< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/06/27

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: كتاب الإجارة/أركان الإجارة /المفاهیم العامة فی ابواب المعاملات

 

التعريف الخامس لمفهوم العقد: هو إنشاء تسليط للغير على عين أو مال أو حق أو عمل اعتباري بشرط قبوله، سواء كان تسليطاً تمليكياً كما في المعاوضة حيث إن البائع يسلط المشتري على تملك المبيع، أو كان تسليطاً حقياً كما في النكاح حيث تسلط المرأة الرجل على حق الاستمتاع من البضع، أو التزاماً كما في عقد الاستصناع؛ فإن الصانع ينشئ تسليطاً للآخر على التزامه له بالصنع بإزاء التزام الطرف الآخر بالشراء.

وبيان ذلك: أنه وقع النزاع في أن عقد الاستصناع بيع وإجارة؟ بمعنى أنه إذا جاء شخص إلى الصانع - كالنجار أو الصناع أو البناء - وطلب منه أن يعد له جهازاً، والتزم الصانع له بالصنع بإزاء التزامه بشراء المصنوع ودفع الثمن عند تسليمه، فهذه المعاملة ليست بيعاً قبل الصنع وإلا كان من بيع السلف فيجب دفع الثمن بالفعل، ولا إجارة قبل ملك المادة إذ لا تصح إجارة الأعمال في ما ليس ملكاً للمستأجر، فهل تنحل إلى بيع وإجارة - بمعنى أن الصانع يبيعه المادة أولاً فيشتريها الآخر ويوكله في قبضها عنه ثم يكون أجيراً من قبله على الصنع، فيكون بيعاً وإجارة - دون العكس بأن يستأجره على صنع المادة وبعد إتمامها يشتريها منه؟ أم أن الاستصناع مجرد تواعد بين الطرفين وليس عقداً، ولذا التزم الشيخ الطوسي في الخلاف ببطلانه؟ أم أنه عقد مستقل وليس عقداً مركباً من إجارة وبيع أو بيع وإجارة، وإنما هو تسليط للغير على التزام الصانع بأن يعد له الجهاز المطلوب أو الصنع المطلوب بإزاء التزام الطرف الآخر بالشراء؟

ولكن فيه: أن مجرد تقابل الالتزامين لا يجعله عقداً مستقلاً يجب الوفاء به، وإنما هو عهد، فإن الظاهر أن المرتكز العرفي يرى أن الفرق الجوهري بين العهد والعقد بتوليد العلقة الاعتبارية، فما لم تتولد علقة اعتبارية بإرادة الطرفين أو قرار منهما لا يكون ذلك عقداً، وإنما هو في حدود العهد، فمثلاً عقد البيع ليس مرجعه إلى تسليط المشتري على تملك المبيع أو تسليط المشتري على عين المبيع، وإنما مرجع عقد البيع إلى إنشاء ملكية المشتري للمبيع بإزاء ملكية البائع للثمن، وأثر إنشائه للملكية أن يكون للمشتري سلطنة على التصرف في المبيع - ما لم يكن موجب للحجر عليه - لا أن البيع إنشاء للتسليط. كما أن مرجع عقد النكاح لا إلى إنشاء تسليط الرجل على الاستمتاع ببضع المرأة، وإنما مرجعه إلى إنشاء علقة الزوجية، وأثر علقة الزوجية أن يكون للرجل حق الاستمتاع بالمرأة ضمن شروط معينة.

وبذلك يظهر النظر في عقد الاستصناع، فإن الاستصناع عقد مستقل لا يرجع إلى البيع والإجارة، كما أنه ليس إنشاءً لتسليط الغير على التزام الأول بالصنع، وإنما حقيقة عقد الاستصناع هي إنشاء حق للغير في عهدة الصانع، فتكون هناك علقة اعتبارية وهي علقة الحقية التي تعني أن للغير حقاً في عهدة الصانع. ولهذا الحق آثار، منها: أن الغير بعد أن ثبت له الحق في عهدة الصانع يمكنه أن يسقط هذا الحق بإبراء، أو ينقل الحق إلى غيره بهبة أو صلح، ولو مات ورث وارثه منه الحق - بناءً على ثبوت ما نسب للنبي صلى الله عليه وآله من قوله عليه السلام: (ما ترك الميّت من حقّ فلوارثه )كما في المسالك[1] ، وعبر عنه في مفتاح الكرامة [2] بالنبوي المنجبر بعمل الأصحاب -.

والمتحصل: أن هناك فرقاً بين كون المنشأ مجرد تسليط بحيث لا يترتب عليه إلا الحكم التكليفي، كما لو أنشأ الصانع للآخر تسليطاً على التزامه، حيث إن غاية التسليط أنه يجب عليه الوفاء به كما في غيره من العهود، وبين كون المنشأ حقاً للآخر على الصانع في الصنع والبناء ونحوه، ومقتضى هذا الحق ثبوت آثار الحق من إبراء ونقل وصلح وإرث.

المبحث الثاني: في تقسيم العقد، وفيه مطالب:

المطلب الأول: قسّم المحقق النائيني قدس سره العقود إلى عهدية وإذنية. فالعقود العهدية ما تتضمن حيثية الالتزام كما في البيع والإجارة والنكاح، فإن فيها التزاماً بشروط وأحكام معينة، فتسمى عقوداً عهدية. والعقود الإذنية ما كان قوامها بالإذن والرضى لا أكثر، دون اشتمالها على حيثية الالتزام، ولذلك تزول بمجرد رفع اليد عن الإذن والرضى، ولا يتوقف زوالها على قبول الآخر أو عدم رده.

ومثّل لها المحقق النائيني قدس سره بالعارية والوديعة، فإن المالك إذا أعار ملكه لشخص آخر فليست الإعارة إلا إذناً بالتصرف في ما أعاره لا أكثر من ذلك، ولذا تزول بالجنون أو الإغماء أو رفع اليد عن الإذن - بل بإبراز الندم - بلا حاجة إلى رضى الآخر أو قبوله. وترتب على ذلك أن العقود الإذنية في الواقع ليست عقوداً، وتسميتها بالعقود تسامحية، إذ أنها لا تتوقف على إرادة الطرفين، ولا تتضمن التزاماً من أحد الطرفين للآخر كي يكون للآخر مطالبة الأول بالبقاء على التزامه، وإنما هي مجرد إذن يزول برفع اليد عنه، بينما العقد الحقيقي هو العهد المؤكد، ولا عهد في العقود الإذنية.

ويؤكد ذلك التفسير الوارد في صحيحة عبد الله بن سنان (المتضمنة لتفسير قوله عز وجل: (أوفوا بالعقود) قال: أوفوا بالعهود)، بناءً على وجودها في تفسير القمي كما نقل عنه في تفسير البرهان ونور الثقلين، مؤيداً بنقلها في تفسير العياشي، مما يعني أن العقود هي العهود، فكل معاملة لا تشتمل على عهد فليست بعقد، وحيث إن الوديعة والعارية لا تشتمل على تعهد بشيء فهي ليست عقوداً حقيقة، وإنما يطلق عليها العقد اصطلاحاً لا أكثر من ذلك.

ولكن يلاحظ على ما أفيد: أن العقود الإذنية وإن لم تكن متضمنة لعنصر التعهد والالتزام إلا أنها عقود حقيقة، والسر في ذلك أن المتولد عن إرادة الطرفين فيها علقة اعتبارية وهي علقة السلطنة، فلأجل تولد العلقة الاعتبارية المعينة منها نتيجة إرادة الطرفين فهي عقود حقيقة.

وتوضيح ذلك في مثالين:

    1. العارية فإنها تتصور على نحوين:

النحو الأول: أن يكون مرجع العارية إلى تمليك الانتفاع، بمعنى أن المالك يملك المستعير الانتفاع بالعين ملكاً مجانياً بدون مقابل، فهي من جهة كالهبة المجانية، ومن جهة أخرى كالإجارة في الأعيان، إذ أنها كالهبة من حيث التمليك المجاني، غاية الأمر أن الهبة تمليك للعين والإعارة تمليك للانتفاع بالعين، وكالإجارة من حيث كون المملوك شأناً تابعاً للعين لا نفس العين.

إلا أن هناك فرقاً بين العارية وإجارة الأعيان من حيث إن إجارة الأعيان تمليك المنفعة، بينما العارية تمليك الانتفاع، وفرق بين تمليك المنفعة وتمليك الانتفاع، فصاحب الدار عندما يقوم بإجارة الدار فهو يملّك منفعتها، وثمرة تملك المنفعة أنه لو غصبها غاصب أو منع المستأجر عن استيفاء المنفعة ظالم ضمن له قيمة المنفعة، باعتبار أن المنفعة مال ينقل ويوهب ويورث، بينما تمليك الانتفاع وإن كان إيجاداً لحق في العين قابل للإسقاط إلا أن المنفعة لم تدخل في ملك المستعير، فلو غصب غاصب العين فهو لم يفوت مالاً على المستعير كي يكون ضامناً لقيمته وإن كان الغاصب آثماً.

النحو الثاني: أن يكون المنشأ في العارية من باب التسليط لا من باب التمليك، بمعنى أن المعير قد منح المستعير سلطنة على الانتفاع بالعين والتصرف فيها تصرفات حسية، ومع ذلك فإنها عقد وليست عهداً. أما أنها ليست عهداً فلأنه لا يوجد فيها تعهد والتزام بشيء، وأما أنها عقد فلتولد علقة اعتبارية بين المستعير والمعير، وهذه العلقة الاعتبارية هي السلطنة، أي صار له سلطنة على العين بمقتضى إنشاء العارية.

وهذا هو الفرق بين العارية والإباحة المجانية، فلو أن ولي الدار أباح لشخص أن يدخل فينام ويأكل فهذه ليست عارية بل هي إباحة مجانية، وهي إيقاع وليست عقداً لعدم تقومها بالطرفين، بينما العارية إنشاء سلطنة اعتبارية للمستعير على التصرف في العين، ولذلك يتوقف ثبوتها له على موقف من قبله وهو القبول أو عدم الرفض، وليست مجرد إذن يزول برفع اليد عنه كما يقول المحقق النائيني.

وأثر الفرق بين النحوين - بين كون العارية تمليكاً للانتفاع وكونها إنشاء سلطنة - بأن الجواز على النحو الأول حكمي، والجواز على النحو الثاني حقي، ومعنى ذلك - كما ذكر المحقق النائيني في الفرق بين الجواز الحكمي والجواز الحقي - أن العارية في فرض كونها من قبيل تمليك الانتفاع فرفع اليد عنها ليس من قبيل الحق، وإنما هو حكم شرعي مفاده أن العقد جائز وأن للمعير أن يفسخه متى شاء بحيث يكون فسخه رفعاً للعلقة.

وفي فرض كونها على النحو الثاني - وهي أنها إنشاء سلطنة للمستعير على العين - فقوام السلطنة حدوثاً وبقاءً بيد المعير، وبما أن السلطنة بيده فالجواز حقي، بحيث يكون رفع يد عن السلطنة دفعاً لوجودها لا رفعاً له.

    2. الوكالة:

ذكر المحقق النائيني قدس سره أن الوكالة قسمان: وكالة إذنية وأخرى عقدية، فالإذنية قوامها بالإذن في التصرف حدوثاً وبقاءً، ولذلك تبطل بمجرد عزل الموكل، بينما العقدية هي تسليط للغير على التصرف، وهي عقد متقوم بالطرفين، فلا تنفسخ ما لم يبلغ العزل للوكيل، وفي المنهاج للسيد الأستاذ مد ظله أن الوكالة تسليط الغير على معاملة من عقد أو إيقاع أو ما هو من شؤونهما كالقبض والإقباض. وتفترق عن الإذن المجرد الذي هو إنشاء ترخيص في عمل تكويني - كالأكل أو اعتباري كالبيع - في: توقف الوكالة على القبول دون الإذن ونفوذ تصرف الوكيل حتى مع حصول عزله عن الوكالة حين صدورها منه ما لم يبلغه العزل، وعدم نفوذ تصرف المأذون بمجرد رفع اليد الإذن، ولا يبعد بحسب المرتكزات العرفية أن الوكالة معاملة واحدة، وهي عقد فحواه إعطاء سلطنة للوكيل في تصرف اعتباري، فلا تنفسخ إلا بوصول العزل.

ويترتب على تقسيم العقد للإذني والعهدي أمران:

أحدهما: في المقارنة بين المضاربة والمساقاة والمزارعة، فقد أفيد في كلمات غير واحد أن المزارعة والمساقاة نوعان:

1- المزارعة العقدية: وهي عبارة عن إنشاء سلطنة من قبل الطرفين المالك والمزارع على أن لكل منهما حقا في النماء بحصة معينة، وهي عقد لازم.

2- المزارعة الإذنية: وهي من قبيل الجعالة التي تعد من الإيقاعات، ومرجعها إلى طلب المالك من العامل الزرع على سبيل ضمان أجره مع تعيينه في حصة من الزرع أو الثمرة، وله رفع اليد عن ذلك.

وأما بالنسبة للمضاربة فقد أفاد سيدنا الخوئي قدس سره [3] أن المضاربة نوع واحد، وهي عبارة عن أن يدفع الإنسان مالاً إلى غيره ليتجر فيه على أن يكون الربح بينهما بالنصف أو الثلث، وهي عقد جائز من الطرفين.

بينما ظاهر عبارة السيد الأستاذ مد ظله[4] أن هناك نحوين من المضاربة، حيث ذكر في تعريف المضاربة ما ذكره سيدنا الخوئي قدس سره، ثم أفاد في مسألة (626): أن المضاربة الإذنية - وهي محل الكلام هنا - عقد جائز من الطرفين. ولعل نظره إلى جريان التقسيم المذكور في المزارعة في باب المضاربة، بمعنى أن المضاربة قد تكون ترخيصاً لا يتضمن حيثية التزام من قبل مالك المال، وإنما هي إذن للعامل في الاتجار به على أن يكون الربح بينهما. وقد تكون إنشاء سلطنة للعامل على الاتجار بالمال، ولأنها تتضمن إنشاء سلطنة فهي لازم بمقتضى القاعدة لو لا ما ادعي من الإجماع على جواز عقد المضاربة بتمام أنحائه.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo