< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/08

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: / /مفاهیم العامة فی ابواب المعاملات

 

المنبه الثالث: قد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) أن المعاطاة بيعٌ وليست عقداً.

ويلاحظ عليه: أن التفكيك بين بيعية المعاطاة وعقديتها منافٍ للمرتكزات العرفية، فإما أن يلتزم بأنها ليست بيعاً أصلاً لما نسب إلى مشهور الفقهاء من أن المعاطاة لا يترتب عليها إلا الإباحة، أو يقال إنها عقد، وأما أنها بيعٌ مفيدٌ للتمليك بحيث تترتب عليه آثار المِلك ومع ذلك فليست عقداً، فهو تفكيك غير عقلائي، فإن السيرة العقلائية الصادرة عنهم - بما هم عقلاء - واضحة الجري على عدم التفريق بينها وبين البيع المبرز بقول أو إشارة.

ولعل مدعى المحقق النائيني (قدس سره الشريف) بأن المعاطاة ليست بعقد مستند لأحد وجهين:

الوجه الأول: أن الفعل لا دلالة له إلا على انشاء التمليك ، دون حيثية الالتزام والتعهد، فمبادلة المالين في البيع أو مبادلة الأجرة والدار في الإجارة لا يستفاد منه أكثر من إنشاء التمليك، ولا يتضمن حيثية الالتزام والتعهد.

وفيه: أن الفعل لا يقصر عن القول في دلالته عرفاً على ما يدل عليه القول، فإن كانت المعاطاة لا تدل إلا على التمليك فالقول كذلك، وإن كان القول دالاً على الالتزام والتعهد فالمعاطاة كذلك، فإن الفعل كالقول في دلالته عرفاً إن لم يكن أدل على ترتيب الآثار التامة على المعاملة ومنها حاجة الفسخ للمسوغ، خصوصاً مع اكتنافه بالقرائن الحالية الكاشفة عن كون المراد بتبادل المالين ترتيب آثار الملكية عليهما.

الوجه الثاني: قيام الإجماع على كون المعاطاة معاملة جائزة، وهذا الإجماع كاشف عن عدم عقديتها إذ لو كان عقداً لشمله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾[1] فكان عقداً لازماً، فقيام الإجماع على أنه معاملة جائزة هو بنفسه كاشف عن عدم عقديته.

وفيه: أولاً: عدم ثبوت صغرى الإجماع على نفي العقدية عنها، فالمتأخرون بين من نفى كونها بيعا من الأصل ومن قال نفى إفادتها للملك ومن قال إنها بيع جائز، ومن قال إنها بيع فاسد، فقد أفاد في مفتاح الكرامة[2] (ظاهر قواعد الشهيد الإجماع على أنها لا تفيد الملك فلا تكون عند هؤلاء بيعاً حقيقة وإنما هي إباحة، كما هو صريح الخلاف والمبسوط والغنية والسرائر والميسية والروضة والمسالك، قال: (لإطباقهم على أنها ليست بيعاً حال وقوعها)، وفي الغنية الإجماع عليه، وفي عبارتي الشرائع واللمعة: (أنه المشهور بل كاد أن يكون إجماعاً)، وفي التذكرة: (أن الأشهر عندنا أنه لا بد من الصيغة فلا تكفي المعاطاة، وفي المختلف: (أنه مذهب الأكثر)، وفي تعليق الإرشاد: (أن الأظهر بين عامة المتأخرين من الأصحاب أن المعاطاة تفيد الإباحة).

وظاهر ما مضى اختلاف عباراتهم بين دعوى الإجماع ودعوى الشهرة، كما أنه لا يوجد نقل للإجماع عن القدماء ما سوى عبارة الخلاف والمبسوط - في نفي إفادتها للملك -.

وفي مقابل ذلك إطلاق عبارة المفيد في المقنعة[3] : (والبيع ينعقد عن تراضٍ بين الاثنين في ما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعاً وتراضيا بالبيع وتقاضيا وافترقا بالأبدان) الشامل للبيع اللفظي والمعاطاتي، وقال في جامع المقاصد[4] : (فإن المعروف بين الأصحاب أنها بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم خلافاً لظاهر عبارة المفيد، ولا يقول أحد من الأصحاب إنها بيع فاسد سوى المصنف في النهاية). وقد ناقش سيد مصباح المنهاج قدس سره في دعوى الإجماع بنحو مفصل [5] .

ثانياً: على فرض أنه إجماع فهو إجماع مدركي؛ باعتبار أن المشهور الذي نسب إليه أنه ذهب إلى أن المعاطاة معاملة جائزة قد بنى على أن المعاطاة لا تفيد إلا الإباحة، فلأنهم يرون أن المعاطاة لا تفيد إلا الإباحة لذلك اعتبروها معاملةً جائزة، وإلا لو قالوا بأن المعاطاة تفيد المِلك لم يُحرز منهم نفي كونها عقداً كي لا تندرج تحت ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.

هذا تمام الكلام في مناقشة ما أُفيد في كلمات المحقق النائيني.

المحتمل الرابع لتضمن العقد حيثية الالتزام: ما ذكره بعض الأعلام (رحمه الله) [6] و كلامه يتضمن عنصرين:

العنصر الأول: قال (رحمه الله): فإن العقد على أساس التحليل المذكور فيه حيثيتان:إحداهما: المضمون المعاملي المراد إحداثه كالتمليك بالعوض أو (التمليك) مجاناً، (وهذا لا خلاف فيه بين الجميع).

والحيثية الأخرى: حيثية التعهد والالتزام بذلك المُبرز (وهو التمليك) بنفس إنشاء الحيثية الأولى. (وهذا يعني أن تحقق الحيثيتين التمليك والالتزام بإنشاء واحد).

والحيثيتان وإن اتحدتا في عالم الإنشاء والإثبات إلا أنّهما متغايرتان بحسب عالم التحقق والثبوت، (أي أنهما في عالم الإنشاء واحد لكن في عالم الاعتبار العقلائي - يعني عالم ترتيب الآثار - هما متغايرتان)، والعاقد كما يملّك المال للطرف (الآخر) كذلك يعطيه التزامه، (يعني أن العاقد يقوم بتمليكين)، فمثلاً: إذا قال: (بعتك المال بعوض) فهو يملكه المال ويملكه التزامه بالمِلك، كما أن الثاني عندما يقول: (قبلتُ) يُملك الأول الثمن ويملكه التزامه بالمعاملة)، والعاقد كما يملّك المال للطرف كذلك يعطيه التزامه، أي يتعهد ويلتزم له بذلك من خلال إنشاء العقد، ومن هنا (يعني لأجل تغايرهما التمليك والالتزام) يعقل التفكيك بين الأمرين، بأن يسترجع تعهده والتزامه دون المال. (فهو لا يرجع عن تمليك المال لكنه يرجع عن تمليك الالتزام بجعل الخيار، فمتى ما جعل الخيار في المعاملة فقد تراجع عن تمليك الالتزام، وإن كان لم يتراجع عن تمليك المال).

ثم قال (رحمه الله): وإن شئت قلت: إنّ التعهّد له إضافة إلى المال والمضمون المعاملي، وله إضافة إلى الشخص الآخر، (فإضافة التعهد إلى المال تعني تمليكه للآخر، وإضافة التعهد إلى الشخص الآخر تعني أنه التزم له وتعهد بالثبات على التمليك وعدم رفع اليد عنه، وله أن يرجع عن ذلك بجعل الخيار)، فيمكن للعاقد أن يجعل الإضافة الاُولى باختياره، وهو معنى الخيار.

العنصر الثاني: قال (رحمه الله): وليس لازم ذلك أن يكون في العقد العهدي إنشاءان أو مُنشئان، بل مُنشأ واحد وإنشاء واحد، وهو الالتزام والالزام بالمضمون المعاملي كالتمليك بعوض في البيع (أو في الإجارة)، فإن الالتزام أو التعهد والإلزام كما يتعلّق بالأفعال (مثل النذر واليمين والشرط، فهذه التزامات تتعلق بأفعال خارجية، كذلك قد) يتعلّق بالنتائج (والنتائج يعني العلقة الوضعية، كأن يلتزم بالمِلكية، ويلتزم بالزوجية، ويلتزم بالحقية، فهذه نتائج وعلقات وضعية)، ويكون ايجاداً لها (يعني أن نفس الالتزام بالتمليك إيجادٌ للتمليك) إذا كان العقد صحيحاً.

هذا غاية ما اُفيد في كلامه (رحمه الله).

ويلاحظ على ذلك:

أولاً: بأنه مع فرض تغاير الحيثيتين عرفاً، وأن لكل من الحيثيتين في الاعتبار العقلائي - بحسب مبناه - أثراً يختلف عن أثر الحيثية الأخرى، فلا ينسجم ذلك ارتكازاً مع وحدة المُنشأ؛ إذ لا معنى لوحدة المُنشأ مع أن المُنشأ حقيقتان متغايرتان بحسب الاعتبار العقلائي ولكل من الحقيقتين آثار تختلف عن آثار الحقيقة الأخرى، فإن مقتضى اختلاف الحقيقة الاعتبارية بينهما كونهما مُنشئين، لا أنهما عنوانان منتزعان عن مُنشأ واحد، بأن يقوم العقل بتحليل ذلك المُنشأ الواحد ويفكك فيه بين حيثية الالتزام وحيثية التمليك.

وهذا نظير المُنشأ العقدي والمُنشأ الشرطي، فإنه لو قال البائع: (بعتك هذا الكتاب بكذا بشرط أن تدفع الثمن نقداً أو تدفع الثمن فوراً)، فإنه لا إشكال في أن هناك مُنشأين، مُنشأ عقديا وهو التمليك، ومُنشأ شرطيا، حيث أن لكل منهما آثاراً تختلف عن آثار الأخرى، فمتى اختلفت الحقائق في مقام الاعتبار العقلائي لاختلاف الآثار تعدد المُنشأ بحسب العرف العقلائي.

ثانياً: إن ما ذكر في العنصر الثاني من أن الالتزام بالتمليك إيجادٌ للتمليك لا يقصد به الإيجاد الاعتباري بحسب الظاهر؛ إذ لا إشكال في أن التمليك يحتاج إلى إنشاء، وأن مجرد الالتزام بالتمليك لا يوجد التمليك اعتباراً، مما يعني أن مقصوده بالإيجاد ما تعرض إليه [7] من قوله (رحمه الله): لأنّ ظاهر حال كل منشئ للتمليك أنّه جادّ في إنشائه وأنّ له مبادئ حقيقية من وراء ذلك الإنشاء، فيكون إنشائه سواء كان بالفعل أو القول أو الكتابة ظاهراً في الجدية وبالتالي في كونه عقداً والتزاماً لما ذكرناه من أن الالتزام ليس مدلولاً آخر مستقلّاً في مقام إنشائه عن إنشاء التمليك، وإنما هو متحد معه ومنتزع منه بلحاظ جديته (أي بما أن التمليك عن جدٍ فمن الجد ينتزع حيثية الالتزام) وكشفه عن مبدأ التعهّد القلبي للمنشئ.

وظاهر كلامه (رحمه الله) أنه: بما أن الإنشاء في العقودِ الصحيحة إنشاءٌ عن إرادة جدية لا مَحالة، فإنه ينتزع من الإرادة الجدية - التي هي خَلفَ الإنشاء - حيثية الالتزام والتعهد، وهذا معناه أن المُنشئ ملتزم بالمعاملة ثابت عليها وهذا الالتزام ينتزع من التعهد الذي هو إرادة وراء الإنشاء.

وهذا الكلام أيضاً محل تأمل كما سبق ذكره، وذلك لأن هنا مزجاً بين الإرادة الجدية وبين الالتزام، مع وضوح الفرق بينهما، فالإرادة الجدية - التي لا بد منها في كل عقد صحيح - هي الجد مقابل الهزل، والدواعي الأخرى، كأن يذكر العقد لأجل التعليم أو التعلم أو الهزل، وأما الالتزام فهو عبارة عن التعهد بعدم الفسخ، والتعهد بعدم الفسخ شيء وصدور المعاملة عن إرادة جدية مقابل الهزل شيء آخر، فلا ينتزع من الجد حيثية الالتزام والتعهد، ولذلك لا إشكال في أن المعاملات الإذنية - بنظره - عقود - كالوكالة والعارية والوديعة والمضاربة - صادرة عن إرادة جدية مع أنها خالية من الالتزام والتعهد، لذلك لا يكون صدور الإنشاء عن جد منشأً لانتزاع حيثية الالتزام والتعهد كما أفيد.

فتلخص مما مضى: أن الصحيح أن صدق عنوان العقد يدور مدار إنشاء علقة اعتبارية بقرار من طرفين، سواء كان معه حيثية الالتزام والتعهد أم لم يكن، وأن موضوع اللزوم بحسب المرتكزات العقلائية ما تضمن ذلك وإن خلا عن التعهد والالتزام خلافاً لمبنى المحقق النائيني قدس سره.

المبحث الثالث: بعد الفراغ عن تعريف العقد وبيان أقسام العقد يقع البحث في مقومات العقد.

وللعقد عدة مقومات:

المقوم الأول: أن العقد اسم للمسبب وليس للسبب، أي أن العقد ليس اسماً لنفس الإنشاء، وإنما هو اسم للمنشأ المسبب به.

وبيان ذلك: أن العقد بما أنه متضمن لإنشاء علقة وضعية، سواء كانت هذه العلقة ملكية أو زوجية أو حقية أو أي علقة وضعية بحسب اعتبار العقلاء، فعنوان العقد يطلق عرفاً على تلك العلقة الوضعية بوجودها الإنشائي، لا على إنشائها. فالعقد لدى العرف العقلائي مما ينشأ، ولو كان العقد هو نفس الإنشاء لما كان قابلاً للإنشاء، لأن الإنشاء فعل تكويني نفساني لا يقبل الإنشاء، بل العقد هو المسبب الإنشائي، كالتمليك بعوض.

المقوم الثاني: أن العقد متقوم بالقصد، ولذلك قالوا إن العقود تابعة للقصود، ولا يتصور عقد بدون قصد لعدم معقولية المنشأ من دون قصد. نعم، هناك فرق بين القصد والإرادة الجدية، فالقصد هو عبارة عن النظر إلى المنشأ، وأما الإرادة الجدية فهي مقابل الهزل كما ذكرنا سابقاً.

المقوم الثالث: أن يكون إنشاء العلقة الوضعية بقرار من طرفين، واشتراط القرارين مقابل الإيقاع، وإن كان الإيقاع موجباً للملك كالحيازة بقصد التملك، باعتبار أن المنشأ العقدي هو إدخال العلقة الوضعية في حوزة الطرف الآخر وشأنه، فمثلاً إنشاء الزوجية مما يوجب ربط الآخر بالنفس، وإنشاء الملكية إدخال للملك في حوزة الآخر، وإنشاء الحقية إفادة سلطنة للآخر. فبما أن العقد متضمن لإنشاء علقة وضعية لها ذات تدخل في شأن الطرف الآخر فلا بد في حصولها من قرار من الطرف الآخر، لأنها تصرف في سلطانه وحوزته، وهذا ما تميز به العقد عن الإيقاع، باعتبار أن الإيقاع إما متعلق بملك للنفس دون الغير كالحيازة أو إبانة علقة مع الطرف الآخر وهدمها كالطلاق، لا إدخال الآخر في العلقة كالنكاح، أو أنه متعلق بالفعل لا بالنتيجة الوضعية كإيقاع النذر والعهد واليمين ونحوها مما ليس تصرفاً في سلطان أحد كي يكون محتاجاً إلى قرار منه.

فهذا هو الفارق الجوهري بين العقد وبين الإيقاع.

المقوم الرابع: أن العقد إيجاد العلقة لا إنهاؤها، خلافا لما في القانون الوضعي كما في نظرية العقد للسنهوري [8] (العقد توافق إرادتين على إنشاء التزام أو نقله أو إنهائه)، مما يعني أن التقايل عقد. فلو حصل عقد وتراضى الطرفان على فسخ العقد وإنهائه فهو عقد، وهذا ليس صحيحاً، فإن العقد متقوم عرفاً بإيجاد العلقة الاعتبارية ولا شمول فيه لإنهائها.

 


[6] مباحث عامة حول العقد، هاشمي الشاهرودي، محمود ص25 - 26.
[7] مباحث عامة حول العقد، هاشمي الشاهرودي، محمود ص25.
[8] الوسیط في شرح القانون المدني، السنهوري، عبدالرزاق، ص137-138 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo