< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/24

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /تعریف الإجارة /

 

التعريف الرابع: الإجارة: هي عبارة عن المبادلة على الانتفاع بأجرٍ.

وبيان هذا التعريف يتوقف على البحث في جهتين:

1- في تقوم المعاوضة بجهة الملكية أم مطلق الإضافة.

2- في المائز بين ملكية المنفعة وملكية الانتفاع.

الجهة الأولى: هل أن العقود المعاوضية كالبيع والإجارة متقومة بالمعاوضة في المِلكية؟ أم أنها عبارة عن المبادلة الشاملة للمبادلة في طرفي الإضافة الأعم من الملكية؟

وهنا اتجاهان:

الاتجاه الأول: وهو الاتجاه المعروف بين الفقهاء، من أن العقود المعاوضية كالبيع والإجارة هي عبارة عن المعاوضة في المِلكية، فمثلاً البيع متقومٌ بحلول الثمن محل المثمن في المِلكية وحلول المثمن محل الثمن في المِلكية.

الاتجاه الثاني: أن العقود المعاوضية كالبيع عبارة عن مبادلة كل منهما للآخر وشمول ذلك لمبادلة كل منهما أو أحدهما للآخر في جهته، سواء كانت تلك الجهة جهة المِلكية أو جهة الحقية أو جهة المَصرفية.

الاتجاه الأول: ما أشار إليه فقيه عصره سيد المستمسك قدس سره الشريف وبيانه في ضمن مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن التبادل تارةً يكون في المالك، وتارةً يكون في المِلك، وتارةً يكون في المملوك.[1]

فالتبادل في المالك كما في الميراث حيث إن المملوك واحدٌ وهو العين، غاية ما في الباب أن هذه العين كانت طرفاً لمِلكية المورث فأصبحت طرفاً لمِلكية الوارث، فالمملوك واحد وإن اختلف المالك على نحو الطولية.

وتارةً يكون التبادل في نفس المِلكية مع كون العين واحدة كما في الهبة، فإن الواهب إذا منح العين للموهوبِ له فقد رفع اليد عن مِلكيته للعين ونقلها للآخر، وبتبع نقل المِلكية انتقل المملوك، حيث إن المنقول هو مِلكية العين فينتقل المملوك بنقل مِلكية العين، فهذا من التبادل في نفس المِلكية، وإن كانت الهبة معوضة فإن العوض في الهبة شرط لا بديل، ولذا لو تخلف الموهوب له عن الوفاء بالشرط لم تبطل الهبة، وإنما للواهب خيار تخلف الشرط.

وتارةً يكون التبادل في المملوك كما في البيع فإن البائع إذا باع البضاعة بثمنٍ فإن مِلكيته كانت ذات عُلقةٍ بالبضاعة فأصبحت ذات عُلقةٍ بالثمن، وكذلك الأمر في طرف المشتري حيث كانت عُلقة مِلكيته بالثمن فأصبحت عُلقة مِلكيته بالمثمن، فالتبادل في البيع تبادلٌ في المملوك إذ أن كُلاً من الطرفين لم يرفع يده عن أصل المِلكية للمال؛ وإنما رفع يده عن نوع المملوك فأبدل أحدهما بالآخر وأحل أحدهما محل الآخر.

والتقسيم المذكور لأنواع التبادل ليس عقلياً؛ لوضوح أن المِلكية معنى حرفي متقوم بالطرفين، فمن الممتنع تغير المملوك أو المالك دون تغير الملكية وكذلك الأمر في الهبة فإن الحادث بها ملكية أخرى غير الأولى، وإنما المقصود أن متعلق الاعتبار بالأصالة تارة يكون تغير المالك كما في الميراث، وأخرى تغير الملك، وثالثة تغير المملوك.

المقدمة الثانية: إن البيع متقومٌ بمعاوضتين: إحداهما: ما هو مقصودٌ بالأصالة، والأُخرى: ما هو مقصود بالتبع، وأثر ذلك أن دلالة البيع على إحداهما بالمدلول المطابقي ودلالة البيع على الأُخرى بالمدلول الالتزامي.

وبيان ذلك: أن ما هو محور البيع بالأصالة هو تمليك المبيع، وما هو المنظور بالتبع تملك المشتري للمبيع بالثمن.

ولذا يثبت لقول البائع: (بعتك هذه البضاعة بالثمن الكذائي) مدلولان، مدلولٌ مطابقي على المعاوضة الأولى المقصودة بالأصالة وهي تعويض المثمن بالثمن بحيث يحل الثمن محل المثمن في مِلكية البائع له، ومدلول التزامي على المعاوضة الثانية المقصودةٌ بالتبع، وهي حلول المثمن محل الثمن في تملك المشتري.

وبعبارة أخرى: إن جملة: (بعتُك الكتاب بكذا) متضمنةٌ لإحلال الكتاب في مِلك المشتري لا مطلقاً؛ بل في محل الثمن بإزاء حلول الثمن محل الكتاب، وقد سبق من السيد الحكيم السبط قدس سره الشريف[2] عند البحث في المقام الأول حول التعريف الثالث للإجارة: أنه أشكل على نظرية تضمن البيع للمعاوضتين، بأن غاية مفاد البيع هو تعويض المثمن بالثمن، لا أكثر وأما تعويض الثمن بالمثمن فلا دال عليه من نفس حاق إنشاء البيع، نعم مقتضى إطلاق المعاوضة خروج الثمن من ملك من صار له المثمن، لكنه خارج عن مفاد نفس البيع، فإنه إن كان الدال عليه هو كلمة (الباء) فمن الواضح أن مفادها سد الثمن للنقص الحاصل في ملك البائع بسبب خروج المثمن لا أكثر، وإن كان مستفاداً من دالٍ آخر فليس هناك ما يدل على المعاوضة غير (الباء)؛ بل لا يستنكر العرف شراء الإنسان أي شيء بمال غيره.

إلا أن مدعى السيد الحكيم الجد قدس سره الشريف هو أن جملة (بعتك كذا بكذا) مقترن بارتكازٍ عرفي راسخ لحقيقة المعاوضة، وهو أن المعاوضة سواء كانت بيعاً أو إجارة متقومة بحلول كلّ من الطرفين محل الآخر، وإلا لم تكن معاوضةً حقيقيةً بينهما، ومقتضى اقتران جملة البيع بالمرتكز هو دلالة باء المعاوضة على إحلال المثمن محل الثمن بإزاء حلول الثمن محل المثمن.

ولأجل أن المعاملات المعاوضية كالبيع والإجارة متقومةٌ بحلول كل من الطرفين محل الآخر في جهة المِلكية، كان المتجه في تعريف البيع أنه المعاوضة بين المبيع والثمن في جهة المِلكية، والمتجه في تعريف الإجارة: المعاوضة بين المنفعة والعوض في المِلكية؛ باعتبار أن المعاوضة الحقيقية متقومةٌ بذلك.

الاتجاه الثاني: ما ذكره فقيه عصره السيد الحكيم نفسه [3] وهو مشتمل على أمرين:

1- أن هناك فرقاً بين المبادلة والتمليك، فإن المبادلة هي: عبارة عن اعتبارٍ قائمٍ بطرفين في عرضٍ واحدٍ، وهو إحلال كلٍّ منهما محل الآخر بالأصالة، وأثر ذلك هو دلالة (بعتُك الكتاب بكذا) على المبادلة بما لها من المعنى بالمدلول المطابقي، ولعله لذلك جاء في المصباح المنير في تعريف البيع: أنه مبادلة مالٍ بمالٍ، وذكر السيد الحكيم الجد قدس سره الشريف [4] :

أن معنى البيع قريب من المبادلة، وأما التمليك فهو اعتبارٌ قائمٌ بطرفٍ واحدٍ، الذي يقتضي تعريف البيع بأنه: تمليك عينٍ بعوضٍ، أي تعويض المبيع بالثمن دون أن يكون ناظراً لطرف العوض، وبعبارة سيد مصباح المنهاج قدس سره الشريف: أنه لما كان إخراج المبيع عن مِلكية البائع نقصاً في مِلكه كان سد ذلك النقص وتداركه بإحلال الثمن محله، وأما كون الثمن معوضا بالمبيع فلا يقتضيه التمليك.

2- أن المبادلة بين المعوض والعوض في البيع والإجارة لا تنحصر في المبادلة في جهة المِلك؛ بل قد تكون المبادلة في جهة الحق أو جهة المَصرفية، مما يقتضي أن تكون المعاملات المعاوضية عبارة عن جعل بدلية كل من الطرفين عن الآخر في جهته.

وقد أفاد السيد الحكيم قدس سره الشريف [في نهج الفقاهة]: ثلاثة شواهد على ما سبق من الأمرين:

الشاهد الأول: أنه لو باع الغاصب العين لنفسه، كما لو باع الغاصب مِلك زيدٍ لنفسه لا عن زيد، وأجاز المالك - وهو زيد - البيع، فلمن يقع البيع؟

لا إشكال بأن مقتضى الإجازة للعقد الفضولي أن يقع البيع عن المالك لا عن الغاصب مع أن الإجازة لم تتطابق مع المجاز؛ فإن المجاز بيع الغاصب لنفسه بينما متعلق الإجازة انفاذ البيع للمالك لا للغاصب، فكيف كانت الإجازة انفاذاً للبيع الواقع من الغاصب من دون تجديد إنشاءٍ مع اختلافهما في المتعلق؟!

مما يشهد على أن المُنشأ المعاملي في البيع ليس هو تمليك المعوض بثمن لجهة من صدر منه التمليك؛ بل المُنشأ المعاملي في البيع هو المبادلة، بمعنى أن الغاصب عندما باع العين لنفسه فقد قصد أمرين وأنشأ مضمونين، أحدهما: مبادلة الثمن مع المال، والأُخرى: كون الثمن بدلاً عن المثمن له لا للمالك، إلا أن البيع متقومٌ بالمدلول الأول، من دون تحديد كون المِلك للمُنشئ أو لغيره فإن هذا أمرٌ خارجٌ عن حقيقة البيع؛ إذ البيع عبارةٌ عن مبادلة مالٍ بمالٍ، وهو ما قصده الغاصب بالأصالة.

والمجيزُ - وهو المالك - إنما أمضى المدلول الأول لا المدلول الآخر.

فلو لم يكن البيع هو مجرد المبادلة لما تطابقت الإجازة مع البيع، ولما نفذ البيع ببركة هذه الإجازة، مما يكشف عن أن البيع من سنخ المبادلة.

ولكن الشاهد المذكور منبهٌ على أن المعاوضة عرفاً هي مطلق المبادلة الإنشائية، وهي مقابلة كل من الطرفين المعوض والعوض بالآخر، بحيث يكون الثمن للبائع بإزاء كون المثمن للمشتري، وأما إحلال كل منهما محل الآخر في الجهة التي كان فيها فلا شهادة في المورد عليه، وهذه الجهة قد سبق بحثها في المقام الأول في التعليق على التعريف الثالث للإجارة.

الشاهد الثاني: أنه لو اشترط ضمن عقدٍ لازمٍ تمليك عينٍ بعوضٍ على نحو شرط النتيجة لكان شرطاً صحيحاً لازماً، بينما لو اشترط فيه البيع على نحو شرط النتيجة لم يكن شرطاً صحيحاً، مما يكشف عن التغاير بين البيع والتمليك وأن البيع هو جعل البدلية الذي لا يقبل أن يكون نتيجة للشرط.

ولكن في الشاهد المذكور نوعٌ من المصادرة؛ فإنه لو كان في البين ارتكاز متشرعي أو عقلائي على عدم وقوع البيع شرط النتيجة لكان ذلك هو المانع، ولو لأن شرط النتيجة لا يشمل العقود بغض النظر عن مفادها، لا لأن البيع ليس تمليكاً، ولو لم يكن ارتكاز على الخلاف وكان البيع مرادفاً للتمليك بعوضٍ لصح اشتراطه بنحو شرط النتيجة بلا مانع.

الشاهد الثالث: ما سبق من النقض على تعريف الإجارة بتمليك المنفعة بعوضٍ، بأنه: لو كان مرجع الإجارة إلى تمليك المنفعة لما صحت إجارة العين للوقف على سبيل المَصرفية، كما لو وقف الدار على تعزية الإمام الحسين عليه السلام، بحيث يكون نماؤه على جهة المَصرفية، فإنه ليس لوليّ الوقف أن يستأجر داراً أو يشتري داراً لنماء الوقف، إذا كان البيع والإجارة متقوماً بالتمليك، إذ المفروض أن الطرف الآخر - وهو الوقف - ليس قابلاً للتملك لأنه متمحضٌ في المَصرفية، مع أنه لا إشكال في صحة المعاملة.

وهذا منبهٌ على أنّ البيع مبادلةٌ في الجهة لا معاوضةٌ في جهة المِلكية، بمعنى أن البائع عندما باع العين للوقف قصد أن يخرج العين من جهة المِلكية للبائع إلى جهة المَصرفية، بإزاء أن يَخرُج الثمن من جهة المَصرفية إلى جهة المِلكية، مما يعني أن البيع مبادلةٌ بين المالين في جهةٍ بحيث يحل كلٌّ منهما محل الآخر في جهته لا في جهة المِلكية.

والمتحصل مما سبق مطلبان:

أحدهما: أن المعاوضات بيعاً أو إجارةً هي عبارة عن المبادلة بين الطرفين.

وثانيهما: شمول المعاوضة للمبادلة في جهة المِلكية وغيرها كالحقية والمَصرفية.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo