< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/03/30

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: فروع العلم الإجمالي/المسألة الحادية و العشرون/

 

المسألة الحادية والعشرون:
إذا علم المكلف أنه إما ترك جزءاً مستحباً كالقنوت أو جزءاً واجباً سواء كان ركناً أو غيره من الأجزاء التي لها قضاء أو يجب لها سجود السهو صحت صلاته ولا شيء عليه، وكذا لو علم أنه إما ترك الجهر أو الإخفات في موضعهما أو ترك بعض الأفعال الواجبة لعدم الأثر لترك الجهر والإخفات، فيكون الشك بالنسبة للطرف الآخر من الشك البدوي.

بيان المسألة:
أن منجزية العلم الإجمالي فرع تعارض الأصول في أطرافه، وتعارض الأصول في الأطراف فرع أن يكون لكل طرف أثر عملي، فلو لم يكن لأحد الطرفين أثر عملي لم تتعارض الأصول ولم يكن العلم الإجمالي منجزاً.

وفي المقام صور أربع:

الصورة الأولى: أن لا يكون لأحد طرفي العلم الإجمالي أثر، كما لو علم المكلف بعد الركوع بأنه إما ترك الجهر في الصلاة الجهرية أو الإخفات في الصلاة الإخفاتية في موضعهما أو ترك سجدة أو تشهداً فالعلم الإجمالي هنا لا أثر له، لأن المفروض أن أحد الطرفين لا أثر لتركه، إذ لا يجب تدارك الجهر كما لا يجب سجود السهو لأجل تركهما، فحيث إن أحد الطرفين - وهو ترك الجهر أو الإخفات نسيانا في موضعه - لا أثر له فيجري الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بلا معارض، فإذا علم وهو في صلاة الفجر مثلاً بعد أن ركع الركوع الثاني أنه إما ترك الجهر في القراءة أو ترك سجدة، وترك الجهر لا أثر له فلا يجري فيه أصل عملي لكونه لا أثر له، فيجري الأصل الترخيصي في طرف السجدة وهو قاعدة التجاوز التي تؤمن من ترك السجدة بلا معارض، ولا يترتب عليه شيء لا داخل الصلاة ولا خارجها.

الصورة الثانية:
أن يكون لكل من الطرفين أثر ولكن هناك أثراً مشتركاً وأثراً مختصاً، بيان ذلك بالمثال: إذا علم المكلف بأنه إما ترك القراءة أو ترك سجدة، كما لو علم بعد الركوع في الركعة الثانية أنه إما ترك القراءة أو ترك سجدة، وقلنا بوجوب سجود السهو لنقصان الجزء سواء كان قراءة أو سجدة. فيوجد أثر مشترك لكلا الطرفين وهو وجوب سجود السهو، سواء كان المتروك سجدة أو قراءة للنقصان السهوي.

وهناك أثر خاص بترك السجدة وهو وجوب قضائها بعد الصلاة، فهنا أيضاً لا يكون العلم الإجمالي منجزاً، لأن وجوب سجود السهو معلوم تفصيلاً لا إجمالاً، حيث يعلم أنه نقص جزءاً سهواً، ونقص الجزء سهواً موجب لسجود السهو، فيجب عليه سجود السهو على كل حال سواء كان الناقص القراءة أم السجدة. وأما الأثر الخاص بترك السجدة - وهو وجوب قضائها بعد التسليم من الصلاة - فهو مشكوك شكاً بدوياً، فتجري قاعدة التجاوز في السجدة بلا معارض، وأثر جريان قاعدة التجاوز في السجدة عدم وجوب قضائها بعد الصلاة، فلا يجب عليه إلا سجدتا السهو ولا شيء عليه.

الصورة الثالثة:
أن يدور الأمر بين ترك واجب أو ترك مستحب تالٍ للواجب، مثلاً: إذا علم المكلف بعد أن دخل في القراءة أنه إما ترك تكبيرة الإحرام أو ترك الاستعاذة قبل القراءة، حيث إن الاستعاذة قبل القراءة مستحبة عند المشهور، وفرضنا أن لترك الاستعاذة أثراً عملياً وهو استحباب تداركها قبل الركوع، فهنا لكل من الطرفين أثر، فترك التكبير أثره إعادة الصلاة وترك الاستعاذة أثره تداركها، فهو يعلم إجمالاً بأنه إما يجب عليه إعادة الصلاة لترك التكبيرة أو يجب عليه تدارك الاستعاذة لتركها، إلا أن العلم الإجمالي ليس منجزاً، لأنه يعلم تفصيلاً أن الاستعاذة لم يمتثل أمرها، إما لأنه ما أتى بها أو أتى بها في غير موقعها، لأنه لو كان قد أتى بها قبل القراءة فقد ترك تكبيرة الإحرام، لكونه قد ترك أحدهما، فحيث يعلم تفصيلاً بأن الاستعاذة لم يمتثل أمرها فيستحب في حقه تداركها، وتجري قاعدة التجاوز في التكبيرة بلا معارض، لأن الطرف الآخر لا يجري فيه أصل للعلم بعدم امتثال أمره، ولا يكون العلم الإجمالي حينئذ منجزاً.

الصورة الرابعة:
- وهي محل الخلاف بين سيد العروة قدس سره وبين بعض الأعلام بعده - وهي ما إذا علم إما بترك مستحب أو ترك واجب وكان لكل منهما أثر عملي، ولم يكن المستحب مما يلي الواجب كما لو علم بعد أن أكمل السجدتين أنه إما ترك القنوت من الركعة الثانية أو ترك الركوع، أو علم بعد أن تشهد أنه إما ترك القنوت أو ترك سجدة من السجدتين، وفُرض أن لترك القنوت أثراً عملياً، والأثر العملي هو متى ما ذكر القنوت اتى به في الصلاة وإن كان لم يذكره في موضعه، لرواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (في رجل نسي القنوت حتى يركع قال: يقنت بعد الركوع)، ورواية زرارة (قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل نسي القنوت فذكره وهو في بعض الطريق، قال: يستقبل القبلة ثم ليقله)، ونظيرها من علم إجمالاً أنه إما أخل بنافلة أو فريضة، فهناك أثر لترك القنوت وهو تداركه في أي وقت، وهناك أثر لترك السجدة وهو قضاؤها بعد الصلاة ووجوب سجود السهو لأجلها. فهل العلم الإجمالي هنا منجز أم لا؟

وهنا فرضان:

الفرض الأول:
أن يكون الطرف الآخر ركناً كما لو علم وهو في التشهد أنه إما ترك القنوت أو ترك ركوعاً، فبناءً على تقدم الأصل المصحح على الأصل المتمم لا يكون العلم الإجمالي منجزاً، وذلك لأن المكلف يعلم تفصيلاً أن القنوت لم يقع امتثالاً لأمره، إما لأنه ما أتى به أو أتى به في صلاة فاسدة لترك الركن وهو الركوع.

فبناءً على ذلك لا تجري قاعدة التجاوز في القنوت للعلم تفصيلاً بعدم امتثال أمره، فيتداركه وتجري قاعدة التجاوز في الركوع بلا معارض وينحل بذلك العلم الإجمالي.

الفرض الآخر:
وهو ما إذا علم وهو في الركوع للركعة الثالثة أنه إما ترك قنوتاً أو ترك سجدة واحدة، فدار الأمر بين ترك مستحب أو ترك واجب غير ركني، فهنا ذكر سيد العروة قدس سره أن العلم الإجمالي غير منجز، لأن أحد طرفيه مستحب وهو تدارك القنوت، ولكن بعض الأعلام من بعده طرح وجها لمنجزية العلم الإجمالي وإن كان أحد الطرفين مستحباً وله أثر كما في المستمسك [ج7 ص636].

وتقريب ذلك: أن المناط في منجزية العلم الإجمالي أحد وجهين:

الوجه الأول:
أن لازم جريان الأصل الترخيصي - وهو قاعدة التجاوز في كلا الطرفين - الترخيص في المخالفة العملية للمعلوم بالإجمال، فلو جرت قاعدة التجاوز في القنوت وجرت قاعدة التجاوز في السجدة فلازم جريان القاعدة فيهما ترخيص المولى في مخالفة أمر معلوم وهو الأمر إما بالمستحب أو الواجب غير الركني، فيلزم من ذلك تعارض الأصول ويلزم من تعارض الأصول منجزية العلم الإجمالي.

الوجه الثاني:
أن يقال: لا ريب ان المكلف إذا علم إجمالاً إما بترك مستحب أو بترك واجب فقد علم بأن في البين غرضاً معلوماً للمولى، لأنه كما في الواجب غرض لزومي للمولى فكذلك في المستحب غرض رجحاني للمولى، فالعلم الإجمالي إما بترك مستحب أو واجب علم بوجود غرض للمولى إما لازم أو راجح، فجريان الأصل في كلا الطرفين تفويت للغرض المولوي الذي هو إما لازم أو راجح، وحيث إن تفويت الغرض المولوي مستهجن فمقتضى ذلك منجزية العلم الإجمالي، فيجمع بين قضاء السجدة بعد الصلاة وبين تدارك القنوت بمقتضى منجزية العلم الإجمالي.

ولكن الصحيح بالنظر القاصر هو ما ذهب إليه سيد العروة قدس سره.

وبيان ذلك: أن المنجز للعلم الإجمالي أحد وجهين:

الوجه الأول:
الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الإلزامي كما لو دار الأمر بين واجبين، فإن جريان الأصل فيهما ترخيص في مخالفة قطعية لتكليف إلزامي معلوم بالإجمال، أما الترخيص في المخالفة العملية لأمر - قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً - فلم يحرز أنه قبيح أو مستهجن بحيث يكون مناطاً في منجزية العلم الإجمالي، بل الترخيص في المخالفة العملية لأمر قد يكون أمراً ندبياً مما لا قبح فيه عقلاً، وبالتالي لا يصلح هذا الوجه لأن يكون وجهاً لمنجزية العلم الإجمالي في المقام، فتجري قاعدة التجاوز في طرف الواجب بلا معارض.

الوجه الثاني:
أن يقال: إن جريان الأصل الترخيصي في كلا الطرفين تفويت لغرض مولوي وإن كان ذلك الغرض المولوي راجحاً لا لازماً.

وهذا أيضاً محل مناقشة، وبيان ذلك أن الغرض المعلوم بالإجمال إذا كان غرضاً لزومياً على كل حال فهنا يأبى العقلاء الترخيص، حيث إن الغرض الترخيصي لا يزاحم الغرض اللزومي، فإن جريان الأصل يحقق غرضاً ترخيصياً، والغرض الترخيصي لا يزاحم الغرض اللزومي، فالعقلاء يرون أن من المستهجن والمستنكر الترخيص في طرفي العلم الإجمالي المتعلق بتكليف لزومي على كل حال، إذ لازم جريان الأصلين فيه مزاحمة الغرض الترخيصي الناشئ من الترخيص للغرض اللزومي المعلوم بالإجمال، والغرض الترخيصي لا يزاحم الغرض اللزومي. ولذلك فمقتضى احتفاف أدلة الأصول العملية الترخيصية بهذا المرتكز العقلائي - الذي يأبى مزاحمة الغرض الترخيص للغرض اللزومي - عدم شمول أدلة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، وأما إذا لم يعلم وجود غرض لزومي كما إذا دار الأمر بين واجب ومستحب ولعل الغرض المعلوم غرض رجحاني فلا يوجد ارتكاز عقلائي على عدم مزاحمة الغرض الترخيصي الناشئ من الأصل العملي للغرض الرجحاني المعلوم في المقام، فإن ارتكاز العقلاء لا يأبى أن يزاحم الغرض الترخيصي - وهو التسهيل على المكلف في هذه الموارد بإجراء الأصل العملي - للغرض المعلوم بالإجمال إذا كان غرضاً رجحانياً، فإن المرتكز العقلائي لا يأبى المزاحمة بينهما.

فإذا لم يوجد ارتكاز عقلائي في المقام يأبى المزاحمة تمسكنا بإطلاق دليل قاعدة التجاوز في المقام، وكان نفس إطلاقه للمقام كاشفاً عن عدم المزاحمة بين الغرض الترخيصي - وهو غرض التسهيل الناشئ من نفس إجراء الأصول العملية - مع الغرض الرجحاني - وهو غرض تدارك القنوت - لو كان هو الواقعي في المقام.

فإن قلت:
إن حفظ الغرض الندبي - وهو تدارك القنوت - مطلوب أيضاً فيكون جريان قاعدة التجاوز في القنوت تفويتاً لحفظ الغرض الندبي للمولى.

قلت:
حكم العقل بحفظ الغرض الندبي للمولى حكم معلق على عدم ترخيص المولى، لأن المولى إذا رخص في حفظ الغرض الندبي فلا مجال لحكم العقل، بل يكون الترخيص واردا عليه، فحكم العقل بمطلوبية حفظ الغرض الندبي المحتمل في المقام فرع عدم ترخيص المولى في ذلك، والمفروض أن مقتضى إطلاق دليل قاعدة التجاوز هو الترخيص وجريانها في كلا الطرفين بلا مانع. فلا يجب عليه تدارك القنوت ولا قضاء السجدة، وكأنه لم يكن شيء.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo