< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/06/26

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: كتاب الإجارة/أركان الإجارة /المفاهیم العامة فی ابواب المعاملات

 

المطلب الثاني: أن ثمرة البحث في تحديد مفهوم العقد تظهر في عدة مصاديق، وقع الكلام في أنها عقد أو مجرد اتفاق؟ مثلاً عقد الاستصناع كما إذا اتفق الإنسان مع شركة تبني عمارة ذات شقق أن يشتري شقة منها بعد تمامية البناء، فما يتحقق في البداية اتفاق على أن يشتري شقة في ظرفه لا بالفعل، أو يتفق مع شركة تتصدى لصناعة بعض الأجهزة بنحو إذا تم الصنع اشترى الجهاز منها، وهذا ما يسمى بمعاملة الاستصناع. فهل أن الاستصناع عقد فيجب الوفاء به كالوفاء بسائر العقود؟ أم أنه مجرد اتفاق وليس مصداقاً لعنوان العقد؟

ومن هذا القبيل دفع العربون، فإن إعطاء العربون من البداية مقابل التمكن من شراء السيارة أو شراء الجهاز في ظرفه هل يعد عقداً بحيث يكون الطرف الآخر ملزماً؟ أم هو مجرد دفع مال برجاء الشراء فإن حصل الشراء بعده وإلا فالمال لمن قبضه؟

ومن هذا القبيل ما يعبر عنه في سوق الأسهم بالمشتقات المالية، فإن من صورها العقود الآجلة، كما إذا خشي مالك المحصولات الزراعية مثلاً من انخفاض أسعارها في موسمها - نتيجة زيادة العرض على الطلب - فيقوم فعلاً بعرض منافسات على الشراء في ظرفه، فيكون لمن يدفع مبلغاً معيناً بالفعل حق الشراء في ظرفه، أو تكون احتمالية فرصة الشراء له أكبر من غيره، فهل الاتفاق المذكور عقد؟

والتفريق بين العقد وغيره يتوقف على بيان الفرق بين مفهوم العقد ومفهوم الوعد ومفهوم العهد.

الفرق بين الوعد ومفهوم العقد: فهو أن الوعد وإن كان التزاماً جازماً - كما إذا وعد الزوج زوجته بأن لا يتزوج عليها على نحو الجزم وبالقسم واليمين - لا يخرج عن كونه وعداً، باعتبار أنه ذو طرف أحادي، والعقد متقوم بالطرفين، فإن المناط في صدق عنوان العقد تقومه بالطرفين، وبالتالي فمن الفوارق الجوهرية بينه وبين العقد - مضافاً لخلو متعلقه عن العلقة الاعتبارية - هو في تعدد الطرف ووحدته.

فإن قلت - كما في بعض الكلمات -: إن الهبة ذات طرف واحد، حيث إن الواهب هو الذي يتصدى لتمليك المال الموهوب لغيره، مع أن الهبة تعد من العقود، والحال بأنها متقومة بطرف واحد.

و الجواب عن ذلک : أن العقد - كما قلنا - علقة متقومة بطرفين، ولا تصدق على أي إنشاء متقوم بطرف واحد، غاية ما في الباب أن دور الطرف الثاني في توليد العلقة الاعتبارية المقصودة بالعقد قد يكون بفعل - كما في الشركة فإنها قائمة على فعلين لشخصين - أو يكون دوره بعمل - كما في المضاربة حيث إن دور عامل المضاربة التصدي للعمل في سبيل إنشاء العقد بنحو المعاطاة أو قبول التعهد بعمل في سبيل إنشاء العقد اللفظي -، وقد يكون دور الطرف الثاني هو المطاوعة لإيجاب الطرف الأول، سواء كانت هذه المطاوعة بإبراز القبول أو كانت هذه المطاوعة بعدم الرد، حيث يكفي في تحقق الهبة عدم الرد من قبل الموهوب له، فهو المقوم لحصول العلقة الاعتبارية للموهوب له، وهي دخول المال الموهوب في ملكه، لا أن الرد رافع للعلقة بعد حصولها.هذا بالنسبة إلى الوعد

وأما العهد : فبما أنه التزام وتعهد لله على النفس فمقتضى ذلك أن يكون متعلقه فعلاً اختيارياً، إذ لا يتصور الالتزام والتعهد بأمر غير اختياري، بينما لا يعتبر في العقد أن يكون متعلقه فعلاً اختيارياً، مثلاً عقد الزوجية حقيقته اعتبار علقة الزوجية وليس شيئاً آخر، بحيث يكون دور العقد دور الشرط المعبر عنه بشرط النتيجة الذي حقيقته هي توليد هذه النتيجة بدون اعتبار أمر آخر.

فتقوم العهد بكون متعلقه فعلاً اختيارياً دون العقد هذا فارق واضح بين المفهومين - مفهوم العهد ومفهوم العقد - مضافاً للفرق بتقوم العقد بإنشاء العلقة الاعتبارية -، وإن كان الوفاء بالعهد كالوفاء بالعقد واجباً مطلقاً كما هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً﴾[1] ، بينما الوفاء بالوعد واجب في بعض الحالات على تفصيل في بابه، وبذلك يتبين الفرق بين الوعد والعهد من جهة وبين الإيقاع كالجعالة والطلاق بلحاظ تعلق الإيقاع بالعلقة الاعتبارية إبراما أو هدما وإن كان ذا طرف واحد بخلاف الوعد والعهد لتقومهما بكون المتعلق فعلا اختياريا.

ومنه يظهر أن مطلق الاتفاق بين طرفين لا يسمى عقداً ما لم يكن ذلك الاتفاق موجداً لعلقة اعتبارية، سواء كانت تلك العلقة الاعتبارية ملكية، أم كانت زوجية، أم كانت حقية. فمثلاً لو اتفقت الزوجة والزوج على أن الزوجة تلتزم بحجابها أو تلتزم بصلاة الفجر إن التزم زوجها بترك التدخين، فإن مجرد هذا الاتفاق ما لم يكن داخلاً تحت عنوان العهد لا يجب الوفاء به، ولو دخل تحت عنوان العهد ووجب الوفاء به بعنوان العهد فإنه ليس عقداً، إذ لا يتولد من هذا الاتفاق علقة اعتبارية وضعية من ملكية أو زوجية أو حقية أو ما أشبه ذلك.

وهذا من الإشكالات المسجلة على تعريف المحقق الإصفهاني (قدس سره) للعقد، حيث إن المحقق الإصفهاني (قدس سره) عرف العقد بأنه قرار مرتبط بقرار آخر، فإن مجرد ارتباط القرارين على نحو التعهد والالتزام لا يعني أنه عقد ما لم يترتب على هذا الاتفاق علقة اعتبارية.

ولابد من التنبيه في المقام على نقطة: وهي أن البحث في أن العقد هل هو مطلق الاتفاق بين طرفين على تسليط أحدهما على عمل معين كأن يتصالح الطرفان في ضمن العقد المنقطع على أن يهبها المدة متى شاءت بإزاء أن لا تتزوج من غيره، حيث إن مآل ذلك إلى تسليط المرأة على الرجل في إلزامه بالهبة، أو أن العقد ما كان منتجاً للعلقة الاعتبارية؟ فليس البحث بحثاً في المنصرف من عنوان العقد عرفاً كي يكون بحثاً عن مفاد كلمة (العقد) في اللغة العربية، وإنما هو بحث عن حقيقة معاملية بين المرتكز العقلائي من حيث ما هو المقوم لها بغض النظر عن اللفظ المعبر عن تلك الحقيقة، سواء كان لفظاً عربياً أو فارسياً أو غير ذلك.

المطلب الثالث: قد يشكل على تعريف العقد بأنه (إنشاء علقة اعتبارية متقومة بالطرفين) بإشكالين :

الإشكال الأول: أن تحديد العقد بما كان منشأ لعلقة اعتبارية مستلزم للدور، بلحاظ توقف العلقة الاعتبارية على العقد توقف المعلول على علته، فلو عرّف العقد بما كان منشأً للعلقة الاعتبارية لزم أخذ المعلول في مفهوم العلة وهذا دور، حيث إن وجود العلقة الاعتبارية من ملكية أو زوجية أو حقية أو سلطنة متقوم بوجود العقد، فلا علقة اعتبارية الا عن عقد، فكيف يعرف العقد بما يتولد عنه علقة الاعتبارية مع أن تولد العلقة الاعتبارية يتوقف على وجود العقد؟

والجواب عن ذلك: بأن هذا من الخلط بين الوجود القانوني والشرعي والوجود الإنشائي، فإن الدور إنما يرد لو كان صدق عنوان العقد على المعاملة موقوفاً على إمضاء القانون أو الشرع للعلقة المنشأة، فإنه لو كان صدق عنوان العقد متوقفاً على تحقق العلقة الاعتبارية بالفعل بواسطة الإمضاء - أي لا يصدق على المعاملة عقد حتى يمضي الشارع أو المقنن العلقة المنشأة - كان ذلك دوراً، لأن إمضاء الشارع أو المقنن للعلقة فرع وجود عقد، فلو توقف العقد على الإمضاء للزم الدور، أو فقل إن تحقق العلقة الاعتبارية بالفعل بحيث تكون موضع الآثار متقوم بالمفروغية عن وجود عقد في رتبة سابقة، فلا يعقل تقوم العقد بوجود العلقة الاعتبارية بالفعل.

ولكن المفروض أن المعرّف لمفهوم العقد العلقة الاعتبارية الإنشائية لا العلقة الفعلية التي تحققت نتيجة إمضاء المشرع أو القانون، فالعقد هو عبارة عن إنشاء علقة اعتبارية، والمقوم له الوجود الإنشائي للعلقة لا أن المقوم له الوجود الفعلي للعلقة ببركة إمضاء المشرع أو المقنن.

ومن الواضح أنه يمكن تعريف العلة بما كان سبباً لمعلول معين وهذا لا محذور فيه، كأن يقال مثلا مفهوم النار ما كانت مصدراً للحرارة، وهذا لا دور فيه، لأنه في الواقع تعريف بالعلية لا تعريف بالمعلول، أي أن المقوم لمفهوم النار عليتها للحرارة لا وجودها، والمقوم لمفهوم العقد منشأيته في عالم الاعتبار لعلقة اعتبارية لا تحققها في وعاء الإمضاء وترتب الآثار.

الإشكال الثاني: ما هو المراد بالعلقة الاعتبارية? هل المراد بالعلقة الاعتبارية هو العلقة العقلائية، يعني ما يراه العقلاء موضوعا لترتب الآثار كالملكية والزوجية والحقية والسلطنة ونحو ذلك؟ أم أن المراد مطلق العلقة الاعتبارية ولو بفرض فارض ولو لم تكن علقة عقلائية، حيث لا مؤنة في الاعتبار والفرض؟

فإن كان المنظور هو الأول - بكون العقد إنشاء العلقة اعتبارية عقلائية - فهذا يقتضي اختصاص العقد بالعقد الصحيح، والحال بأن البحث عن مفهوم العقد بغض النظر عن صحته وفساده، وغض النظر عن كونه عقداً ذا إرادة جدية أو لا عن إرادة.

وإن كان المقصود العلقة الاعتبارية ولو بفرض فارض فلازم ذلك صدق عنوان العقد على المعاملات السفهية أيضاً، فمثلاً لو اتفق طرفان على إنشاء النبوة أو الإمامة أو الولاية العامة، كأن يقول أحد الطرفين: (أتفق معك على أن اعتبرك إماماً أو نبياً من قبل الله تعالى)، فيقول الطرف الآخر: (قبلت)، فإن هذا الاتفاق بلا إشكال قد انشأ علقة اعتبارية وهي إنشاء النبوة والإمامة بينهما، فلو قيل بأن العقد ما كان إنشاءً لعلقة اعتبارية ولو لم تكن تلك العلقة الاعتبارية عقلائية لزم من ذلك صدق عنوان العقد حتى على المعاملات الاعتباطية وإن كان يعلم الطرفان أنها لن تتحقق، لكنهما بالنتيجة قاما بإنشاء علقة اعتبارية بينهما.

والجواب عن ذلك: أن المقصود بالعلقة الاعتبارية هي علقة وضعية وليست حكماً تكليفياً كما هو الحال في أثر الشروط، حيث إن المترتب على الشرط وجوب الوفاء به - لدى المشهور - من دون علقة اعتبارية -، والعلقة الوضعية من قبيل الملكية كما في البيع والإجارة والزوجية كما في النكاح، والسلطنة كما في الوكالة، فإن الوكالة عبارة عن إنشاء سلطنة أو تفويض من قبل الموكل للوكيل يترتب عليها نفوذ معاملة الوكيل، أو كانت حقاً كما لو تصالح الطرفان على أن يكون لأحدهما حق السرقفلية، كما لو كان حق السرقفلية لدى الطرف الأول وتصالح مع الطرف الآخر على كون هذا الحق له بنفس التصالح، فهو إنشاء لعلقة حقية بين الطرفين، فهذه هي حقيقة العقد.

ومقتضى ما ذكر دخول معاملة الاستصناع في العقد، فعندما يتفق شخص مع شركة تبني عمارة ذات شقق، على أنه متى تم البناء يشتري الشقة منها، فهو لا يشتري الشقة بالفعل، وليس المنشأ مجرد وعد أو تعهد بالشراء، وإنما الاتفاق السابق يجعل للمتقدم بالطلب حقاً اعتبارياً بأن بكون المقدم على غيره في إبرام عملية الشراء، فبما أن الاتفاق أنتج حقاً اعتبارياً كان الاتفاق عقداً.

ومنه دفع العربون أيضاً، إذا كان دفع العربون وسيلة للتوصل لشراء البضاعة المعروضة كما لو كان مصطلح السوق أن من يدفع عربوناً في وقت معين يكون له الحق في الشراء قبل غيره، فإن ذلك موجب لكونه عقداً.

ومن هذا القبيل ما لو اتفق الرجل مع المرأة في العقد المنقطع على أن يهبها المدة مقابل أن لا تتزوج فلاناً بعد ذلك، فإنه إذا كان الاتفاق على الهبة كنتيجة لا على أن يهب كفعل، أي أن متعلق الاتفاق نفس العلقة الوضعية وهي أن تكون خلية من قبله، فهذا عقد يشملها (أوفوا بالعقود)، بينما لو اتفق معها على الفعل - أي على أن يهبها - لا أنه وهبها بنفس الاتفاق، فهذا لا يكون عقداً، لأنه لا ينتج علقة اعتبارية.

وبذلك يظهر الجواب عن الإيراد المذكور، فإنه يمكن اختيار المحتمل الأول ولا يرد عليه محذور، كما يمكن اختيار المحتمل الثاني ولا يرد عليه محذور.

أما المحتمل الأول: وهو أن العقد اتفاق منتج لعلقة اعتبارية عقلائية - ومعنى العلقة الاعتبارية العقلائية: يعني العلقة التي لها آثار لدى المرتكز العقلائي - فإنه لا يرد عليه أن مقتضى ذلك انحصار العقد بالعقد الصحيح. والسر في ذلك أن البحث عن تعريف العقد إننا هو بحث عن منشأ اعتباري هو أحد عوامل تحقق العلقة العقلائية في وعاء الإمضاء، وليس العقد هو تمام العلة لحصول العلقة كي يختص بالعقد الصحيح، فإن العلقة العقلائية في وعاء الإمضاء تحتاج إلى عوامل أخرى وهي اجتماع شرائط المتعاقدين وشرائط المبرز للعقد، ولا يكفي مجرد إنشاء العلقة العقلائية في تحققها بالفعل، وبالتالي حتى لو عرّف العقد بأنه ما كان إنشاءً لعلقة اعتبارية عقلائية فلا محال دوره دور الإنشاء، وأما ترتب هذه العلقة العقلائية فيتوقف على عوامل أخرى. فربط العقد بالعلقة العقلائية لا يوجب انحصار العقد في العقد الصحيح، فهو مجرد إنشاء قد تجتمع معه الشروط فيكون صحيحاً، وقد لا تجتمع معه فيكون فاسداً.

وأما المحتمل الثاني: وهو كون العقد إنشاءً لمطلق العلقة الاعتبارية ولو كانت علقة لا تتحقق لدى العقلاء - كما إذا اتفق معه على إنشاء النبوة أو الإمامة أو الولاية العامة أو نحو ذلك - فهو عقد وإن كان عقداً سفهياً، ولذلك بُحث في كتاب البيع عن كون الخارج عن أدلة الإمضاء البيع السفهي أم بيع السفيه - على الخلاف بينهم -، مما يؤكد أن كون المعاملة سفهية شيء وأن لا يصدق عليها عنوان العقد شيء آخر، فإنها بالنتيجة معاملة سفهية لا تشملها أدلة الإمضاء ولا يشملها بناء العقلاء على التنفيذ، لكنها بالحمل الشائع عقد أو بيع أو هبة أو ما أشبه ذلك.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo