< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/12

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: /تعریف الإجارة /

والحاصل: أن الثمرة الثالثة التي ذكرها بعض الأعلام رحمه الله[1] كشاهد على كون تحديد الإجارة بما هو مطابق للقانون الوضعي تحديداً غير موافق للمرتكز العقلائي، وهو أن لازم هذا التحديد المذكور في القانون المدني الوضعي تمكن المؤجر أن يؤجر العين في فترة الإجارة لغير المستأجر فيما إذا كان قادراً على فسخ الإجارة الأولى، أو قادراً إرضاء المستأجر الأول، بينما مقتضى المرتكز العقلائي أن تكون إجارة العين بعد إيجارها من مستأجر معين باطلة، أو فقل بتعبير أدق إنها إجارة فضولية، وليس ذلك إلا لأن المنفعة ملك للمستأجر.

ولكن هنا عدة تعليقات :

الأولى: أن ما أفيد من أن الحق الناشئ عن الإجارة حق شخصي محض باتفاق فقهاء القانون الوضعي ليس تاماً، فقد ذكر السنهوري[2] أنه لاشك أن للمستأجر حقاً شخصياً يخوله المطالبة بتسليم العين وتعهدها بالصيانة وضمان التعرض لها من قبل المؤجر وضمان العيوب الخفية، ولكن هل له حق عيني مضافاً لذلك ؟ ذهبت بعض المحاكم الفرنسية في محكمة باريس عام 1808م وبروكسل عام 1811م لثبوت حق عيني مضافاً للشخصي، وطالب الأستاذ ترولون وجماعة بجعل حق عيني له من أجل إمكان رهنه رهناً رسمياً، وتمكن المستأجر للأرض الزراعية من التصرف فيها بتغييرات ضرورية للإصلاح الزراعي، بلحاظ أن كونه من قبيل الحق الشخصي المحض إنما هو من بنود القانون الروماني والفرنسي والمصري القديم، بينما نص القانون النمساوي في المادة (1095) عام 1929م على أن للمستأجر حقاً عينياً إذا سجل عقد الإيجار بشكل رسمي. ثم توالت التشريعات الاستثنائية والدائمة في فرنسا ومصر التي تعطي لحق المستأجر خصائص الحق العيني - ومنها حقه في تجديد مدة الإيجار وإن لم يرض المؤجر، ومنها حق الملكية التجارية في المكان المستأجر - الشبيه بحق السرقفلية، وذكر منها[3] أنه إذا اشترى العين المستأجرة أحد انتقلت إليه محقوقة بحق المستأجر، كما أن حقه يسري مع حق الدائنين الحاجزين.

الثانية: ذكر بعض الأعلام رحمه الله [4] أن الفارق بين الحق الشخصي والحق العيني أن الحق الشخصي موضوعه الفعل كما في عقد الضمان، حيث إن مؤدى عقد الضمان أن للدائن حقاً على الضامن في تسديد الدين عند تخلف المدين، ولذلك لا يشترط في صحة التعهدات أكثر من القدرة على أداء العمل، بينما يشترط في صحة الحق العيني زائداً على القدرة أن يكون متعلق الحق العيني موجوداً ومملوكاً له وتحت سلطانه بالفعل، كما في ملكية المنفعة وملكية العين.

ولكن هذا التفريق - بجعل متعلق الحق الشخصي هو الفعل - ليس مطابقاً بالدقة لما ذكره فقهاء القانون الوضعي، فقد ذكر السنهوري أن الفارق الأساس بين الحقين يتلخص في أن الحق العيني يعني التصرف بلا وساطة شخص آخر، بينما الحق الشخصي يتوقف على وساطة طرف آخر، فالعمدة في الفرق هي إناطة الشخصي بتوسط طرف دون العيني، لا تقوم الشخصي بتعلقه بالفعل فقط، ولذلك نص في مادة (451)[5] على التفصيل في الحق الشخصي نفسه، بأن الحق الشخصي على قسمين: حق شخصي متعلق بالفعل محضاً كحق الدائن على المديون، وحق شخصي متعلق بفعل متصل بالعين كحق الإيجار، فإن حق الإيجار ليس متمحضاً في التعلق بالفعل بل في فعل متصل بالعين، لأن حق المستأجر في تمكين المؤجر من الانتفاع بالعين بحيث تكون له سلطنة على الانتفاع بها، وليس حقاً متعلقاً بالفعل محضاً كما في عقد الضمان.

ونقل في [6] في الحاشية عن الأستاذ عبدالحي حجازي - وهو من فقهاء القانون المصريين - أن العلاقات المالية تنقسم إلى قسمين: علاقات عينية كالبيع، حيث لا يترتب على البيع إلا ملكية العين، وهي علاقة عينية محضة، وعلاقات شخصية وهي نوعان: حقوق انتفاع، وحقوق دائنية كحق الدائن على المدين، ومن حقوق الانتفاع الإجارة، ولأن للمستأجر حق الانتفاع فله بيعه وهبته والإيجار عليه.

كما ذكر في[7] أن المستأجر وإن لم يكن له حق عيني – وهو ملك المنفعة - إلا أن له حق الحيازة فيها، فلا يزاحمه مزاحم.

ونقل في[8] عن الأستاذ منصور مصطفى منصور - من فقهاء القانون -: (أن الغرض المقصود من الإجارة هو حق المستأجر في الانتفاع بالعين، وليس التزام المؤجر بأن يمكنه منها إلا وسيلة لتمكين من الانتفاع بوجه كامل) مما يعني أن مرجع الإجارة لباً إلى سلطنة على الانتفاع، لا أن الغرض المنظور في باب الإجارة هو التمكين، بل الغرض المنظور في باب الإجارة هو أن يكون للمستأجر حق في الانتفاع.

ولذلك احتج من بنى على أنه حق عيني مضافا للحق الشخصي أن القانون الروماني القديم فرق بين حق المستأجر وحق المنتفع، كما في حق الانتفاع الذي يعطى بوصية (وهذا ما يعبر عنه في الفقه بحق السكنى، كما لو أوصى الميت بأن يكون لزوجته حق في ثلث داره ما دامت على قيد الحياة فهذا هو حق المنتفع، وجعل الأول - يعني حق المستأجر - حقاً شخصياً دون الثاني) بأنه لا فرق بينهما من حيث ما يقتضيه العقد، فكما أن عقد الوصية يثبت حقاً للزوجة في السكن كذلك عقد الإيجار يثبت حقاً للمستأجر في العين وهو حق الانتفاع.

الثالثة: ذكر أنه للمؤجر - بناءً على أن الحق الناشئ عن الإجارة حق شخصي - أن يؤجر الدار وإن كانت مستأجرة من شخص آخر، لأن المفروض أن المستأجر الأول لم يملك المنفعة، لكن الظاهر التفات فقهاء القانون الوضعي لهذه النقطة ومعالجتها، فقد ذكر السنهوري في[9] أن من ضمان المؤجر للمستأجر ضمان التعرض الشخصي للانتفاع بالعين، وهو نوعان: تعرض مادي كأن يتصرف في العين بما يحول دون الانتفاع بها، فإن أي تصرف من المؤجر في العين بما يحول دون الانتفاع بها تصرف مضمون بغرامة، وتعرض قانوني، كأن يعطي حقاً عينياً للغير أو شخصياً يتعارض مع حق المستأجر.

وقد استعرض هنا ثلاثة فروع:

١- في حق المشتري للعين المؤجرة إذا لم يكن تاريخ الإيجار أسبق من تاريخ البيع، كما لو آجر العين ثم باعها فأصبحت العين ملكاً لشخص آخر، فيكون قد أعطى حقاً عينياً للغير لأنه باعها، والبيع يورث حقاً عينياً، إلا أنه ليس للمشتري الجديد أن يزاحم المستأجر في شيء، وإلا لكانت مزاحمته مضمونة على المؤجر الذي باعه العين.

٢- لو أعطى شخصاً آخر حقاً شخصياً، كما لو آجر العين للثاني بإجارة صحيحة بعد أن آجرها من الأول، فإن للمستأجر أن يطلب من المؤجر فسخ الإجارة الثانية، أو منع المستأجر الثاني من المزاحمة، فإن لم يفعل فله - يعني للمستأجر الأول - فسخ إجارته أو إنقاص الأجرة مع التعويض عن الضرر الذي لحق به نتيجة مزاحمة المستأجر الثاني.

3- ذكر في[10] لو وقعت إجارتان لشخصين في فترة واحدة أو متداخلة وكان المؤجر لكل منهما كامل الأهلية، فهنا هل المقدم من وضع يده أولاً على العين فالإجارة له؟ أو المقدم من سجل عقد الإجارة تسجيلاً رسمياً قبل غيره؟

والنتيجة أنه لم يفرض في القانون الوضعي أن للمؤجر أن يؤجر الدار التي آجرها من شخص من دون ضوابط وقيود، كي يقال بأن المرتكز العقلائي يرى بطلان الإجارة الثانية مطلقاً، بل لا يبعد صحتها لدى المرتكز العقلائي مع بناءها على الضوابط المشار إليها.

التعليقة الرابعة: أفيد [11] أن الإجارة الثانية باطلة وإن كانت بعد فسخ الأولى أو إرضاء المستأجر الأول، وليس بواضح، فإنه مع فسخ الأولى فسخاً شرعياً فلا مانع من صحة الثانية، فإن مقتضى الفسخ عود المنفعة ملكاً للمؤجر، كما أنه لو كانت الثانية بإذن المستأجر فالإجارة له أو أنه نقل ماله من حق أو ملك للمؤجر فتقع الإجارة عنه.

هذا ما يتعلق بالفرق في المورد الأول، وهو الإجارة على الأعيان بين الحق الشخصي والحق العيني، وظهر مما ذكرنا مفصلاً أن دعوى كون الحق الناشئ عن الإجارة حقاً شخصياً مخالف ومناقض للمرتكزات العقلائية مما يفتقر للشواهد عليه، وغاية ما نسلمه أن الإجارة تعني أن للمستأجر حقاً في العين. وأما كون ذلك الحق بنحو الحق العيني بنحو الملك أو الحق الشخصي - وهو السلطنة على الانتفاع - فهو مما لامعين له.

المورد الثاني: وهو الإجارة على الأعمال، كما إذا استأجر الخياط أو النجار أو ما أشبه ذلك، فهنا قد ذهب الفقه الوضعي إلى أنه لا ملك - أي لا يملك المستأجر على الأجير العمل-، خلافاً لما هو المشهور - في الفقه - من أن إجارة الأعمال تعني ملك المستأجر العمل على ذمة الأجير. وقد يترتب على تحديد محتوى الإجارة على الأعمال بعض الثمرات العملية، ولعل من أهم تلك الثمرات أنه على القول بحصول الحق العيني بمعنى أن المستأجر يملك عمل الأجير (أي يحق للمستأجر أن يطالب الأجير بقيمة العمل إذا لم يأت به على النحو المقرر حتى فات الوقت)، فإذا استأجره على بناء الدار لمدة سنة فانتهت السنة ولم يأت بالبناء على الوجه المقرر فيحق للمستأجر أن يطالب الأجير بملكه، لأنه ملك عليه عملاً معيناً، وحيث إنه لم يؤد إليه ملكه حتى فات الوقت فقد أتلف عليه ملكه وعليه ضمانه.

هذا بناءً على التعريف الفقهي، بخلاف ما إذا لم يكن للمستأجر إلا الحق الشخصي على الأجير فإنه مخير بين أن يفسخ الإجارة ويرجع في الأجرة التي دفعها وبين أن يمضي وينقص من الأجرة بمقدار ما فاته من المنفعة. (وسيأتي في بحث هذا الفرع أن المشهور من فقهائنا ذهب إلى عدم الفسخ، مع أنهم يقولون بملك المستأجر للعمل).

(هذا كله إذا كان التعهد بالقيام بالعمل بنحو شخصي، لا ما إذا كان التعهد بمطلق العمل الأعم من أن يصدر منه أو من غيره، كما في الجعالة بناءً على أنها من العقود لا من الإجارات). وينتهي بعض الأعلام رحمه الله في [12] إلى أن ما ذكره القانون المدني الوضعي من أنه لا يترتب على الإجارة في الأعمال أكثر من الحق الشخصي مما يمكن تأييده ببعض المرتكزات، والحال بأن التفكيك بينهما فيما هو مقتضى عقد الإجارة تفكيك غير عرفي.

هذا تمام الكلام في الاتجاه الأول في تعريف الإجارة.


[1] کتاب الإجارة، الحلي، حسین، ج1، ص27.
[2] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص633.
[3] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص656.
[4] کتاب الإجارة، الحلي، حسین، ج1، ص26.
[5] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص658.
[6] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص616.
[7] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص355.
[8] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص655.
[9] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص299.
[10] الوسیط في شرح قانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ج6، ص390.
[11] کتاب الإجارة، الحلي، حسین، ج1، ص27.
[12] کتاب الإجارة، الحلي، حسین، ج1، ص30.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo