الأستاذ السید منیر الخباز
بحث الفقه
45/03/29
بسم الله الرحمن الرحيم
وبناءً على ذلك فالمحقق للتجاوز الدخول في الغير المقابل عرفاً لما هو المشكوك، وإنما يصدق الدخول في الغير المقابل عرفاً في المركبات إذا دخل فيما سمّاه الشارع حين تعداد أجزاء الصلاة وشرائطها ومقدماتها أو ضمن روايات قاعدة التجاوز كذكره السجود عند جريان القاعدة في الشك في الركوع، وذكره القيام عند جريان القاعدة في الشك في السجود، فإذا تجاوز المحل الشرعي ودخل فيما هو غير مقابل للمشكوك عرفاً، فحينئذ يصدق العنوانان، فإنه تجاوز للمحل الشرعي بالدخول في الجزء المترتب وتجاوز عرفي لدخوله في الغير المقابل للمشكوك بنظر العرف، وأثر ذلك عدم جريان القاعدة في ما هو عمل تكويني بين الجزئين كالهوي إلى السجود أو النهوض إلى القيام يفرضه الانتقال من جزء الى جزء لاستحالة الطفرة، لعدم صدق التجاوز بالتلبس به إذ ليس من الغير المقابل للمشكوك عرفا، حيث إن الغير المقابل للركوع هو السجود لأنه هو الذي ورد في تعداد الصلاة وتفاصيلها، والغير المقابل للقراءة هو الركوع، وأما التلبس بعمل بين الجزئين مما يعد مقدمة وتمهيداً تكوينيا للخروج من جزء إلى المقابل له فلا يشمله ظاهر الروايات، لدلالتها على اعتبار تجاوز المحل الشرعي المصداق للتجاوز العرفي.
ولذلك تم التفصيل عند التلبس بالجزء المسانخ، فإنه إن انضمت اليه أمارة وجدانية على كونه الجزء اللاحق كما لو قام عن انحناء وشك في الركوع جرت القاعدة في حقه، ولا يبعد أنه منظور صحيحة الفضيل بن يسار (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: استتم قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال عليه السلام: بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنما ذلك من الشيطان)، وإن لم تنضم له أمارة على كونه قياماً حادثاً كما لو رأى نفسه في القيام بقصد القيام بعد الركوع، وفي طول ذلك شك في أن هذا القيام هو القيام بعد الركوع أو أنه هو القيام الذي قبل الركوع، لأنه لا يدري انحنى للركوع أم لم ينحن فهنا لا تجري القاعدة، وهو مقتضى إطلاق معتبرة عمران الحلبي (قال: قلت الرجل يشك وهو قائم فلا يدري ركع أم لا؟ قال عليه السلام: فليركع).
والسر في ذلك أن مناط جريان القاعدة الدخول في الغير المقابل، ولا يحرز أنه دخل في الغير المقابل مع احتمال أن هذا القيام هو نفس القيام السابق على الركوع، وحيث لم يحرز الدخول في الغير المقابل فلا موضوع لجريان القاعدة.
فكل ما يلزم من تداركه الإعادة - إما إعادة الصلاة أو إعادة جزء - فيصدق عنوان التجاوز بلحاظه ويكون مجرى للقاعدة، وأما ما لا يستلزم تداركه الإعادة - لا إعادة الصلاة ولا إعادة جزء منها - أو لا يحرز أن تداركه إعادة فليس مجرى للقاعدة لعدم صدق التجاوز، لذلك من شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود ولم يسجد بعد فإن رجوعه إلى الركوع لا يلزم منه لا إعادة الصلاة ولا إعادة جزء كي يكون مناطاً لصدق عنوان التجاوز، أو رأى نفسه في القيام بقصد القيام بعد الركوع وشك هل أن هذا هو القيام بعد الركوع أو امتداد للقيام قبله؟ فلو رجع وأتى بالركوع لم يحرز أنه أعاد جزءاً من أجزاء الصلاة إذ لعله ما زال في القيام السابق، فلم يحرز التجاوز كي تجري القاعدة.
ولا إشكال في توسعة القاعدة ما دامت ليست قاعدة عقلية فيمكن الالتزام بالتوسع في هذا المورد، كما التزم جمع من الأعلام بالتوسع في قاعدة الفراغ مع أنهم يرون أن مناط قاعدة الفراغ هو الفراغ الحقيقي بأن يحرز أنه أتى بالجزء الأخير أو يتلبس بالمنافي السهوي كالتلبس بالحدث أو الاستدبار أو فاتت الموالاة، وأما الفراغ الانصرافي بأن يرى نفسه منصرفا عن العمل من دون فراغ حقيقي - بحيث يمكنه الرجوع للتدارك بلا محذور فلا يكفي في جريان القاعدة، لكنهم التزموا بجريان قاعدة الفراغ في الوضوء بمجرد الفراغ الانصرافي، كما لو شك في الجزء الأخير من الوضوء وقد رأى نفسه قد قام من محل الوضوء أو مشتغلاً بالخياطة أو الكتابة مما من طبعه أن لا يشتغل به من دون فوت الموالاة، وذلك لدلالة صحيحة زرارة عليه (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وصرت في حال أخرى من الصلاة أو غيرها)، فكذلك في المقام يمكن أن يتوسع في قاعدة التجاوز في خصوص المورد الذي قامت عليه معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله وهو الشك في الركوع بعد الهوي للسجود.
هذا كله على مبنى من يشترط تجاوز المحل الشرعي، وأما على المبنى الآخر - كمبنى سيد العروة قدس سره والسيد الأستاذ مد ظله - الذي يرى أن المناط الدخول في الغير العرفي - والمقصود بالغير العرفي أن يتلبس بما لا ينبغي التلبس به قبل الفراغ من المشكوك في حال الالتفات - فجريان قاعدة التجاوز في من شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود على طبق القاعدة، لأنه تلبس بما لا ينبغي التلبس به إلا بعد الفراغ من الركوع حال الالتفات.
ولكن على هذا المبنى لا بد من معالجة معتبرة عبد الرحمن الأخرى التي قال فيها: (من شك في السجود وقد نهض للقيام، قال: يسجد) مع أنه قد تلبس بما لا ينبغي التلبس به إلا بعد الفراغ من المشكوك حال الالتفات لكونها مخالفةً للقاعدة.
ولذلك بنى الشيخ الطوسي قدس سره في الاستبصار على أن منظور الرواية الشك في العدد، يعني أنه نهض من السجود قطعاً لكن لا يدري نهض من سجدة أم من سجدتين؟ فالشك ليس في أصل السجود وإنما الشك في العدد، ولأجل أنه شك في العدد أمر عليه السلام بالاعتناء به وأن يرجع ويسجد سجدة أخرى، وحينئذ لا ربط للرواية بمحل الكلام.
إلا أن هذا الحمل بنظره خلاف الظاهر، فإن ظاهر قوله: (سجد أم لم يسجد) الشك في أصل السجود لا في عدد السجود.
فاشتمال الرواية على الاضطراب وعلى ما لم يلتزم به أحد مانع من الوثوق بالرواية وهو مناط الحجية أو مانع شمول أدلة حجية خبر الثقة لمثل هذه الرواية - على المبنى الآخر - فلا يعمل بها.
فلا ظهور في هذه الروايات في أن الاستواء بمعنى الاستقرار، وبالتالي فإن الرواية لم تشتمل على ما لم يلتزم به أحد كي يكون ذلك مانعاً من العمل بالرواية، بل إن ظاهر سياقها حيث إنها اشتملت على سؤالين من قبل عبد الرحمن بن أبي عبد الله حيث قال: (رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً ولم يدر سجد أم لم يسجد? قال: يسجد، قلت: نهض من سجوده قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد? قال: يسجد) أن المنظور في السؤال الأول من شك في السجدة الأولى لقوله: (رفع رأسه من السجود)، وأن منظور السؤال الثاني من شك في السجدة الثانية لقوله: (نهض من سجوده قبل أن يستوي قائماً). وبالجملة فإن ظاهر العطف أنهما مسألتان وأن الاولى ناظرة للشك في السجدة الأولى والثانية ناظرة للشك في السجدة الثانية، كما أنه ظاهر تغيير التعبير حيث عبر في السؤال الأول (رفع رأسه قبل أن يستوي جالساً) وعبر في السؤال الثاني (نهض قبل أن يستوي قائماً) وقد بني في كليهما على العناية بالشك والتدارك.
فالرواية خالية من الاضطراب ولم تشتمل على ما لم يلتزم به أحد.
كما يلاحظ على المعالجة الأولى أن مفاد الرواية مناف لمقتضى القاعدة على مبنى السيد الأستاذ مد ظله في ملاك قاعدة التجاوز، ولهذا لا بد أن يلتزم بها بنحو التخصيص للقاعدة، وإلا فمقتضى القاعدة على مبناه جريان قاعدة التجاوز في المقام، وقد أفتى في تعليقته على العروة بأن من شك في السجود أو شك في التشهد وقد نهض للقيام جرت القاعدة في حقه، مع أنه من الشك في أصل السجود، فكيف لا تجري في المقام مع أنه من الشك في واقع السجود بعد إحراز صورته وهيئته؟