدود المُنشأ، ولذلك فأثر الشرط أنه لو تخلف لكان للمُؤجِر خيار تخلف الشرط لا بطلان الإجارة.

حيث إن طبيعة عقد الإجارة هي تمليك المنفعة لا تمليك الانتفاع، ولا يتغير مُقتضى العقد بالشرط ما دام الشرط خارجاً عن إطار نفس المُنشأ المعاملي.

ولكن: ما أُفيد - من المحقق الإصفهاني قدس سره الشريف - من الفرق ليس بظاهر، فإن سعة المملوك تابعٌ لسعة المُنشأ وضيقه، فقد تقع المبادلة أو التمليك على طبيعيّ السُكنى وهو إجارة، وقد تقع من الأصل على الحصة وهي سكنى المنتفع دون غيره وهو إجارة أيضاً، وقد ذكر الفقهاء هذا التقسيم في إجارة الأعمال كما تعرض له متن العروة أيضاً، وهو أن الأجير تارةً يُنشئ الإجارة على كلي العمل في ذمته، وتارةً على شخص العمل المتلبس به بالفعل، فكون المملوك هو الطبيعيّ أو خصوص الحصة القائمة بالساكن إنما ناشئ من تحديد متعلق المبادلة في الإجارة المختلف باختلاف الموارد لا أنه الفارق الجوهري بين حيازة المنفعة وحيازة الانتفاع في حد أنفسهما.

المحتمل الثالث: ما نقله المحقق الإصفهاني قدس سره الشريف عن بعض المعاصرين له وهو المحقق الرشتي قدس سره الشريف: من أنه لا فرق بين مِلك العين ومِلك المنفعة ومِلك الانتفاع فإن الجميع واردٌ على العين، فكما أن الهبة تمليك العين، فالإجارة أيضاً تمليك العين؛ لكن تمليك العين من جهةٍ خاصة لا من تمام الجهات، وهي تمليك العين من جهة المنفعة.

كما لا فرق بين تمليك المنفعة وتمليك الانتفاع في أن الجميع تمليك للعين، غاية ما في الباب أن تمليك المنفعة تمليكٌ للعين في جهةٍ المنفعة على نحو الاستقلال، ولذلك يمكنه التصرف في المنفعة، بينما تمليك الانتفاع هو تمليك العين في جهةٍ خاصة وهي استيفاء المنافع لا مستقلاً، ولذلك لا يمكنه التصرف بالنقل إلى غيره.

وأشكل على ذلك المحقق الإصفهاني أعلى الله مقامه: بأن المرتكز العقلائي يأبى اجتماعَ مُلاكٍ على عينٍ واحدةٍ، فمن باب المثال: لو أن المُؤجِر عِبر عقد الإجارة قام بتمليك المنفعة للمُستأجِر، وتمليك الانتفاع بها من جهة أخرى لشخص ثانٍ - بلحاظ تعدد منافع العين مثلاً - فهنا عدة مالكين للعين:

مالِكُ العين من تمام الجهات وهو المُؤجِر، ومالِكُ العين من جهة المنفعة وهو المُستأجِر، ومالك العين من جهة الانتفاع لا على نحو الاستقلال وهو المنتفع، وهذا مما يأباه المرتكز العقلائي.

لكن بعض الأعلام ناقش في ذلك وأفاد: بأن المرتكز العقلائي لا يأبى اجتماع مِلكيتين طُوليتين على مالٍ واحدٍ، كملكية السيد والعبد؛ فإن العبد يملِكُ أمواله مع أن السيدَ يملِكُ العبدَ وما مَلَك، فبين المِلكيتين اجتماعٌ؛ ولكن على نحو الطولية.

كذلك ما التزم به جمعٌ من الفقهاء في الأراضي الخراجية من أنها مِلكُ الإمام عليه السلام وهي مِلك مَن أحياها، وأثره أن تجتمع مِلكيتان على الأرض الخراجية على نحو الطولية في آنٍ واحد، فهذا أمرٌ لا مانع منه.

والظاهر أن الفرق بين حيازة المنفعة وحيازة الانتفاع: أنّ حيازة الانتفاع مرجِعُه إلى الحق لا إلى المِلك بخلاف حيازة المنفعة.

 


[1] رسالة في تحقیق الحق و الحکم، الغروي الإصفهاني، الشیخ محمد حسین، ص33.
[2] رسالة في تحقیق الحق و الحکم، الغروي الإصفهاني، الشیخ محمد حسین، ص33-37.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo