< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/07/04

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: المفاهیم العام فی ابواب المعاملات

 

الأمر الثاني: أن المحقق النائيني (قدس سره)[1] أفاد بأن العقود الإذنية - كالوكالة والوديعة والعارية - خارجةٌ عن الآية المباركة - وهي قوله تعالى: ﴿(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)﴾[2] تخصصاً.

وبيان ذلك أن في تحليل مضمون الآية المباركة أموراً:

الأمر الأول: خروج العقود الإذنية - كالوكالة والوديعة والعارية - تخصصاً لا تخصيصاً، وذلك لأحد مناشئ:

المنشأ الأول: أن العقد هو العهد المؤكد، وبما أن العقود الإذنية ليس فيها عهد؛ وإنما هي متقومةٌ بالإذن والرضا فقط، فهي خارجةٌ عن الآية موضوعاً، وإنما عبر عنها بالعقد باعتبار أنها متقومة بطرفين، وهما المعير والمستعير والمودع والمستودع والمُوَكِل والوكيل، ولذا اُطلق عليها عنوان العقد اصطلاحاً وإلا فليست عقداً.

المنشأ الثاني: لم يتعرض له المحقق النائيني قدس سره ولكن أفيد شرحاُ لمطلبه، وحاصله: أن قوله (عزّ وجل): ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾، أمر بالوفاء، ولا يحتمل الإلزام في العقود الإذنية؛ لكونها متقومة بالإذن والرضا، فلا معنى لإلزام المُودِع أو المُعير بأن يثبت على عاريته أو إيداعه بمقتضى ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، مع أن قوام العقد بإذنه ورضاه، ولذلك لو قلنا بأن عنوان العقد قد يصدق عليها، لكن مناسبة الحكم للموضوع توجب خروجها عن الآية تخصصاً؛ إذ لا يحتمل وجوب الوفاء بها.

وهذه النكتة إنما تتم بناء على أن مفاد الأمر بالوفاء حكم تكليفي، ولو بمقتضى قرينة السياق، حيث إن قوله (عزّ وجل): ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، خطاب ل﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وظاهره بمقتضى المناسبة أن كون المخاطب مؤمناً يستدعي وفاءه بالعقود المنسجم مع كون الأمر بالوفاء حكماً تكليفياً.

ولكن ذهب جمع منهم سيدنا الخوئي (قدس سره الشريف) في بعض كلماته إلى أن الأمر في الآية إرشاد إلى نفوذ العقد، وليس حكماً تكليفياً كي يستفاد منه خروج العقود الإذنية؛ لأنه لا يجب الوفاء بها، بل غاية مفاد ﴿أَوْفُوا﴾ الإرشاد إلى نفوذ العقد، ولا فرق في النفوذ بين العقود العهدية والعقود الإذنية.

المنشأ الثالث: لو سلمنا أن عنوان العقد يصدق على العقود الإذنية عرفاً، وسلمنا أن المحمول في الآية وهو قوله ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ليس حكماً تكليفياً، لكن حيث ورد في رواية ابن سنان - بناءً على تمامية ما ورد في تفسير القمي من الروايات التامة سنداً في نفسها - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ بالعهود)، فمقتضى ذلك خروج العقود الإذنية؛ لأن العقود الإذنية لا يوجد فيها تعهد ولا التزام، فمقتضى تفسير الآية بالرواية خروج العقود الإذنية عن مفاد الآية المباركة؛ لأن نظر الآية للعقود بمعنى العهود، لا بالمعنى الاصطلاحي، ولذلك تشمل الآية ما ليس عقداً اصطلاحياً كالنذر واليمين والعهد، فهي مع كونها من الإيقاعات اصطلاحاً إلا أنها داخلة ضمن الآية لكونها عقداً بمعنى العهد، وإن لم تكن عقداً بالمعنى الاصطلاحي، وهو ما ينشأ عن قرار من الطرفين، واحتمال أن قوله عليه السلام (بالعهود) من باب بيان المصداق الأجلى لا من باب التفسير خلاف ظاهر السياق.

الأمر الثاني: [3] أن اللزوم والجواز حقي وحكمي، وبيان ذلك: أن العقد على أقسام ثلاثة:

١- ما يقتضي اللزوم ذاتاً فاللزوم فيه حكمي، نحو عقد النكاح وعقد الضمان، وفي هذا العقد لا يعقل شرط الخيار ولا الفسخ - إلا في موارد منصوصة - ولا الإقالة لمنافاة ذلك لمقتضى العقد.

2- ما يقتضي الجواز فالجواز فيه حكمي، نحو الهبة ولذلك فشرط اللزوم فيه مناف لمقتضاه، إلا بحكم الشارع كما في الهبة لذي الرحم.

٣- ما لا يقتضي في ذاته اللزوم ولا الجواز كالبيع والإجارة فاللزوم والجواز فيه حقي - أي يتم ذلك ببناء من المتعاقدين - فإن البائع مثلاً إن أضاف لإنشاء تمليك العين للمشتري التزامه بما أنشأ وعدم رفع اليد عنه، فهذا يعني أنه كما قام بتمليك المشتري العين فإنه قام بتمليكه التزامه بالبيع أيضاً مما يعني اللزوم الحقي، وإن جعل لنفسه الخيار أو للمشتري الخيار فهذا يعني أنه لم يملك المشتري التزامه بالبيع وإن ملكه العين مما يساوق الجواز الحقي.

ونتيجة ذلك أن مفاد قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾ إمضاء المعاملة بيعاً أو إجارة على ما وقعت عليه من اللزوم الحقي.

الأمر الثالث: [4] أن المعاطاة خارجةٌ تخصصاً عن مفاد الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، والسر في خروج المعاطاة تخصصاً عن مفاد الآية أن المعاطاة فعل، كأن أعطى الكتاب وأخذ الثمن، أو سلّم الدار واستلم أُجرةً، والفعل لا دِلالة فيه على أكثر من الإباحة أو التمليك.

ولذلك فالمعاطاة في تبادل السلعة والثمن بيع وليست عقداً، والمعاطاة في تسليم الدار وأخذ الأجرة إجارة وليست عقداً، بل هي بيع جائز وإجارة جائزة.

والسر في ذلك: أن العقدية متقومة بالعهدية، والعهدية عبارة عن تضمن مدلول المعاملة للتعهد والالتزام، وبما أن الفعل المعاطاتي ليس فيه تعهد ولا التزام، بل غاية مدلوله الإباحة أو التمليك لا يكون عقداً وإن كان بيعاً أو إجارةً، من جهة أن دلالة المعاملة على العهدية والعقدية دلالة عرفية لا تتحقق إلا باللفظ أو ما يقوم مقام اللفظ كالكتابة والإشارة، وأما مجرد الفعل الخارجي فلا دلالة فيه على حيثية التعهد والالتزام كي تكون المعاطاة عقداً. كما أنها معاملة جائزة؛ لعدم دليل على لزومها، فإن الدليل على اللزوم إما البناء العقلائي - وهو دليل لبي - والقدر المتيقن منه لزوم المعاطاة في بعض الفروض لاكتنافها بقرائن اللزوم، وإما الآية، والآية ناظرة للعقود، والمفروض أن المعاطاة سواء كانت بيعاً أو إجارة فليست عقداً كي تكون مشمولة للآية المباركة.

فإن قلتَ: إن المعاطاة البيعية مفيدة للتمليك كما اعترفتم، أي أن تسليم البضاعة وتسلم الثمن يفيد التمليك، فإذا أفادت التمليك بالمدلول المطابقي أفادت التعهد والالتزام بالمدلول الالتزامي.

قلتُ: لا ملازمة بين التمليك سواء باللفظ أو الفعل والتعهد لا عقلاً ولا عرفاً؛ إذ ليس كل تمليك يقتضي التزاماً وتعهداً، ولذلك فإن البيع المعاطاتي والإجارة المعاطاتية مجرد إنشاء للتمليك، ولا ملازمة عقلاً ولا عرفاً بينه وبين الالتزام والتعهد بما أنشأ كي يقال بالدلالة الالتزامية، وإنما قلنا بثبوت التعهد والالتزام في العقود اللفظية لنكتة إثباتية، وهي أن ظاهر حال المتصدي للمعاملة بالإيجاب والقبول اللفظي أو الكتبي ونحوه أنه في مقام الالتزام والتعهد بمضمون المعاملة.

الأمر الرابع: إذا كان عنوان العقد متقوماً بالعهد والالتزام فقد يقال حتى البيع والإجارة اللفظيان لا يوجد فيهما تعهد ولا التزام، فأي فرق بينهما وبين المعاطاة؟ أي كما أن المبادلة المعاطاتية مجرد إنشاء للتمليك لذلك لم تعتبر عقداً، كذلك البيع والإجارة اللفظيان مجرد إنشاء للتمليك ولا يتضمن تعهداً ولا التزاماً، فكيف أطلق على البيع اللفظي عقد دون البيع المعاطاتي؟

أفاد المحقق قدس سره [5] أن للبيع والإجارة اللفظيين مدلولين:

1- المدلول المطابقي، وهو إنشاء التمليك بعوض، سواء كان تمليكاً للعين كما في البيع، أو تمليكاً للمنفعة كما في الإجارة.

2- المدلول الالتزامي، هو الالتزام والتعهد بما أنشأ، وليس المقصود بالالتزام هنا الالتزام العملي بمعنى ترتيب الآثار فقط بل الالتزام العقدي، بمعنى أن لا يرفع يده عما أنشأ، فعندما يقول: (ملكتك منفعة الدار بأجرة) فمعنى (ملكتك) أنه أنشأ التمليك وفي ضمنه التزم بما أنشأ، بمعنى أن ما أنشأه وهو ملكية المنفعة لا يرفع اليد عنه بالفسخ، ولذلك فإن معنى قوله عز وجل: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ليس الأمر بالوفاء العملي بمعنى ترتيب الآثار عملاً بأن تسلم العين ويستلم الثمن، بل الوفاء العقدي أيضا، بمعنى أن لا يرفع يده عما أنشأ لا بفسخ ولا إقالة.

والنتيجة: أن لنفس قوله: (بعت) و(آجرت) مدلولين: مطابقي بإنشاء التمليك، والتزامي بالالتزام والتعهد بما أنشأ. وصدق عنوان العقد على البيع والإجارة لا من جهة المدلول المطابقي، لأن المدلول المطابقي مشترك بين اللفظ والمعاطاة، والمفروض أن المعاطاة ليست عقداً، بل من جهة المدلول الالتزامي، فإنهما بالمدلول الالتزامي يعتبران تعهداً والتزاماً، ولذلك صدق عليهما عنوان العقد وشملهما ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.

وهذه المطالب من المحقق النائيني قدس سره وقعت مورداً للإشكال، وهنا نتعرض إلى إيرادين أساسيين على كلام المحقق النائيني:

الإيراد الأول: أن ما ذكره قدس سره من خروج العقود الإذنية عن مفاد الآية تام - لو تمت رواية ابن سنان سنداً الواردة في تفسير العقود بالعهود - لأنها ليست عهوداً، وإلا فهي عقد حقيقة لا تسامحاً، لما سبق من أن العقد إنشاء علقة وضعية بالطرفين، وهذا يصدق على العقود الإذنية كما يصدق على العقود العهدية.

ولكن المناقشة معه في أمرين آخرين:

أولهما: دعوى تضمن العقود العهدية - كالبيع والإجارة - لمدلولين مطابقي والتزامي.

والثاني: دعوى أن المعاطاة ليست عقداً وإن كانت بيعاً وإجارة.

أما بالنسبة إلى المدعى الأول فقد يقال: بأن الوجدان العرفي والعقلائي قائم على أنه لا يستفاد من البيع والإجارة اللفظيين أكثر من إنشاء تمليك، فليس معنى (بعتك بكذا أو آجرتك الدار بكذا) أكثر من إنشاء تمليك العين أو المنفعة، أو المبادلة بين العين والمنفعة والثمن والأجرة. فدعوى أن البيع والإجارة متضمنان لمدلول التزامي أكثر من ذلك، وهو عبارة عن الالتزام والثبات والوقوف على ما أنشأ وعدم رفع اليد عنه، تحميلٌ للبيع والإجارة بما لا ظهور فيه لدى العرف والمرتكزات العقلائية، نعم إن لم يجعل المتعاقدان لهما الخيار ولم يكن موجب له شرعاً من غبن أو عيب أو تبعض الصفقة حكم الشارع باللزوم، فالحكم باللزوم والجواز حكم شرعي خارج عن إطار نفس مضمون المعاملة الذي لا يعني سوى التمليك بعوض.

ولكن بعض الأعلام رحمه الله [6] دافع عن نظر المحقق النائيني قدس سره فقال: (إن المدلول الالتزامي في العقود العهدية يبتني على ملازمة نوعية - لا عقلية - وهي أن العقلاء عندما ينشئون التمليك ونحوه من المضامين المعاملية إنما يقصدون من وراء ذلك الالتزام بالوفاء والجري عليها، وليس مقصودهم مجرد جعل حكم وضعي محض، ولهذا تتشكل دلالة التزامية لإنشاء العقود لدى العقلاء على إنشاء التزام وتعهد بالوفاء للطرف المقابل)، وقال [7] (إن المقصود هو أن العقود العهدية يكون المضمون المعاملي فيها متقوماً بالتعهد والالتزام، لأنه سنخ مضمون معاملي لا يتحقق إلا بالتعهد والالتزام)، (وإن شئت قلت إن الشارع والعقلاء يجعلون التمليك بعوض على المتعاقدين اللذين يلتزمان بذلك، فينتزع من ذلك بالتحليل عنوان التعهد والالتزام، وعنوان التمليك بعوض باعتباره متعلق التعهد والالتزام)، أي كأن مقصود المحقق النائيني قدس سره من وجود المدلولين أن مدلول البيع التزام بالتمليك لا تمليك والتزام، بل هو منشأ واحد وليس منشأين، بمعنى أن مضمون البيع والإجارة الالتزام بالتمليك بعوض، فالمنشأ واحد وليس المنشأ أمرين كي يقال بأن الوجدان لا يرى من البيع والإجارة معنيين ومدلولين - مدلول مطابقي ومدلول التزامي -، بل هو منشأ واحد وهو الالتزام والتعهد بالتمليك، والبناء العقلائي في طول ذلك قائم على إلزام المتعاملين بما التزما، ومقتضى إلزامه بما التزم خروج العين عن ملكه ودخول الثمن في ملكه وأن لا حق له في الفسخ ورفع اليد عما أنشأ. نعم، ينتزع من ذلك عنوانان تمليك والتزام - وإلا ففي الواقع ليس هناك شيئان، بل هناك التزام بالتمليك بنى العقلاء على إنفاذه وإلزام ما التزم به.

 


[6] مباحث عامة حول العقد، هاشمی شاهرودی، محمود، ص21.
[7] همان ص24.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo