< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/03/29

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: فروع العلم الإجمالي

 

المبنى الثاني:
أن يقال إن المناط في جريان قاعدة التجاوز وإن كان هو تجاوز المحل الشرعي ولكن في إطار التجاوز العرفي، بمعنى أن الموضوع لعدم الاعتناء بالشك وإن كان هو التجاوز الشرعي ولكن لا على نحو التعبد، بحيث تجري القاعدة حتى لو لم يكن تجاوز المحل الشرعي مصداقاً للتجاوز العرفي، وإنما تجري القاعدة في فرض يكون تجاوز المحل الشرعي مصداقاً أيضا للتجاوز العرفي بتقريب أن ظاهر أخذ العناوين في الروايات التي لها مفاهيم عرفية هو إرادة مفاهيمها العرفية، مالم تقم حقيقة شرعية لها، فإذا قال عليه السلام: (وكل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه) فإنه ظاهر في اعتبار تجاوز المحل الشرعي بما هو مصداق للتجاوز العرفي أيضاً، غايته أن الشارع أضاف قيودا على تحقق التجاوز العرفي لكنه لم يلغه.

وبناءً على ذلك فالمحقق للتجاوز الدخول في الغير المقابل عرفاً لما هو المشكوك، وإنما يصدق الدخول في الغير المقابل عرفاً في المركبات إذا دخل فيما سمّاه الشارع حين تعداد أجزاء الصلاة وشرائطها ومقدماتها أو ضمن روايات قاعدة التجاوز كذكره السجود عند جريان القاعدة في الشك في الركوع، وذكره القيام عند جريان القاعدة في الشك في السجود، فإذا تجاوز المحل الشرعي ودخل فيما هو غير مقابل للمشكوك عرفاً، فحينئذ يصدق العنوانان، فإنه تجاوز للمحل الشرعي بالدخول في الجزء المترتب وتجاوز عرفي لدخوله في الغير المقابل للمشكوك بنظر العرف، وأثر ذلك عدم جريان القاعدة في ما هو عمل تكويني بين الجزئين كالهوي إلى السجود أو النهوض إلى القيام يفرضه الانتقال من جزء الى جزء لاستحالة الطفرة، لعدم صدق التجاوز بالتلبس به إذ ليس من الغير المقابل للمشكوك عرفا، حيث إن الغير المقابل للركوع هو السجود لأنه هو الذي ورد في تعداد الصلاة وتفاصيلها، والغير المقابل للقراءة هو الركوع، وأما التلبس بعمل بين الجزئين مما يعد مقدمة وتمهيداً تكوينيا للخروج من جزء إلى المقابل له فلا يشمله ظاهر الروايات، لدلالتها على اعتبار تجاوز المحل الشرعي المصداق للتجاوز العرفي.

ولذلك تم التفصيل عند التلبس بالجزء المسانخ، فإنه إن انضمت اليه أمارة وجدانية على كونه الجزء اللاحق كما لو قام عن انحناء وشك في الركوع جرت القاعدة في حقه، ولا يبعد أنه منظور صحيحة الفضيل بن يسار (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: استتم قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال عليه السلام: بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنما ذلك من الشيطان)، وإن لم تنضم له أمارة على كونه قياماً حادثاً كما لو رأى نفسه في القيام بقصد القيام بعد الركوع، وفي طول ذلك شك في أن هذا القيام هو القيام بعد الركوع أو أنه هو القيام الذي قبل الركوع، لأنه لا يدري انحنى للركوع أم لم ينحن فهنا لا تجري القاعدة، وهو مقتضى إطلاق معتبرة عمران الحلبي (قال: قلت الرجل يشك وهو قائم فلا يدري ركع أم لا؟ قال عليه السلام: فليركع).

والسر في ذلك أن مناط جريان القاعدة الدخول في الغير المقابل، ولا يحرز أنه دخل في الغير المقابل مع احتمال أن هذا القيام هو نفس القيام السابق على الركوع، وحيث لم يحرز الدخول في الغير المقابل فلا موضوع لجريان القاعدة.

المبنى الثالث:
أن مناط القاعدة صدق عنوان التجاوز، وصدق العنوان منوط عرفاً بأن يلزم من تدارك المشكوك الإعادة، إما إعادة الصلاة كما لو شك في ركن وقد دخل في ركن آخر، كما لو شك في الركوع وقد دخل في السجدة الثانية، فإنه لو أراد أن يعود إلى الركوع لزم أن يعيد السجود أيضاً وهذا موجب لإعادة للصلاة - عند المشهور -، أو إعادة جزء من أجزاء الصلاة كما إذا شك في الركوع وقد سجد سجدة واحدة، فإن تدارك الركوع مستلزم لإعادة السجدة.

فكل ما يلزم من تداركه الإعادة - إما إعادة الصلاة أو إعادة جزء - فيصدق عنوان التجاوز بلحاظه ويكون مجرى للقاعدة، وأما ما لا يستلزم تداركه الإعادة - لا إعادة الصلاة ولا إعادة جزء منها - أو لا يحرز أن تداركه إعادة فليس مجرى للقاعدة لعدم صدق التجاوز، لذلك من شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود ولم يسجد بعد فإن رجوعه إلى الركوع لا يلزم منه لا إعادة الصلاة ولا إعادة جزء كي يكون مناطاً لصدق عنوان التجاوز، أو رأى نفسه في القيام بقصد القيام بعد الركوع وشك هل أن هذا هو القيام بعد الركوع أو امتداد للقيام قبله؟ فلو رجع وأتى بالركوع لم يحرز أنه أعاد جزءاً من أجزاء الصلاة إذ لعله ما زال في القيام السابق، فلم يحرز التجاوز كي تجري القاعدة.

والنتيجة: أنه على ضوء هذه المباني - ومنها مبنى بعض الأجلة [في كتابه قاعدة الفراغ والتجاوز] من اختصاص قاعدة التجاوز بالمركبات وأن مناط التجاوز الشك في جزء بالدخول في مطلق ما اعتبره الشارع وسماه عند الأمر بالمركب - عدم صدق مناط قاعدة التجاوز في المقام كي يكون مجرى لها، أي بناءً على اشتراط قاعدة التجاوز بتجاوز المحل الشرعي، أو تجاوز المحل الشرعي الذي يكون مصداقاً للتجاوز العرفي، أو التجاوز الذي لا يصدق إلا مع استلزام التدارك الإعادة - ولو إعادة جزء من أجزاء الصلاة - فإن مفاد معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله في من شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود مخالف للقاعدة، وبالتالي فالعمل بها من باب التخصيص، أي من باب التوسع في القاعدة في خصوص هذا المورد وهو من شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود، وإلا فمفادها مخالف للقاعدة.

ولا إشكال في توسعة القاعدة ما دامت ليست قاعدة عقلية فيمكن الالتزام بالتوسع في هذا المورد، كما التزم جمع من الأعلام بالتوسع في قاعدة الفراغ مع أنهم يرون أن مناط قاعدة الفراغ هو الفراغ الحقيقي بأن يحرز أنه أتى بالجزء الأخير أو يتلبس بالمنافي السهوي كالتلبس بالحدث أو الاستدبار أو فاتت الموالاة، وأما الفراغ الانصرافي بأن يرى نفسه منصرفا عن العمل من دون فراغ حقيقي - بحيث يمكنه الرجوع للتدارك بلا محذور فلا يكفي في جريان القاعدة، لكنهم التزموا بجريان قاعدة الفراغ في الوضوء بمجرد الفراغ الانصرافي، كما لو شك في الجزء الأخير من الوضوء وقد رأى نفسه قد قام من محل الوضوء أو مشتغلاً بالخياطة أو الكتابة مما من طبعه أن لا يشتغل به من دون فوت الموالاة، وذلك لدلالة صحيحة زرارة عليه (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وصرت في حال أخرى من الصلاة أو غيرها)، فكذلك في المقام يمكن أن يتوسع في قاعدة التجاوز في خصوص المورد الذي قامت عليه معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله وهو الشك في الركوع بعد الهوي للسجود.

هذا كله على مبنى من يشترط تجاوز المحل الشرعي، وأما على المبنى الآخر - كمبنى سيد العروة قدس سره والسيد الأستاذ مد ظله - الذي يرى أن المناط الدخول في الغير العرفي - والمقصود بالغير العرفي أن يتلبس بما لا ينبغي التلبس به قبل الفراغ من المشكوك في حال الالتفات - فجريان قاعدة التجاوز في من شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود على طبق القاعدة، لأنه تلبس بما لا ينبغي التلبس به إلا بعد الفراغ من الركوع حال الالتفات.

ولكن على هذا المبنى لا بد من معالجة معتبرة عبد الرحمن الأخرى التي قال فيها: (من شك في السجود وقد نهض للقيام، قال: يسجد) مع أنه قد تلبس بما لا ينبغي التلبس به إلا بعد الفراغ من المشكوك حال الالتفات لكونها مخالفةً للقاعدة.

 

وقد ورد في تقرير كلمات السيد الأستاذ ظله معالجتان لمعتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله:

المعالجة الأولى:
أن عدم جريان القاعدة في هذا الفرض لعدم تحقق التجاوز، فإن مناط قاعدة التجاوز تجاوز محل المشكوك حقيقة لا صورة، ومن نهض عن هيئة السجود للقيام وشك في تحقق السجود الواقعي، فهو لم يحرز أنه قد تجاوز عن محل واقع السجود، وما يكون النهوض تجاوزًا له هو النهوض عن واقع السجود لا صورته كما في المورد.

الثانية: أن معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله مما لا يمكن العمل بها، وذلك لاضطراب متنها واشتمالها على ما لا يلتزم به أحد:

أما المشكلة الأولى:
وهي اضطراب متنها فقد فرض في الرواية في قوله: (رجل نهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد) أن السجود قد تحقق لكونه قد نهض منه، ومع تحققه كيف يعقل الشك فيه بأن يقول: (فشك قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد) فإنه لا يجتمع نهاية الفقرة مع أولها، فإن ظاهر أولها (نهض من سجوده) أنه سجد، وظاهر نهايتها (فلم يدر سجد أم لم يسجد) يعني الشك في السجود، وهذا اضطراب في المتن.

ولذلك بنى الشيخ الطوسي قدس سره في الاستبصار على أن منظور الرواية الشك في العدد، يعني أنه نهض من السجود قطعاً لكن لا يدري نهض من سجدة أم من سجدتين؟ فالشك ليس في أصل السجود وإنما الشك في العدد، ولأجل أنه شك في العدد أمر عليه السلام بالاعتناء به وأن يرجع ويسجد سجدة أخرى، وحينئذ لا ربط للرواية بمحل الكلام.

إلا أن هذا الحمل بنظره خلاف الظاهر، فإن ظاهر قوله: (سجد أم لم يسجد) الشك في أصل السجود لا في عدد السجود.

وأما المشكلة الثانية:
فأولاً: أن قوله: (نهض من سجوده) ظاهره القيام، حيث إن (نهض) كما في تاج العروس والمنجد يعني قام، لا أنه شرع في القيام.

وثانياً: أن قوله: (فشك قبل أن يستوي قائماً) ليس المراد به قبل أن يقوم، بل المراد بالاستواء هنا الاستقرار، كما في قوله تعالى: ﴿فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك﴾ أي استقررت، فالمقصود بالاستواء الاستقرار، و(استوى قائماً) يعني استقر وهو قائم، لا أن المراد بـ ( قبل أن يستوي قائماً) يعني قبل أن يقوم، بل قبل أن يستقر حال القيام. وهذا أيضاً هو ظاهر رواية ابن أذينة الواردة في المعراج: (ثم أوحى الله إليه: استو جالساً يا محمد، ففعل فلما رفع رأسه من سجوده واستوى جالساً نظر إلى عظمته)، فإن ظاهرها أن المراد بالاستواء الاستقرار، وبالتالي فمقتضى هذين التعبيرين - أي تعبير (نهض من سجوده) وهو ظاهر في القيام، وتعبير (قبل أن يستوي) يعني قبل أن يستقر حال القيام - أن منظور الرواية من شك في السجود وقد قام لكنه لم يستقر في القيام، والإمام عليه السلام في هذا الفرض - وهو من شك في السجود حال القيام - أمر أن يعتني بشكه ويسجد، وهذا مما لم يلتزم به أحد.

فاشتمال الرواية على الاضطراب وعلى ما لم يلتزم به أحد مانع من الوثوق بالرواية وهو مناط الحجية أو مانع شمول أدلة حجية خبر الثقة لمثل هذه الرواية - على المبنى الآخر - فلا يعمل بها.

ويلاحظ عليه:
أنه من الواضح أن ما نقل عنه خلاف الظاهر جداً:

أولاً:
لأن التعبير بقوله: (نهض من سجوده) لا ظهور له في القيام بل غايته الشروع في القيام وصدور أول مرتبة من مراتبه، وإلا لو كان يقصد القيام لقال: (قام من سجوده)، فإن التعبير بالنهوض ظاهر في معنىً غير أنه قام من سجوده. وأما التعبير بأنه (قبل أن يستوي قائماً) حيث حمل الاستواء على الاستقرار فهو خلاف الظاهر أيضاً، وجميع الشواهد التي استشهد بها لا ظهور فيها في الاستواء بمعنى الاستقرار بل كلها تحتمل الاستواء بمعنى أصل المبدأ، فإن قوله تعالى: ﴿فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك﴾ ظاهر في معنى فإذا صرت في الفلك مقابل كونك في البر أو الماء، أي فإذا انتقلت من حالة البر إلى حالة أنك في الفلك فهي بمعنى الجلوس لا بمعنى الاستقرار، وكذلك قوله في الرواية: (ثم أوحى إليه: استو جالساً) يعني اجلس، فلما رفع رأسه واستوى جالساً يعني جلس من سجوده ونظر إلى عظمته تبارك وتعالى.

فلا ظهور في هذه الروايات في أن الاستواء بمعنى الاستقرار، وبالتالي فإن الرواية لم تشتمل على ما لم يلتزم به أحد كي يكون ذلك مانعاً من العمل بالرواية، بل إن ظاهر سياقها حيث إنها اشتملت على سؤالين من قبل عبد الرحمن بن أبي عبد الله حيث قال: (رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً ولم يدر سجد أم لم يسجد? قال: يسجد، قلت: نهض من سجوده قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد? قال: يسجد) أن المنظور في السؤال الأول من شك في السجدة الأولى لقوله: (رفع رأسه من السجود)، وأن منظور السؤال الثاني من شك في السجدة الثانية لقوله: (نهض من سجوده قبل أن يستوي قائماً). وبالجملة فإن ظاهر العطف أنهما مسألتان وأن الاولى ناظرة للشك في السجدة الأولى والثانية ناظرة للشك في السجدة الثانية، كما أنه ظاهر تغيير التعبير حيث عبر في السؤال الأول (رفع رأسه قبل أن يستوي جالساً) وعبر في السؤال الثاني (نهض قبل أن يستوي قائماً) وقد بني في كليهما على العناية بالشك والتدارك.

فالرواية خالية من الاضطراب ولم تشتمل على ما لم يلتزم به أحد.

كما يلاحظ على المعالجة الأولى أن مفاد الرواية مناف لمقتضى القاعدة على مبنى السيد الأستاذ مد ظله في ملاك قاعدة التجاوز، ولهذا لا بد أن يلتزم بها بنحو التخصيص للقاعدة، وإلا فمقتضى القاعدة على مبناه جريان قاعدة التجاوز في المقام، وقد أفتى في تعليقته على العروة بأن من شك في السجود أو شك في التشهد وقد نهض للقيام جرت القاعدة في حقه، مع أنه من الشك في أصل السجود، فكيف لا تجري في المقام مع أنه من الشك في واقع السجود بعد إحراز صورته وهيئته؟

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo