< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/03/25

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: فروع العلم الإجمالي

 

التفسير الثالث:
قد يقال إن الميزة لمعتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله التي قال فيها: (رجل أهوى إلى السجود ولم يدر ركع أم لم يركع، قال: قد ركع) أن ظاهرها أنها رواية واردة في مقام الإفتاء وتحديد الوظيفة العملية، والإطلاق الوارد في مقام الإفتاء وتحديد الوظيفة العملية أقوى من الإطلاق الوارد في مقام التعليم خصوصاً إذا كان من قبيل الإطلاق المقامي، حيث إن الإمام عليه السلام في هذه المعتبرة لم يستفصل حين قال السائل: (أهوى إلى السجود)، ولو كان هناك تقييد بأن يكون المناط في جريان القاعدة هو السجود لاستفصل الإمام من السائل - لكونه في مقام تحديد الوظيفة العملية - وقال له: (هل سجد أم لم يسجد?) فإن كان قد سجد جرت القاعدة وإلا فلا. فعدم الاستفصال المحقق للإطلاق المقامي يجعل الرواية أقوى ظهوراً من بقية الروايات في كفاية مجرد الهوي في جريان قاعدة التجاوز، فلو كان لغيرها من الروايات كمعتبرة إسماعيل بن جابر ظهور في احترازية القيد - وهو قوله: (وإن شك في الركوع بعدما سجد) - فإن ظهور الإطلاق المقامي الوارد في مقام الإفتاء في كفاية مجرد الهوي أقوى عرفاً من ظهور القيد في كونه في مقام التحديد ، لذلك تقدم المعتبرة على ماله ظهور في عدم كفاية الهوي تقدم الأظهر على الظاهر .

ولكن جملة من الأعلام الذين يرون أن المناط في القاعدة تجاوز المحل الشرعي بالدخول في الغير المترتب شرعا ذهبوا إلى أن مفاد الرواية على وفق القاعدة ولا ظهور لها في كفاية الهوي. وقد ذكر لذلك عدة وجوه:

الوجه الأول:
ما ذكره في مفتاح الكرامة من أن هناك فرقاً بين تعبيرين وهما قوله: (أهوى للسجود) وقوله: (أهوى إلى السجود)، فإن الأول يحتمل أنه لم وإنما هوى، ولكن الثاني - وهو قوله: (أهوى إلى السجود) - يفيد أنه شرع في السجود، نظير أن يقال: (سرت من البيت إلى المسجد) فإن ظاهره الوصول للمسجد، ولذلك أجرى الإمام عليه السلام قاعدة التجاوز باعتبار دخول المكلف في الجزء المترتب على الركوع وهو السجود.

ولكن ما أفيد لا قرينة عليه عرفاً، فلا فرق عرفاً بين أن يقال: (أهوى للسجود ولم يسجد) أو يقال: (أهوى إلى السجود ولم يسجد) من حيث عدم التنافي بين صدر الجملة وذيلها ، فإن كلا التعبيرين لا دلالة فيه على التلبس بالسجود الفعلي لو خلي الأمر والعبارة.

الوجه الثاني:
ما أشير إليه في كلمات بعض الأعلام من أنه إن قلنا إن السجود والركوع من الهيئات - أي من مقولة الوضع - فللسجود هيئة مقابل هيئة الركوع وبينهما مقدمة وهي الهوي، فلا يصدق على من هوى أنه سجد، وأما إذا قلنا بأن السجود والركوع من الأفعال لا من الهيئات، فالسجود فعل تدريجي وبما أنه فعل تدريجي فله مراتب، وأول مرتبة من السجود وضع الركبتين على الأرض، فمتى هوى ووضع ركبتيه على الأرض فقد شرع في السجود، وبالتالي فكلمة (أهوى إلى السجود) بمعنى أنه شرع في السجود، .

ولكن هذا الوجه محل تأمل أيضاً، فمضافاً إلى أن السجود والركوع من مقولة الوضع - أي من الهيئات - أنه لو فرضنا أن السجود من مقولة الفعل وأنه فعل تدريجي إلا أن مبدأه عرفاً هو وضع الجبهة، فما لم يضع جبهته على المسجد لا يقال عرفاً أنه سجد وإن وضع قدميه على الأرض، وبالتالي لا ملازمة بين الهوي إلى السجود و السجود نفسه.

الوجه الثالث:
ما ذكره صاحب الحدائق طاب ثراه [ج9 ص180] من أن المنظور في معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله للشك غير العقلائي أي كالشك الوسواسي، أي من شك في الركوع شكاً وسواسياً وقد هوى إلى السجود فليبني على أنه قد ركع، وهذا ليس تطبيقاً لقاعدة التجاوز بل هو تطبيق لقاعدة نفي الوسوسة وكثرة الشك، وذلك لقرينتين:

القرينة الأولى:
صحيحة الفضيل التي قال فيها: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: استتم قائماً واقف فلا أدري أركعت أم لا قال: بلى قد ركعت، فامض في صلاتك، فإن ذلك من الشيطان)، وهي دالة على أن المنظور هو مواجهة الشك غير العقلائي.

القرينة الأخرى:
تعبير الإمام عليه السلام في معتبرة عبد الرحمن بقوله: (قد ركع)، فإن التعبير بهذا الجزم ولم يقل: (يمضي في صلاته) أو (لا يعتني بالشك) ظاهره أنه في مقام نفي الشك الوسواسي وغير العقلائي لا في مقام معالجة الشك بقاعدة التجاوز.

وما ذكره صاحب الحدائق قدس سره أيضا محل تأمل:

أولاً:
بأن ورود كلمة (فإن ذلك من الشيطان) في صحيحة الفضيل لا دلالة فيه على أن المنظور هو الشك الوسواسي وغير العقلائي، وإنما هو توجيه إلى أن منشأ الشك عادة يكون من الشيطان، باعتبار أن الشيطان يغفل الإنسان وينسيه أنه في الصلاة فتتداخل عليه الأمور فيشك، لا أن المقصود أن الشك في المقام شك وسواسي، وإلا من وقف عن ركوع ثم شك أنه ركع ركوعاً تاماً أم لا فإنه تجري في حقه القاعدة، بغض النظر عن كون شكه وسواسياً أم لا.

وثانياً: على فرض أن هذا التعبير يدل على أن الشك شك وسواسي فوجود هذه العبارة في صحيحة الفضيل لا يصلح قرينة على مفاد معتبرة عبد الرحمن ، حيث لم ترد هذه العبارة في صحيحة عبد الرحمن كي يقال: ورودها في صحيحة الفضيل قرينة على أن الشك شك وسواسي، فلا ملازمة عرفاً بين الأمرين.

وثالثاً: أن التعبير بقوله: (قد ركع) إنما صح لأن مفاد قاعدة التجاوز التعبد بالوجود، لا لأنه في مقام التطمين ورفع الوسوسة، بل لأن هذه العبارة عبارة قانونية تفصح عن أن مفاد دليل قاعدة التجاوز ليس مجرد نفي الشك بل التعبد بالوجود وتحقق الامتثال.

الوجه الرابع:
ما أشار اليه شيخنا الأستاذ الشيخ التبريزي قدس سره، وتقريب كلامه في مقدمتين:

المقدمة الأولى:
أنه قد يتصور أن لعبد الرحمن بن أبي عبد الله روايتين: إحداهما: قد دلت على عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشك في السجود لمن نهض ولم يصل إلى حد القيام، والأخرى: قد دلت على جريان قاعدة التجاوز في من شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود، فيتوهم أن بين الروايتين تعارض، والحال أنهما رواية واحدة، فإن ظاهر وحدة السند ووحدة السياق - وهو السؤال عمن شك في جزء من أجزاء الصلاة بعد الدخول في مقدمة الجزء اللاحق - أنهما رواية واحدة، وبما أنهما رواية واحدة فلا يحتمل عرفاً تدافع وتهافت بين مقطعين من رواية واحدة واردين في سياق واحد، فلا محالة أحدهما قرينة على مفاد الآخر لا أن بينهما تعارض، فإن وحدة الرواية بنفسها قرينة على أن أحد المقطعين قرينة على الآخر.

المقدمة الثانية:
أن الملاحظ في الأولى تقييد السائل قوله: (رفع رأسه) بقوله ( قبل أن يستوي جالساً) وتقييد الآخر بقوله: (قبل أن يستوي قائماً)، بينما حين وصل إلى السؤال الثاني لم يذكر كلمة (يستوي) بل قال: (رجل أهوى إلى السجود ) ولم يقل: (قبل أن يستوي ساجداً)، مما يعني أن عبد الرحمن بن أبي عبد الله كان ملتفتاً إلى أنه لو لم يذكر القيد في السؤالين لكان ظاهر عبارة (رفع رأسه) أو (نهض) عرفاً أنه دخل في الجزء اللاحق، ولولم يكن في مرتكز عبد الرحمن أن اللفظ عند إطلاقه ينصرف إلى الجزء اللاحق لم يكن وجه للتقييد من قبله بقوله: (قبل أن يستوي جالساً) و(قبل أن يستوي قائماً)، فنفس هذا التقييد دال عرفاً على أنه لولا هذا القيد لكان ظاهر قوله: (رفع) في الجلوس وظاهر قوله: (نهض) في القيام، ولذلك لم يستخدم القيد في قوله: (أهوى إلى السجود) حيث لم يقل: (قبل أن يستوي ساجداً)، فإن المقابلة بين المقطعين هي قرينة عرفية على ظهور قوله: (وقد أهوى إلى السجود) في تحقق السجود، ولذلك لم يقل: (قبل أن يستوي ساجداً) كما ذكر القيد في السؤال الأول في من شك في السجود، وبالتالي فجريان قاعدة التجاوز في الرواية لمن شك في الركوع وقد أهوى إلى السجود على طبق القاعدة لا أنها خروج عن حد القاعدة.

ولكن يمكن التأمل في ذلك:

أولاً:
بأن ما أفيد مبني على وحدة الروايتين بمقتضى وحدة السند، مع أن مجرد وحدة السند لا يدل على أنهما رواية واحدة، ولو دل فلا يدل على أنهما ورداً في سياق واحد، فلربما طرح عبد الرحمن السؤال الأول في سياق والسؤال الثاني في سياق آخر ثم جمع بينهما في مقام الإخبار والرواية، لا أنهما ورداً في سياق واحد كي يكون الورود في سياق واحد منبهاً على قرينية التعبير في أحدهما على مفاد الآخر.

وثانياً: ما سبق من أن كلمة (أهوى إلى السجود) ظاهرة عرفاً في أنه لم يسجد وإلا لاستخدم التعبير الأوضح بأن يقول: (وقد سجد)، فلا معنى لاستخدام التعبير الأبعد وهو كلمة (أهوى إلى السجود) التي يصح فيها عرفاً أن يقال: (أهوى إلى السجود ولم يسجد)، وبالتالي لا ظهور في مجرد المقابلة بين المقطعين في أن المقصود بقوله: (أهوى إلى السجود) أنه قد سجد كي يكون تفسيراً للرواية على طبق مقتضى القاعدة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo