< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/22

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /تعریف الإجارة /

التعريف الثالث - من تعريفات عقد الإجارة -: ما ذكره فقيه عصره السيد الحكيم قدس سره الشريف في منهاج الصالحين وقد أمضي التعريف من قبل من علق على المنهاج بعده كسيدنا الخوئي قدس سره والسيد الأستاذ مد ظله: وهو (الإجارة هي المعاوضة على المنفعة عملاً كانت أو غيره)، فالأول: مثل إجارة الخياط للخياطة، والثاني: مثل إجارة الدار.

والبحث في هذا التعريف في مقامين:

الأول: في حقيقة المعاوضة وشؤونها.

الثاني: في وساطة العين لتعلق الإجارة بالمنفعة.

المقام الأول: في حقيقة المعاوضة وشؤونها.

وقد ذكر في بحث البيع عدة جهات للبحث:

١- هل أن حقيقة المعاوضة هي مطلق المبادلة الإنشائية بين الطرفين العوض والمعوض؟ بغض النظر عن دخول العوض في ملك مالك المعوض أو غيره، وبغض النظر عن دخول المعوض في ملك مالك العوض أو غيره، حيث إن المنشأ المعاملي في البيع والإجارة مجرد المقابلة بين المالين بحيث يكون أحدهما بدلاً عن الآخر، من دون نظر لطرف المعاملة وهي وقوع البدلية لأي شخص من المتابعين أو غيرهما، فلذا قد تصدر المعاملة من غير المالك كالوكيل أو الولي أو الفضولي أو الغاصب، أم أن المعاوضة متقومة بحلول العوض محل المعوض الذي خرج منه، أو حلول المعوض محل العوض الذي خرج منه.

٢- على فرض أن المقوم للمعاوضة لدى المرتكز العقلائي هو حلول العوض في المحل الذي خرج منه المعوض، فهل المعاوضة تتضمن العوضية والبدلية من الطرفين، بمعنى أن المنشأ المعاملي عبارة عن دخول العوض في حوزة من خرج عن حوزته المعوض، ودخول المعوض في حوزة من خرج عن حوزته العوض؟ أم أن المقوم لها الطرف الأول فقط، من دون تضمن المنشأ المعاملي لجهة دخول المعوض في حوزة من خرج عنه العوض؟

٣- على فرض أن المعاوضة تقتضي المبادلة من الطرفين، فهل التبادل بين الطرفين منظور بالأصالة بحيث يكون المنشأ المعاملي هو حلول كل منهما محل الآخر في عرض حلول الآخر محله، أم أن المعاوضة تتضمن محورية لأحد الطرفين، كالمبيع في البيع، ويكون الثاني منظورا بالتبع؟

٤- على فرض وجود محورية لأحد الطرفين كالمبيع في البيع والمنفعة في الإجارة، فهل أن المناط في المحورية مجرد القصد في مقام الإنشاء؟ أم أن المائز الجوهري الذي يجعل أحد الطرفين هو المبيع والثاني هو الثمن - خصوصاً مع اتحاد الطرفين في الجنس، كأن يكون كلاهما نقداً أو كلاهما عروضاً - هو الغرض لكل واحد من طرفي المعاملة؟ فإذا كان الغرض لدى أحدهما التحفظ على مالية ما خرج منه دون نظر لخصوصية العوض فهو البائع والمؤجر، والمال المنقول من جهته هو المبيع والمنفعة، وإذا كان الغرض لدى أحدهما هو الاستفادة من خصوصية الآخر فهو المشتري صاحب الثمن والمستأجر صاحب الأجرة.

٥- هل أن المعاوضة بالبيع أو الإجارة مختصة بالمعاوضة في جهة الملكية، أم الأعم من جهة الملكية والحقية والمصرفية؟

ويقع البحث من خلال التعليق على التعريف المذكور في بعض الجهات المشار إليها:

الجهة الأولى: في تقوم المعاوضة بمطلق المقابلة بين الطرفين أم بدخول البدل في حوزة من خرج من حوزته المبدل؟ فقد أفاد السيد اليزدي قدس سره[1] (أن الدليل على اعتبار دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، إما العقل كما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره أو النقل، أما دعوى منع العقل فيمكن الخدشة فيه: بأن مقتضى إطلاق المعاوضة والمبادلة وإن كان هو دخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض، إلا أنه قابل للتقييد بالخلاف ولا يخرج بذلك عن حقيقة المعاوضة، لكفاية لحاظ كونه عوضاً عرفاً في صدقها) (فالمعتبر في حقيقة المعاوضة جعل الشيء في مقابل الشيء من حيث هما مع قطع النظر عن كون المالك هذا أو ذاك، وحينئذ فإذا أذن في بيع ماله لنفسه صح كأن يقول: (بع مالي لك)، وكذا في الشراء كأن يقول: (اشتر بمالي لك)، وأما النقل نحو ما ورد (لا بيع إلا في ما يملك) و(الضيعة لا يجوز ابتياعها إلا من مالكها)، ففي الاستناد له تأمل واضح، فإنه ناظر لصحة البيع لا لمفهومه، مضافاً إلى أن ظاهره إناطة صحة البيع بملك التصرف لا بملك المبيع، فإذا استند البيع للمالك بإذنه أو بإجازته كما مر في المثال فقد تحقق ملك التصرف.

وقد ذكر في متن مكاسب الشيخ الأعظم قدس سره عدة تأويلات للمثال نحو: (بع مالي لك) تعرض لها السيد اليزدي قدس سره[2] (وهي أربعة:

1- أن يكون من باب الحكم الشرعي بالملك آنا ما قبل البيع.

2- أن يكون في حكم الملك شرعاً من حيث ترتب أثر صحة البيع عليه.

3- أن يكون قوله: (بع مالي لك) إيجاباً للتمليك وبيعه على هذا الوجه قبولاً له، فيتقدم حينئذ ملكية البائع للمبيع التي تتحقق بإيجابه للبيع على ملكية المشتري له التي تتحقق بالقبول من جهته فتنتقل الملكية له.

4- أن يكون توكيلاً في تمليكه لنفسه، فيكون إيجابه للبيع مجمعاً لجهات وهي: قبوله لذلك التوكيل، وإيجاب وقبول لتمليكه لنفسه، وإيجاب للبيع الثاني.

ثم أشكل على ذلك بأن الوجهين الأولين لا موجب للالتزام بهما إلا مع وجود دليل شرعي ينص على الحكم بالملك أو تقديره، أو يقوم دليل على صحة البيع وينحصر وجه تصحيحه بذلك، والأول مفقود، والثاني على فرض وجوده فإن التوجيه غير منحصر بذلك، وأما الأخيران فمضافاً لعدم الدليل على تحقق الوكالة بهذا النحو أن تحقق التمليك بهذا النحو منوط بقصد الطرفين لا مطلقاً).

والنتيجة: أنه لا موجب للتكلفات والتمحلات بعد مساعدة المرتكز العقلائي على كون المعاوضة من سنخ المبادلة والمقابلة بين المالين، بغض النظر عمن هو المالك، ولذا لو باع الغاصب مال الغير لنفسه وقبل المشتري، ثم أجاز المالك البيع له لا للغاصب نفذ البيع بالإجازة بلا ريب شرعاً وبحسب المرتكزات لجامعيته للشرائط، مع أنه لوكان البيع متقوماً بنقل المبيع بعوض بنحو يدخل العوض في ملك الناقل لم يصح بالإجازة لا للمالك لعدم قصد النقل عنه، ولا للغاصب لعدم الملك، مما يكشف عن اشتمال البيع على منشئين: أحدهما: أصل المبادلة والمقابلة بين المالين بحيث يكون أحدهما بدلاً عن الآخر، والثاني: حلول الثمن في ملك الناقل للمبيع، والمالك أجاز المنشأ الأول له فتم البيع.

الجهة الثانية والثالثة: ما ذكره السيد الحكيم السبط قدس سره الشريف[3] تعليقاً على عبارة جده قدس سره [في منهاج الصالحين - كتاب البيع] في قوله: (معنى البيع قريب من المبادلة)، فقال: إن البيع يختلف عن المبادلة بأنه يبتني على المعاوضة، ولحاظ أحد الطرفين أصلا والآخر عوضاً، كما هو مفاد الباء دون العكس، (وتوضيح ذلك: أنه لما كان فقد الشيء موجباً لنحو من النقص، فتدارك ذلك النقص وسده بشيء آخر هو المقوم للمعاوضة، فالمعوض هو المنقود الملحوظ بالأصل، والعوض هو الثمن الذي هو مدخول الباء وهو الملحوظ بالتبع لكونه تداركاً للنقص الحاصل بفقد المبيع) (من دون فرق بين إيقاع المعاوضة والبيع بالعقد اللفظي وإيقاعهما بغيره، لأن المدار على قصد المعاوضة والبيع بمالهما من المعنى العرفي الذي تؤديه باء العوض).

وقال [4] (ويترتب على ذلك أمران: الأول: أنه لابد في المعاوضة مطلقا من دخول العوض في ملك من خرج عنه المعوض، وفي خصوص البيع من دخول الثمن في ملك البائع عوضا عن المبيع - كما هو المشهور - حفاظا على المعاوضة).

وقال تعليقاً على ما سبق من السيد اليزدي قدس سره في الجهة الأولى: (وفيه أن المدار في المعاوضة وإن كان على الصدق العرفي، إلا أنها لما كانت مبنية على تدارك النقص الحاصل بفقد المعوض لزم فيها صيرورة العوض في محل المعوض ودخوله في ملك من خرج منه).

وقال[5] : (ومن ثم لا مجال للبناء على ما ذكره قدس سره، وعلى ذلك لا يصح مثل: (بع مالي لك) إلا أن يرجع إلى الإذن في تمليكه قبل البيع، أو تملك ثمنه بعده، ولعل الثاني أظهر).

ثم قال: (الثاني: أن إطلاق المعاوضة وإن اقتضى خروج العوض من ملك من يصير له المعوض بالمعاملة، إلا أن ذلك ليس مأخوذاً في حقيقتها، لأن كون العوض تداركاً للمعوض إنما يقتضي تملك صاحب المعوض له، وإن كان القائم بالتعويض شخصاً ثالثاً غير آخذ المعوض).

وقال [6] : (وقد يوجه بعد الاعتراف بما ذكرنا في حقيقة المعاوضة بأن عوضية المعوض للعوض ملحوظة أيضا تبعاً لعوضية العوض للمعوض) (وفيه إن المعاوضة التبعية المدعاة إن كانت مستفادة من الباء فهي في غاية المنع، إذ ليس مفاد الباء إلا كون مدخولها عوضاً دون كونه معوضاً، وإن كانت مستفادة من دال آخر فليس هناك ما يدل على المعاوضة غير الباء) (لكنه خال عن الشاهد، بل لا يستنكر العرف شراء الإنسان بمال غيره بالنحو الذي سبق).

وحاصله أمور:

1- أن المعاوضة ليست مطلق المبادلة، بل هي متقومةٌ بتدارك النقص الحاصل نتيجة خروج المعَوض عن حوزة من كان بيده، فلا يتصور معاوضة بالبيع أو بالإجارة إلا بدخول العِوض في مِلك من خرج عن مِلكه المعَوض كي يتحقق تدارك النقص الحاصل بخروج المعَوض.

2- أن للمعاوضة محورية تتمركز في المعوض، وهو المبيع في البيع والمنفعة في الإجارة، لا أنها متساوية النسبة للطرفين - المعوض والعوض - بل إن المنقود - أي ما يبذل بإزائه النقد مثلاً - فهو المعَوض بالأصالة، وما كان تداركاً له وسداً للنقص الذي حصل بخروجه فهو العِوض.

3- أنه لا يعتبر في المعاوضة دخول المعَوض في مِلك من خرج عن مِلكه العِوض؛ وإنما المدار على الركن الأول - أي دخول العوض في مِلك من خرج عن مِلكه المعَوض -، لا دخول المعَوض في مِلك من خرج عن مِلكه العِوض، فمثلاً من باع البضاعة بثمنٍ فلا بُدّ في تحقق البيع من أن يدخل الثمن في مِلك من خرجت عن مِلكه البضاعة، ولا يعتبر دخول البضاعة في مِلك من بذل الثمن؛ إذ يمكن أن يكون المالك للثمن شخصاً ثالثاً غير المتبايعين، فيدخل المعَوض في مِلك المشتري وإن لم يكن هو الباذل للثمن مثلاً.

وفي ما أفيد ملاحظتان:

1- أن تحديد المنشأ المعاملي في البيع بتقومه بدخول العوض في ملك من خرج عنه المعوض محل منع، والوجه فيه أنه إن كان المنظور في تعريف البيع بذلك دعوى أن البيع والإجارة هو فعل البائع مقابل الشراء الذي هو فعل المشتري، لذلك يتعين تحديده من هذه الحيثية ففيه أن من الواضح أن البيع كحقيقة اعتبارية معاملية حقيقة ذات طرفين، ومفاهيم المعاملات المالية من البيع والإجارة ونحوها حاكية عن نفس ماهية المعاملة من حيث هي، لا من حيث أحد طرفيها وهو الإيجاب، وإن كان المنظور هو تحديد المعاوضة بيعا أو إجارة بما هي - لا من زاوية خصوص فعل البائع أو المؤجر -، لكن الكاشف عن حقيقة المعاوضة هو مفاد (الباء) لتقوم إنشائها عرفاً بباء المبادلة كما تكرر في كلامه قدس سره، فالطريق لجلاء الحقيقة تحديد المعاوضة من هذه الزاوية، ففيه أن من الواضح أن المجدي في تنقيح حقيقة المعاوضة كأي معاملة اعتبارية هو النظر لذات المعاملة بغض النظر عن المبرز، سواء كان لفظاً عربياً أم غيره، أو فعلاً معاطاتياً - والمعاطاة كما هو واضح هي مبادلة ومفاعلة من الطرفين - بمعنى أن المقابلة بالباء المعاطاتي لا اللفظي مشتركة بين الطرفين البائع والمشتري بنسبة واحدة، وإن كان المنظور في ما مضى جميعه هو تحديد المفهوم العرفي لعنوان البيع لوروده في لسان الأدلة فهو خلاف صريح كلامه من النظر لمطلق المعاوضة.

2- بما أن المنظور كما هو ظاهر سياق كلامه حيث جاء تعليقاً على عبارة المنهاج - التي ذكر فيها كون معنى البيع قريب من المبادلة - هو تحديد حقيقة المعاوضة الحقيقية بما ذكر، فما أفيد من التفكيك بين طرف المعوض وطرف العوض ليس مطابقاً للمرتكزات العقلائية، فإن الحقيقة الاعتبارية لهذه المعاملات من البيع والإجارة ونحوها في العرف العقلائي إما متقومةٌ بالمعاوضة الفعلية الواقعية، أو متقومةٌ بالمبادلة والمقابلة العرفية الإنشائية بين المالين، فإن كانت متقومةً بالمعاوضة الواقعية فكما يعتبر فيها دخول العِوض في مِلك من خرج عن مِلكه المعَوض فإنه يعتبر دخول المعَوض في مِلك من خرج عن مِلكه العِوض، أي حلول كل منهما محل الآخر لحصول النقص الذي يقتضي التدارك ببدله من كلا الطرفين العوض والمعوض.

وإن كانت متقومة بالمعاوضة العرفية أي مطلق المبادلة والمقابلة بين المبيع والثمن في البيع أو بين المنفعة والأجرة في باب الإجارة، فالمبادلة لا تقتضي حلول أحدهما محل الآخر لتحقق مطلق المبادلة والمقابلة بينهما وإن لم يدخل أحدهما فيما خرج عنه الآخر كما سبق بيانه في الجهة الأولى، فالتفكيك بين الطرفين غير فني.

الجهة الرابعة و الخامسة : ما يقتنص مما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره الشريف[7] تبعاً للمحقق الإيرواني قدس سره الشريف[8] حيث إن مصب كلاميهما في تحديد مفهوم البيع مقابل الاشتراء والتمييز بينهما، لا في حقيقة المعاوضة بغض النظر عن باب البيع - وعن كون البيع بمعنى الإيجاب - إلا أنه يمكن أن يستفاد منه نظرية في سائر المعاملات المعاوضية لدى العرف العقلائي - والتي في طليعتها البيع والإجارة - بأن يقال: إن المبادلة والمقابلة بين المبيع والثمن مثلاً ليست متساوية النسبة، وإنما الملحوظ فيها أخذ طرف المعوض على نحو المحورية والأصالة، والعوض على نحو التبع، وذلك يقتضي تعيين المائز بين المعوض والعوض من أجل معرفة محور المعاملة، والمائز أن يكون المعَوض ما كان الغرض من نقله التحفظ على ماليته، والعِوض ما كان الغرض من بذله حيازة الخصوصية.

وبيان ذلك: أنه عندما يتحقق بيعٌ بين طرفين، كأن يبيع أحدهما جهازاً أو بضاعةً للطرف الآخر، فإن ما يقصده مالك الجهاز والبضاعة - كسائر التجار وأصحاب المحلات والدكاكين - ليس الوصول إلى خصوصيةٍ في الثمن من حيث كونه دولاراً أو ديناراً أو ورقاً صقيلاً أم غيره ؛ وإنما الغرض للمالك في هذه البيوع التحفظ على مالية رأس المال، أي بما أن الجهاز مثلا جزءٌ من أمواله فغرضه من المبادلة أن يحفظ ماليته عن النقص، فالثمن ترميم وتعويض لأيّ خللٍ أو فجوة تحصل في مستوى ماليته كما هو الشائع في السوق، بينما غرض باذل الثمن هو الانتفاع بخصوصية المبيع، فإنه ما بذل الثمن تجاه الجهاز أو تجاه الغذاء أو تجاه الدواء إلا لأنه يريد الانتفاع بخصوصية المبيع، فأحدهما - وهو البائع - لا نظر له لخصوصية الثمن؛ وإنما نظره للتحفظ على ماليته، بينما نظر المشتري للانتفاع بخصوصية المبيع وإلا لما بذل الثمن، فلذلك كان صِدق المعاوضة والمبادلة متقوماً بكون أحد الطرفين محورا للمعاملة، وكون المائز له هو الغرض، فالغرض من أحد الطرفين هو التحفظ على المالية، بينما الغرض من قبل الثاني هو الانتفاع بخصوصية ما انتقل إليه ودخل في حوزته.

وما ذكر محل تأملٍ، والوجه في ذلك: أن دعوى كون الغرض النوعي من المبادلة بين المبيع والثمن هو تحفظ البائع على المالية وانتفاع المشتري بالخصوصية بحيث يصنع ذلك محورية للأول في المعاملة، مما ليس عليه شواهد عقلائية؛ فإن الأغراض العرفية متنوعة، فقد تكون المبادلة والمبايعة لحاجة كل منهما لمقابله، وقد تكون المعاملة بين الدول لحاجة كل دولة لما في حوزة الأخرى كمبادلة النفط بالغذاء والدواء، أو مبادلة المعادن بالعملة الصعبة كالدولار مثلاً، وقد يكون المشتري هو الناظر لحفظ المالية دون البائع، كما لو اشترى البضاعة تاجر من تاجر آخر يحتاج للنقد المعين، فكان غرض الأول مجرد حفظ المالية في تجارته، وغرض الثاني لرفع حاجته في النقد، وقد تكون المعاملة بين نقدٍ ونقدٍ، أو بين أسهمٍ وأسهمٍ. ودعوى خروج هذه المعاملات عن كونها بيعا ممنوعة فإنها من أوضح مصاديق البيع لدى العرف العام، إذ لا تتقوم المعاوضة عرفا بالمبادلة بين عينٍ ونقد، بل للبيع أصناف، كما أن الأغراض في بيع العين بالنقد مختلفة.

وحاصل الكلام في المقام الأول وفاقاً للسيد اليزدي قدس سره الشريف: أنه لا برهان لا من عقلٍ ولا من مرتكزٍ عقلائي على أن البيع أو الإجارة من المعاوضة الواقعية؛ التي تقتضي حلول كلٍّ من الطرفين محل الآخر.

نعم، في مقام الإطلاق ينصرف الإطلاق إلى المعاوضة الواقعية وهي حلول كلٍّ منهما محل الآخر، إلا أن هذا ليس مقوماً لحقيقة البيع أو الإجارة أو غيرها من المبادلات؛ بل يكفي في تحقق المبادلة مطلق المقابلة الإنشائية وهو هذا بهذا، وإن لم يحل العِوض محل المعَوض أو لم يحل المعَوض محل العِوض من حيث المِلكية أو الحقية أو نحو ذلك، كما في البيع الصادر من الفضولي والغاصب، فإنه معاوضة عرفية بلا ريب، وإن لم تتضمن حلول أحدهما محل الآخر في جهته.

وهو الموافق لما هو المتعارف اليوم في المعاملات خصوصاً في منصات البيع والشراء بين الشركات والدول، وبالخصوص في المعاملات الرقمية الجارية في تبادل العملات والحقوق والأسهم، حيث لا يرى فيها أي اعتبار لحلول أحد البدلين محل الآخر من حيث المِلكية أو الحقية.

المقام الثاني: هل يعتبر في تعلق الإجارة بالمنفعة وساطة العين؟ بأن يقول: (آجرتك الدار لأجل تمليك المنفعة) فالعين لابد من وساطتها في الإجارة، أو يمكن أن يقول: (ملكتك منفعة الدار بكذا) من دون تعلق الإجارة بالعين؟

إن ظاهر تعريف سيد المستمسك قدس سره الشريف بقوله: (الإجارة هي المعاوضة على المنفعة عملاً كانت أو غيره) عدم اعتبار وساطة العين في تحقق عقد الإجارة.

والمترتب على ذلك أمران:

الأمر الأول: ما أشار إليه سبطه فقيه أهل البيت عليهم السلام السيد الحكيم قدس سره الشريف [9] ، حيث نظر إلى التعريف المذكور فقال: (ومن هنا قد يدعى اختصاص الإجارة بما إذا كانت المعاملة واردة على العين بلحاظ منفعتها، لا على المنفعة ابتداءً. ولذا تنسب الإجارة للعين) فيقال: آجرتك العين، لا ملكتك المنفعة (وتكون هي) يعني العين (الموضوع لها) أي أن الموضوع لعقد الإجارة هو العين وإن كان الغرض هو تمليك المنفعة.

نعم يمكن فرض المعاوضة على المنفعة بنفسها ابتداءً، كما إذا قال: (ملكتك منفعة الدار إلى سنة)، ولكن يمكن دعوى خروج ذلك عن الإجارة؛ لعدم أخذ العين في موضوع المعاملة، وإن كان هو غير مهم بعد كون المعاوضة المذكورة نافذة وإن لم تكن إجارة، فهي عقدٌ، فتكون نافذة بمقتضى عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[10] .

وفي هذا السياق ما ذكره الآخوند الخراساني قدس سره الشريف[11] من أن الإجارة إضافة بين العين والمُستأجِر ثمرتها تملك المنفعة.

ولكن يلاحظ على ذلك: أن دعوى تعلق الإجارة بالعين أو أن الإجارة إضافة بين العين والمُستأجِر، محل تأمل فهل المقصود بهذه الإضافة إضافة اعتبارية تفضي إلى تمليك المنفعة؟ أو المقصود بالإضافة مجرد إضافة إنشائية؟ مع كون المقصود لُباً هو تمليك المنفعة.

فإن كان المقصود هو الأول، أي أن المنشأ المعاملي بالإجارة إضافة اعتبارية للعين، ثمرتها تمليك المنفعة، ففيه أنه لا يوجد إضافة أو علقة اعتبارية تفضي إلى تمليك المنفعة وراء تمليك المنفعة نفسه، فإن المُنشأ المعاملي بعقد الإجارة لا يخلو عن كونه إما تمليك المنفعة - كما هو التعريف الأول -، أو تسليط المُستأجِر على العين للانتفاع بها - كما هو التعريف الثاني -، وأما كون المُنشأ المعاملي بعقد الإجارة إضافة اعتبارية ثمرتها تمليك المنفعة فهو مما لم نجد له شاهداً.

وإن كان المقصود بالإضافة مجرد إضافة إنشائية، أي بما أن المنفعة عرض يقوم بالعين وليس وجوداً مستقلاً، لذلك فمقتضى ذلك تعلق إنشاء الإجارة للعين، فيقول: (آجرتك العين) ومعنى آجرتك العين يعني ملكتك منفعتها، حيث أشرب في مدلول (الإيجار) تمليك المنفعة، وإنما أضاف الإجارة إلى العين إضافة إنشائية لا أكثر، لكون المنفعة عرضاً قائماً بالعين، فإذا كان هذا هو المنظور فلا مانع من إنشاء عقد الإجارة بـ: (ملكتُك المنفعة للدار إلى سنة بعوض)، فيتحقق نفس المنظور في المُنشأ المعاملي بعقد الإجارة لباً، ولا يتوقف ذلك على الإضافة إلى العين.

 


[9] کتاب الإجارة، الطباطبائی الحکیم، السید محمد سعید، ص142.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo