< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/23

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /تعریف الإجارة /

الأمر الثاني: قد أُورد على تعريف الإجارة - بالمعاوضة على المنفعة عملاً كانت أو غيره من دون وساطة العين - بعدم اختصاص التعريف بباب الإجارة، وذلك في موردين:

المورد الأول: ما إذا كانت المنفعة ثمناً في البيع، حيث يصدق على الفرض المعاوضة على المنفعة لحلول المعَوض محل العِوض في جهته، فلو باع البضاعة بإزاء سُكنى الدار سنة فهو بيع بلاريب، والمنفعة فيه معوضة بالبضاعة، إلا أن يقال: إن كان مرجع الإجارة وسائر المعاملات المعاوضية لمطلق المقابلة والمبادلة بين الطرفين، فالنقض واردٌ، وإن كان بناء المعاوضة في جميع مصاديقها ومنها الإجارة على ركنية محور لها، بحيث يكون هو المنظور بالأصالة في المعاوضة، والطرف الثاني منظوراً بالتبع فالنقض غير وارد؛ فإن المعاوضة وإن كانت من باب المفاعلة المتقومة بالطرفين، لحلول كل منهما محل الآخر - بحسب المبنى المشهور - إلا أن أحدهما محور للمعاوضة والثاني تبع له، فالمنظور بالمعاوضة في البيع بالأصالة هو المبيع، والنظر للعِوض إنما هو بالتبع، بلحاظ أن البيع تمليك من جهة وتملك من جهة أخرى، كذلك الإجارة فإن ما هو محور المعاوضة فيها هو المنفعة، والأجرة ملحوظة بالتبع لا بالأصالة، ولذا فإن كون المنفعة ثمناً في البيع لا يصلح نقضاً لتعريف الإجارة بالمعاوضة على المنفعة.

المورد الثاني: ما ورد في الروايات الشريفة من أمثلة للمعاوضة على المنفعة مع أنها ليست من باب الإجارة، وهي بيع السُكنى، وشراء الأراضي الخراجية، وبيع خدمة العبد المدبّر، فإذا لم تكن إجارةً مع تعلقها بالمنفعة بحسب الظاهر، كان ذلك نقضاً على تعريف الإجارة بأنها المعاوضة على المنفعة.

المثال الأول: ما دل على شراء الأرض الخراجية مع أنها مِلكٌ للمسلمين، نحو صحيحة الحلبي قال: (سُئل أبو عبدالله عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين: لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد. فقلت: الشراء من الدهاقين قال: لا يصلح إلا أن تشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها، قلت: فإن أخذها منه قال: يرد عليه رأس ماله وله ما أكل من غلّتها بما عمل).[1]

فإن قوله عليه السلام: (لا يصلح) إرشادٌ إلى عدم صحة بيع الأرض بلحاظ أنها ليست مِلكاً للدهاقين القائمين عليها، بقرينة قوله عليه السلام في صدرها: (هو لجميع المسلمين) إلى أن قال: (ولمن لم يخلق بعد)، الظاهر في كونها كذلك في نفسها، لا صيرورتها مِلكاً للمسلمين بالشراء، ومما يؤكد ذلك أيضاً قوله عليه السلام في ذيل الرواية: (فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها) فإنه إنما يكون لولي الأمر الصلاحية لأخذها ممن اشتراها متى شاء لعدم كونها مِلكاً لأحد، وإلا لو كانت الأرض مِلكاً لأهل الكتاب القائمين عليها، وقد اشتراها المسلم منهم فقد انتقلت إليه بالمِلك، فلا معنى لأخذها من قبل وليّ الأمر، وبالتالي ماهو الأثر المترتب على الشراء في قوله عليه السلام: (إلا أن تشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين

وهنا محتملان في مفاد الفقرة:

أحدهما: أن ما بذل من الثمن إنما هو بإزاء تخليص الأرض من سيطرة الدهاقين عليها، وصيررتها بلحاظ منافعها للمسلمين من دون حصول من بذل العِوض على شيء فيها.

ثانيهما: - وهو الظاهر - أن المترتب على بذل الثمن حصول نحو اختصاصٍ لمن بذله في الأرض، وإن لم يكن شراء لرقبة الأرض بلحاظ كونها مِلكاً للمسلمين، والقرينة على ذلك قوله عليه السلام في ذيل الرواية: (وله ما أكل من غلّتها بما عمل)، إذ لولا ثبوت حقٍ له في الأرض لم يكن له حقٌ في أكل غلّتها بما عمل لانتفاء القيمة لعمله في ما لا ولاية له عليه.

ولكن هل الاختصاص الذي حصل للمشتري بما بذل من ثمن هو المنفعة؟

فإنه إذا كان ما ثبت له ببذل الثمن هو المنفعة كان المورد مصداقاً لتعريف الإجارة بالمعاوضة على المنفعة مع أن المعاملة ليست من الإجارة بحسب المرتكز العرفي.

أم أنه من سنخ حق الإحياء لا مِلك المنفعة؟ وهذا هو الظاهر بقرينة قوله عليه السلام: (وله ما أكل من غلّتها بما عمل)، وإلا فكما لا مِلكية له في الأرض فلا ولاية له عليها بمقتضى قوله عليه السلام: (فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها).

ويؤكد ذلك ظاهر صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم: (عن محمّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام.

وعن الساباطي، وعن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام، أنهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض الجزية؟ فقال: إنّه إذا كان ذلك انتزعت منك أو تؤدي عنها ما عليها من الخراج.

قال عمار: ثمّ أقبل عليّ فقال: اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك).[2] ، فإن ظاهرها أن ما يبذل الثمن بإزائه هو حق الإحياء في الأرض، ولذلك كان ما بذل من الثمن أقل مما ثبت له من الحق فيها.

والنتيجة أن مورد شراء الأرض الخراجية ليس من بيع رقبة الأرض - وهو واضح -؛ لأنها مِلك للمسلمين، ولا من الإجارة؛ لأن الإجارة المعهودة لدى المرتكز العقلائي هي ثبوت المنفعة أو حق الانتفاع للمُستأجِر مع بقاء الولاية على العين للمُؤجِر، وهو منتفٍ في المورد حيث لا ولاية للدهاقين عليها؛ بل الولاية لوليّ الأمر، وأن الثابت للمشتري حق تخليص الأرض من سيطرة الدهاقين أو حق الإنتفاع بالأرض فلا يصح النقض بهذا المثال على تعريف الإجارة بأنها المعاوضة على المنفعة.

المثال الثاني: ما ورد في بعض الروايات الشريفة من بيع السكنى، ومنها معتبرة إسحاق بن عمار، (في التهذيب: عنه - الضمير راجع إلى الحسن بن محمّد بن سماعة -، عن عليِّ بن رِئاب، وعبدالله بن جَبَلَة، عن إسحاقَ بن عمار، عن عبدٍ صالح عليه السلام قال: سألته عن رَجل في يده دار ليست له ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله قد أعلمه مَن مضى من آبائه أنّها ليست لهم ولا يدرون لمن هي، فيبيعها ويأخذ ثمنها؟ قال: ما أُحبُّ أن يبيع ما ليس له، قلت: فإنّه ليس يعرف صاحبها، ولا يدري لمن هي، ولا أظنّه يجيء لها رَبٌّ أبداً، قال: ما أُحبُّ أن يبيع ما ليس له، قلت: فيبيع سُكناها أو مكانها في يده، فيقول لصاحبه: أبيعك سُكناي وتكون في يدك كما هي في يدي؟ قال: نعم يبيعها على هذا).[3]

وقد أُشكل بهذا المثال على تعريف الإجارة بأنه لو كانت الإجارة عبارة عن المعاوضة على المنفعة لشملت هذا المورد وهو بيع السُكنى مع أنه ليس من باب الإجارة في شيء، حيث إن الإجارة المعهودة في المرتكز العرفي تعني ثبوت المنفعة أو حق الانتفاع للمُستأجِر مع بقاء الولاية على العين للمُؤجِر، بحيث تكون سائر التصرفات الاعتبارية فيها للمُؤجِر لا للمُستأجِر، مع أن العين في هذا المورد تنتقل بتمام شؤونها للآخر لا خصوص المنفعة أو حق الانتفاع.

والجواب عن ذلك: كما أفاد السيد الحكيم السبط قدس سره الشريف[4] قال: (كما أنه لا يراد ببيع سكنى الدار التي لا يملكها بيع منفعتها وهي السكنى، لوضوح أن البائع كما لا يملك عينها لا يملك منفعتها) فإن مِلك المنفعة لايثبت إلا لمن ملك العين أو تملكها من مالك العين أو من له الولاية عليها، والمفروض أنّ من له السيطرة على الأرض مقرٌ بأن الدار ليست له أي لا يملك عينها ولا يملك منفعتها ولا ولاية له عليها (فكيف يبيعها؟ وليس له إلا حق أولوية السكن فيها) ولعل ثبوت حق الأولوية له باعتبار تعهده بحفظها وإصلاحها وإدارة شؤونها، وعدم قيام حجة على ملكية أحد لها، وبالتالي فالمنقول حق الأولوية إلى غيره، لا المنفعة، ولذلك لايصلح المثال نقضاً على تعريف الإجارة بأنها المعاوضة على المنفعة، وأما التعبير بالبيع فيه فهو صحيح على المختار من عدم اختصاص البيع بالأعيان وشموله لمطلق الأموال التي لها ثبات وقرار بحيث تقبل الاستيفاء ومنها الحقوق، ولذلك يثبت لنقل الحق آثار البيع ومنها خيار المجلس، وإن لم نقل بذلك فهو تعبير مجازي، نظير التعبير عن النكاح بالشراء في معتبرة محمد بن مسلم، كما في الوسائل: (محمّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخراز، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة، أينظر إليها؟ قال: نعم، إنما يشتريها بأغلى الثمن)[5] ونظير التعبير عن الابتياع بالإجارة في صحيحة الحلبي، كما في الوسائل: (وعنه عن صفوان، عن ابن مسكان عن محمّد الحلبي وابن أبي عمير، عن حماد، عن عبيدالله الحلبي، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: تقبّل الثمار إذا تبين لك بعض حملها سنة وإن شئت أكثر، وإن لم يتبين لك ثمرها فلا تستأجر)[6] فإن المنهي عنه هو شراء الثمار قبل تبينها لا الإجارة؛ لصحة الإجارة على الشجر قبل بدو ثمارها.

المثال الثالث: وهو بيع خدمة المدبّر، نحو ما ورد في موثقة السكوني، كما في الوسائل: (وبإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام قال: (باع رسول الله صلى الله عليه وآله خدمة المدبّر، ولم يبع رقبته).[7] ونحو خبر أبي مريم، كما في التهذيب (وعنه، عن فضالة، عن أبان، عن أبي مريم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سُئل عن الرجل يعتق جاريته عن دبر أيطأها إن شاءَ، أو ينكحها، أو يبيع خدمتها في حياته؟ قال: نعم أيّ ذلك شاءَ فعل) [8] ونحو خبر البطائني، كما في الوسائل: (وعنه، عن القاسم بن محمّد، عن عليّ، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أعتق جارية له عن دبر في حياته، قال: إن أراد بيعها باع خدمتها في حياته، فإذا مات اعتقت الجارية، وإن ولدت أولاداً فهم بمنزلتها)[9] ، وظاهر الروايات الشريفة: أن الخدمة وهي المنفعة قد انتقلت من شخصٍ لآخر فتحققت المعاوضة على المنفعة، وهو نقضٌ على تعريف الإجارة بأنها المعاوضة على المنفعة.

وقد أفاد السيد الحكيم السبط قدس سره الشريف[10] في دفع النقض بقوله: (اللهم إلا أن يقال: لا يراد ببيع خدمة المدبر بيع منفعته دون عينه، بل بيع عينه على أن ينعتق بموت مدبره البائع، فملكية المشتري له على نحو ملكية البائع مغياة بموت المدبر له، لا أن المملوك للمشتري هو منفعته فقط مع بقاء عينه ملكاً للبائع)، واستدل على ذلك بصحيحة أبي بصير بقوله قدس سره: (وهو المناسب لصحيح أبي بصير: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن العبد والأَمة يعتقان عن دبر. فقال: لمولاه أن يكاتبه إن شاء، وليس له أن يبيعه، إلا أن يشاء العبد أن يبيعه قدر حياته...)[11] ، برجوع الضمير في (قدر حياته) إلى حياة المُدَبِر، بمعنى أن ملكية المشتري محدودة بحياته ولذا ينعتق بعد موته.

إلا أن التعارض بين مدلول هذه الرواية وموثقة السكوني واضحٌ، حيث نفي فيها بيع العين: بقوله عليه السلام (ولم يبع رقبته).

فإن قيل: إنه يمكن الجمع عرفاً بينهما بالتخصيص، بتقريب أن مفاد موثقة السكوني نفي بيع الرقبة دون قيد، بينما مفاد صحيحة أبي بصير صحة البيع الخاص، وهو بيعه مدة حياة المدبر على أن ينعتق بموته، فلا تنافي بين المفادين.

قلتُ: إن ظاهر المقابلة بين بيع الخدمة، ونفي بيع الرقبة، أنه ليس لمالك العبد المدبر أي صلاحية للتصرف في رقبة العبد إلا ببيع الخدمة، وذلك لا يجتمع مع جواز بيع العين مدة حياة المدبر، مضافاً لعدم معهودية البيع المؤقت بحسب المرتكزات، فالتنافي بينهما مستقر، وبالتالي فلأجل تعارضهما وعدم الجمع العرفي بينهما، فلا تصلح أيضاً هذه الأمثلة نقضاً على تعريف الإجارة بأنها المعاوضة على المنفعة.

والمتحصل: أن التعريف المذكور - وهو كون الإجارة عبارة عن المعاوضة على المنفعة عملاً كانت أو غيره - سليم عن الإشكالات السابقة، وأما كونه الموافق للمرتكزات العقلائية في باب الإجارة فهو محل تأملٍ.

 


[4] مصباح المنهاج/ کتاب الإجارة، الطباطبائی الحکیم، السید محمد سعید، ص142.
[10] مصباح المنهاج/کتاب الإجارة، الطباطبائی الحکیم، السید محمد السعید، ص142.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo