< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/05

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: / /مفاهیم العامة فی ابواب المعاملات

 

والتحقيق في بيان مطلب المحقق النائيني (قدس سره) والتأمل فيه يقتضي التفصيل بين مقام الإثبات ومقام الثبوت.

فأما مقام الإثبات: أي تحديد مناط ظهور المعاملة في تضمنها للتعهد والالتزام، فبيانه: أن عدم إقرار العقلاء بالمُنشأ المعاملي إلا إذا كان متضمناً للتعهد والالتزام صار مَنشأً لظهور حال المتعاقدين في الالتزام بالمُنشأ من قبلهما، بمعنى أن اِلتفات المتعاقدين كالبائع والمشتري أو المُؤجِر والمستأجر إلى أن العقلاء لا يمضون لقلقة الاعتبار - وإن لم يكن ذلك الاعتبار متضمناً لتعهد والتزام من قبل المتعاملين - يقتضي عادة سير المتعاملين على وفق البناء العقلائي توصلا لتنفيذ المعاملة الصادرة عنهما، ونتيجة ذلك - في مقام الإثبات - أن ظاهر حالهما عند صدور المعاملة أنهما جريا وفق المرتكز العقلائي من الالتزام والتعهد بما أنشأ.

فعندما يقول البائعُ للمشتري: بعتك هذه السلعة بكذا، فظاهر حاله الالتزام بما أنشأ، لا أنه مجرد فرض واعتبار، ومَنشأ الظهور الحالي هو التفات المتعاملين إلى أن البناء العقلائي لا يقر المُنشأ، ولا يرتب الأثر عليه ما لم يكن متضمناً لحيثية التعهد والالتزام.

لكن هذا التحليل غير تام، والسر في ذلك: أن موضوع البناء العقلائي على إمضاء المعاملة، ليس هو تضمن المُنشأ المعاملي للالتزام والتعهد؛ بل موضوع الإمضاء هو صدور الاعتبار عن جدٍ مقابل الهزل والدواعي الأخرى، فلو قال: (بعتُ عن إرادة جدية) أو قال: (آجرتُ عن إرادة جدية) كان ذلك موضوعاً للإمضاء والإقرار.

وأما الكاشف عن ذلك إثباتاً فهو أصالة الجد، فكما أن الأصل المحاوري في الإخبار هو أصالة الضبط وعدم الكذب، فكذلك الأصل في كل إنشاء أو اعتبار صدوره عن جد لا هزل، ومقتضى أصالة الجد إقرار العقلاء وإمضاؤهم لما صدر منه.

وأما كون كل واحد من المتعاملين متعهداً وملتزماً بأن لا يرفع يده عن المعاملة بالفسخ، فهذا ليس دخيلاً في موضوع الإقرار والإمضاء، ولذا فإن البناء العقلائي يمضي المعاملة على طبق ما أراد المتعاملان من إيقاعها مشروطة بالخيار أو غير مشروطة به، وهو الحاكم بالجواز أو اللزوم في طول ذلك لا نفس المتعاملين.

وأما مقام الثبوت: أي حقيقة المنشأ العقدي وحدوده - تنقيحاً لمطلب المحقق النائيني (قدس سره) - من كون المُنشأ العقدي متضمناً للتعهد والالتزام.

فهنا عدة محتملات في تحليل كلام المحقق النائيني (قدس سره):

المحتمل الأول: ما ذكره بعض الأعلام (رحمه الله)[1] : (أن يكون العقد إنشاء لأمرين: تمليك والتزام، فكما أنشأ التمليك أنشأ الالتزام بالتمليك).

وأورد عليه: بأن هذا يستلزم اشتمال العقد على إنشاء للتمليك وإنشاء للالتزام، وهذا خلاف المرتكز العقلائي؛ من أن العقد لا يشتمل إلا على إنشاء واحد ومُنشأ واحد، لا أن هناك إنشاء للتمليك والالتزام؛ بل قد يقال إن ذلك ممتنع بعين نكتة امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فإن النكتة هي أنه لا يعقل فناء اللفظ الواحد في استعمال واحد في معنيين مستقلين، وكذلك الحال في محل البحث، حيث لا يعقل فناء إنشاء واحد، في آنٍ واحد سواء أبرز باللفظ أم بالكتابة أو الإشارة في منشأين متغايرين.

المحتمل الثاني: أن المُنشأ واحد، إلا أن المُنشأ هو الالتزام بالتمليك، فليس المُنشأ هو التمليك، وليس المُنشأ هو الالتزام؛ بل المُنشأ هو المقيد وهو الالتزام بالتمليك.

وهذا ما أشكل عليه [2] : (أن الثابت فقهياً وعقلائياً أن الحاصل بالعقد هو التمليك، لا الالتزام بإيجاد التمليك)، فإنه متى تم عقد البيع أو عقد الإجارة فإن المتحقق في وعاء الاعتبار العقلائي هو تمليك العين أو تمليك المنفعة بعوض، لا أن الذي حصل هو الالتزام بالتمليك.

فهذا المحتمل كسابقه مناف للمرتكزات.

المحتمل الثالث: وهو ما يظهر من تقرير بحث المحقق النائيني (قدس سره) [3] - في ضمن الكلام -: وتوضيح ذلك: أنّ ما ينشأ بالعقود إمّا مدلول مطابقيّ وإمّا التزاميّ.

أمّا المطابقيّ فهو في البيع نفس تبديل المال بالمال، الّذي يحصل بالمعاطاة أيضاً [أي كما يحصل باللفظ يحصل بالمعاطاة].

وأمّا الالتزاميّ فهو التعهد بما أنشأ [يعني أن ما أنشأه شيء والتعهد به شيء آخر، لا أنهما أمرٌ واحد] والالتزام به، وهذا هو العقد والعهد الموثّق، لا المعنى المطابقي [يعني أن المعنى المطابقي لا يكفي في كون المعاملة عقداً؛ وإنما يكفي في كونها بيعاً] الحاصل بالفعل أيضاً [أي بالمعاطاة]. ولذا قلنا في باب المعاطاة بأنّها بيع لا عقد، [لأنها لا تتضمن تعهداً والتزاماً، وإن تضمنت المبادلة بين مالٍ ومال]، وقلنا بأنّها تفيد الجواز، لعدم تحقّق ما يوجب اللزوم فيها).

ثم ذكر المَنشأ العقلائي الذي سبق ذكره في بيان مقام الإثبات.

إلى أن قال (قدس سره) [4] : (وبعبارة اُخرى في المعاوضات العقديّة مدلولان: المطابقيّ وهو بيع، والالتزاميّ وهو عقد. ووجوب الوفاء يناسب لحاظ العقديّة [يعني أن وجوب الوفاء بالبيع لا من حيث كونه بيعاً؛ بل من حيث كون عقداً، أي لا من حيث مدلوله المطابقي؛ بل من حيث مدلوله الالتزامي] كما هو صريح الآية [حيث إن موضوع الآية هو العقد: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾]).

فإذا كان اقتضاؤه اللزوم - من جهة إنشاء العاقد المدلول الالتزاميّ [وهذا يعني أن الالتزام يحتاج إلى إنشاء] والتزامه به - فلو ثبت الخيار في عقد بأحد الوجوه الثلاثة الآتية [خيار الغبن، أو خيار العيب، أو خيار تبعض الصفقة] فإنه يوجب تخصيص الآية الشريفة.

إلى أن قال: (وبعبارة اُخرى ثبوت الخيار لأحد معناه أنّ اختيار المدلول الالتزاميّ المُنشأ من المتعاقدين وضعاً ورفعاً بيد ذي الخيار، فله ردّ ما ألزمه على نفسه [أي يستطيع أن يرفع يده عن التعهد الذي تعهد به] من إنفاذ العقد [وهذا واضح الدلالة على المنشأ العقدي شيء، وإنفاذه بمعنى الالتزام به شيء آخر] فينحلّ العقد، وله إبقاء ما التزم به طرفه له فيستقرّ العقد).

وظاهر هذا الكلام أن هناك أمرين: مُنشأ معاملياً وهو التمليك، وتعهداً، وأن التعهد خاضعٌ لإنشاءٍ في حد ذاته، مضافاً إلى التمليك سواء كان تمليك العين كما في البيع أو تمليك المنفعة.

ويلاحظ على ما أفيد: أن الوجدان العرفي والعقلائي على خلاف التحليل المزبور، وبيان ذلك: بذكر عدة منبهات:

أحدها: أن مقتضى ما أفيد أنه حتى في البيع الجائز بحكم الشارع لأجل خيار المجلس، أو خيار الحيوان، أو الخيارات الأخرى مع التفات المتبايعين لذلك، يكون البيع متضمنا للالتزام والتعهد بعدم الفسخ، غايته أن استعمال الخيار من قبل من له الخيار رفع لما أنشأه من الالتزام، كما أنه في صورة جعل الخيار من قبلهما أو أحدهما فإن ذلك لا يعني انتفاء التعهد والالتزام بعدم الفسخ، وإنما يعني أن إعمال الخيار في ظرفه رفع لليد عن ما أنشأه من الالتزام على نفسه، وإلا لو لم يكن البيع ابتداءً مقروناً بالالتزام والتعهد لما كان عقداً، وكان لازم ذلك خروج المعاملات الخيارية بحكم الشارع عن كونها عقداً؛ لأن العقد إنما يثبت للمعاملة بلحاظ مدلولها الالتزامي، وهو إنشاء التعهد والثبات على ما أنشأ.

فحكم الشارع بأن العقد خياري كما في خيار المجلس أو خيار العيب أو الغبن، الذي ينكشف به أن البيع منذ ولادته لم يكن لازماً يعني أنه ليس عقداً، وحيث إن ذلك واضح الفساد تعين القول بأن كل بيع هو متضمن ابتداء للالتزام والتعهد وإن كان خيارياً، وهذا مما لا يساعد عليه الوجدان العقلائي في المعاملات الخيارية ومنها البيع، فإن الحاصل بإنشائه هو التمليك بعوض لا أكثر وهو موضوع لحكم الشارع أو العقلاء بالجواز لأجل ثبوت الخيار بأحد أسبابه، من دون اشتمال البيع على التزام معلق على عدم الفسخ باستعمال الخيار بنحو الشرط المتأخر، بحيث يكون استعمال الخيار كاشفا عن عدم انعقاده من أول الأمر، ولا على التزام منجز مشروط بقاء بعدم استعمال الخيار بنحو الشرط المقارن، بحيث يكون استعمال الخيار رفعاً للالتزام، بل ليس مضمون العقد إلا التمليك بعوض، غاية ما في الباب أنه موضوع لحكم الشارع أو العقلاء بالجواز، فإن مضى الوقت ولم يستعمل الخيار من له ذلك كان البيع موضوع لحكم الشارع أو العقلاء باللزوم، لا أن استعمال الخيار رافع لأحد المنشئين بالبيع وهو الالتزام بعد حدوثه.

وبعبارة أخرى: إن اِلتفات المتبايعين إلى جواز العقد ابتداءُ أو أن اشتراطهما للخيار لا ينسجم مع بنائهما على إنشاء الالتزام والتعهد بعدم الفسخ إلى حين أن يبدو لهما أو لأحدهما رفع اليد عن الالتزام والتعهد بالمنشأ المعاملي، وإنما البيع بحسب المرتكزات مُنشأ واحد وهو التمليك، وهو موضوع لحكم الشارع باللزوم، أو بالجواز لبعض الخصوصيات، وكلا الحكمين خارجٌ عن إطار المُنشأ وحريم المعاملة.

ثانيها: أن لازم ما أفيد دوران صدق العقد مدار مدلوله الالتزامي لا مدلوله المطابقي، أي أن حيثية العقدية صفة طارئة على البيع والإجارة مثلاً، لأنها إنما تكتسبها المعاملة من إنشاء الالتزام، لا أنها تثبت للمعاملة أولاً وبالذات، وبنفس الإنشاء، فلو فرض أن المتبايعين بالبيع اللفظي مثلاً لم يتكفلا بإنشاء الالتزام والتعهد فما حصل ليس بعقد وإن كان بيعاً.

وهذا أيضاً مصادمٌ للمرتكزات العقلائية؛ فإن بناءها على أنّ ما هو عقدٌ في حد نفسه وفي رتبة سابقة قد يكون موضوع للحكم باللزوم في حال عدم اشتراط الخيار من قبل أحد المتعاملين، وقد يكون موضوعاً للحكم بالجواز إن كان مشروطاً بالخيار مثلاً، لا أنّ ما هو معاملة إنما يتصف بالعقدية في طول التزام المتعاملين وتعهدهما بما أُنشئ.

والصحيح: أن حيثية العقدية ثابتة ابتداءً لكون المنشأ هو العلقة الوضعية الحاصلة بقرار الطرفين.

والمتحصل: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) بحسب تقرير بحثه منافٍ للمرتكزات العقلائية من جهتين:

1- من جهة أنّ العقدية صفة طارئة على المعاملة تنشأ من المدلول الالتزامي.

2- من جهة أنّ استعمال الخيار رفعٌ لما هو المُنشأ العقدي وهو الالتزام.

 


[1] مباحث عامة حول العقد، هاشمی شاهرودی، محمود، ص20.
[2] مباحث عامة حول العقد، هاشمی شاهرودی، محمود، ص19.
[4] همان .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo