< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/03/23

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: فروع العلم الإجمالي

 

والحاصل: أن لدى المكلف علماً إجمالياً بأنه إما ترك التشهد في هذه الركعة فيجب عليه تداركه أو ترك السجدة في الركعة السابقة فيجب عليه قضاؤها بعد الصلاة. وقد يمنع من منجزية العلم الإجمالي بأحد وجهين، مضى الكلام في الوجه الأول.

الوجه الثاني:
أن يقال: إن موضوع وجوب التدارك تذكر فوت الجزء لا نفس عدمه، بل موضوعه أن يصدق ذكر الجزء قبل الدخول في الركوع، فما لم يصدق الذكر فليس موضوعاً لوجوب التدارك، والعلم الإجمالي بأن المكلف إما ترك التشهد أو ترك سجدة من الركعة السابقة لا يصدق عليه الذكر بالنسبة للتشهد، فإذا لم يصدق عليه الذكر فأحد طرفي العلم الإجمالي ليس تكليفاً فعلياً، لأنه يعلم إجمالاً إما بترك سجدة الركعة السابقة فيجب قضاؤها أو ترك التشهد من هذه الركعة، والعلم الإجمالي بترك التشهد ليس ذكراً للتشهد فلا يجب تداركه، لذلك قال سيد العروة: (يمضي في صلاته فإذا فرغ قضى السجدة والتشهد).

 

ولكن يلاحظ على ذلك:

أولاً:
بأن ظاهر الروايات بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع أن الذكر ملحوظ على نحو الطريقية لا الموضوعية، وأن موضوع وجوب التدارك نفس عدم الجزء لا ذكر فوته، مثلاً معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: (إذا قمت في الركعتين الأولتين ولم تتشهد فذكرت قبل أن تركع فاقعد وتشهد، وإن لم تذكر حتى تركع فامض في صلاتك)، ظاهرة في أن الذكر طريق لإحراز عدم الجزء، وأن نفس عدم الجزء هو الموضوع لوجوب التدارك. وبالتالي إذا علم المكلف بأنه إما ترك التشهد أو ترك الركعة جرى استصحاب عدم التشهد في هذه الركعة، وبالاستصحاب يثبت الموضوع وهو عدم التشهد فيجب تداركه.

وثانياً: على فرض أن موضوع وجوب التدارك ذكر عدمه - لا نفس عدم التشهد بل ذكره - فإنه على مبنى سيدنا الخوئي قدس سره الشريف من أن المستفاد من دليل الاستصحاب - وهو قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) - التعبد باليقين بقاءً لا التعبد بالمتيقن، أي اعتبار الاستصحاب يقيناً بقاءً لا التعبد بالمتيقن بقاءً، فالاستصحاب مصداق للذكر تعبداً، فإن المكلف وإن لم يذكر التشهد وجدانا لكن الاستصحاب ذكر للتشهد تعبداً لجعل الشارع الاستصحاب يقيناً وعلماً.

فإن قلت:
إن المصحح لجريان الاستصحاب أثر عملي حين جريان الاستصحاب، إذ لو توقف الأثر على جريان الاستصحاب لزم الدور، كأن يقال في المقام: إن جرى الاستصحاب كان ذكراً تعبداً، وحيث كان ذكراً تعبداً ترتب عليه وجوب التدارك، فالأثر العملي - وهو كون الاستصحاب ذكراً - في طول جريان الاستصحاب، فإذا كان الأثر المصحح لجريان الاستصحاب متوقفاً على جريان الاستصحاب، والمصحح لجريان الاستصحاب ترتب الأثر لزم من ذلك الدور.

قلت: يكفي في جريان الاستصحاب الأثر الطولي ولا حاجة إلى الأثر في رتبة سابقة إذ المسألة ليست عقلية وإنما تبتني على ما يستفاد من ظاهر دليل الاستصحاب، فيقال مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب جريانه في كل مورد لا يترتب على جريانه محذور اللغو، وفي المقام يجري الاستصحاب ببركة إطلاق دليله، ولا يترتب على جريانه محذور اللغوية، إذ بمجرد جريانه يصبح ذكراً تعبداً، وحيث حصل الذكر وجب التدارك. فالأثر الطولي كافٍ في جريان الاستصحاب إذ لا مانع من جريانه إلا اللغوية، والأثر الطولي كافٍ في رفع اللغوية.

فتلخص من ذلك: أن الصحيح في هذه الصورة الثانية - وهي من علم إجمالاً بعد القيام أنه إما ترك التشهد أو السجدة من الركعة السابقة - أن يعود ويتدارك التشهد ويقضي السجدة بعد الصلاة ويسجد سجدتي السهو للقيام الزائد.

الصورة الثالثة:
وهي ما إذا علم أثناء النهوض للقيام - وهو بعد لم يقم- أنه إما ترك التشهد أو ترك سجدة من الركعة السابقة، فهل تجري قاعدة التجاوز في التشهد مع أنه ذكر ذلك أثناء النهوض لا بعد القيام؟

 

و منشأ البحث وجود معتبرتين يتوهم معارضتهما، وهما:

الأولى:
معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام: (رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً، فلم يدر أسجد أم لم يسجد، قال عليه السلام: يسجد، قلت: نهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائماً - يعني قبل تحقق القيام - فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: يسجد)، وظاهرها أن مجرد النهوض للقيام ليس محققاً للتجاوز، وحيث لا خصوصية للسجود كي يقال بأن الرواية واردة في السجود، فمقتضاها أن من شك في السجود أو التشهد حال النهوض للقيام لم تجر القاعدة في حقه.

الثانية:
معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله - نفسه ولعلهما رواية واحدة لسؤالين في مجلس واحد – (قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع، قال: قد ركع)، بتقريب أن لا خصوصية للركوع بل مقتضى الشك في الركوع العناية به والرجوع إليه لكونه من الأركان، ومع ذلك قال عليه السلام: متى شك وقد هوى إلى السجود جرت قاعدة التجاوز وإن لم يتحقق السجود بعد.

فظاهر الصحيحة الأولى عدم كفاية مقدمة الجزء، حيث لا يكفي النهوض بل لا بد من القيام، وظاهر المعتبرة الثانية كفاية المقدمة وهي الهوي الى السجود وإن لم يتحقق السجود.

 

وهنا اتجاهات أربعة:

الاتجاه الأول:
ما يقتنص من عبائر سيد العروة قدس سره من أن القاعدة المستفادة من موثقة إسماعيل بن جابر وهي (وكل شيء شك فيه بعدما جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه) هي كفاية الغير العرفي ولا حاجة إلى الغير الشرعي. والغير العرفي كما يصدق على القيام يصدق على النهوض للقيام، وكما يصدق على السجود يصدق على الهوي للسجود، ولكن خرجنا عن مقتضى القاعدة في خصوص الشك في السجود قبل الوصول لحد القيام لمعتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الأولى - حيث إن ظاهرها أن من شك في السجود وقد نهض للقيام لم تجر القاعدة في حقه-، وهذا تقييد لإطلاق دليل القاعدة، وإلا فلا خصوصية عرفاً لأي مورد بل يكفي الغير العرفي.

و لعله لذلك بنى سيد العروة في المسألة (20) التي هي من حيث المباني كمسألة (19) على عدم جريان القاعدة في الشك في السجود قبل الوصول للقيام، والفرق بين المسألة (20) والمسألة (19) أنه في الأولى صرح بعدم جريان قاعدة التجاوز لمن شك في السجود وهو أثناء القيام وهي: (ما إذا علم أنه ترك سجدة إما من الركعة السابقة أو من هذه الركعة فإن كان قبل الدخول في التشهد أو قبل النهوض للقيام أو أثناء النهوض للقيام قبل الدخول فيه (يعني في القيام) عليه العود لبقاء المحل). و مفاد كلمة (لبقاء المحل) عدم جريان القاعدة، بينما لم يفصل في المسألة (19) عند الشك في التشهد بين النهوض للقيام والقيام فقال: (وإن كان حال النهوض إلى القيام أو بعد الدخول فيه مضى وأتم الصلاة) مما يعني أن حكم النهوض والقيام واحد من حيث جريان القاعدة وعدمه، بل استفيد من قوله: (مضى) جريان القاعدة، فما هو الفرق بين الموردين؟

قد يقال: إن الفرق أنه حمل معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الأولى على الخصوصية، وأن للشك في السجود حال النهوض للقيام خصوصية، وإلا فمقتضى القاعدة - الموافقة لمعتبرة عبد الرحمن الثانية - جريان التجاوز لكفاية الغير العرفي في جريانها، ومن الغير العرفي الدخول في مقدمة الجزء اللاحق.

الاتجاه الثاني:
وهو عكس السابق، وهو أنه لا يكفي الدخول في الغير العرفي بل لا بد في جريان القاعدة من تجاوز المحل الشرعي، وتجاوز المحل الشرعي بالدخول في الجزء المترتب شرعاً، كما هو ظاهر الأمثلة المذكورة في الروايات، حيث قال في صحيحة إسماعيل بن جابر: (وإن شك في الركوع بعدما سجد، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض)، حيث لم يكتف في كليهما بالمقدمة، وإنما خرجنا عن هذا المناط - وهو اعتبار المحل الشرعي - في خصوص من شك في الركوع وقد هوى إلى السجود لمعتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الثانية لنكتة يأتي بيانها، وإلا ففي جميع الموارد لا يكفي مقدمة الجزء بل لابد من الدخول في الجزء المترتب شرعاً.

الاتجاه الثالث:
أن الروايتين متعارضتان، إذ لا يحتمل الخصوصية عرفاً لا للشك في السجود حال النهوض للقيام ولا للشك في الركوع حال الهوي للسجود، بل مقتضى مناسبة الحكم للموضوع أن جريان القاعدة عند الهوي لتحقق مناطها وهو كون الهوي تجاوزاً، وعدم جريان القاعدة عند النهوض لعدم كون النهوض تجاوزاً، وهذا يقتضي التعارض بين المعتبرتين، فيتعارضان ويتساقطان فيرجع لإطلاق الأدلة، ومقتضى إطلاق الأدلة - كما عند السيد الأستاذ مد ظله - كفاية الغير العرفي، وأن مناط جريان القاعدة أن لا يتلبس بما لا ينبغي له التلبس به إلا بعد المفروغية عن الجزء الذي قبله، فتجري القاعدة حال الشك في حق من دخل في مقدمة الجزء اللاحق لكونه غيراً عرفياً.

الاتجاه الرابع:
أن مقتضى القاعدة اعتبار الدخول في الجزء المترتب شرعاً لا مطلقاً وأن ما ورد في معتبرة عبد الرحمن الثانية غير مناف للكبرى، وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني والسيد الخوئي قدس سرهما وبعض الأجلاء من تلامذته رحمه الله، وأما معتبرته الأولى التي منعت من جريان القاعدة حال النهوض فهي على وفق إطلاق الأدلة، لذا يقع البحث في مفاد المعتبرة الثانية وفيه ثلاثة تفسيرات:

الأول: ما ذكر في كلمات سيدنا الخوئي قدس سره من أن الفعل في قوله عليه السلام في الرواية: (وقد أهوى إلى السجود) فعل ماضٍ وظاهره أنه سجد، وإلا لو كان المقصود حال الهوي لعبر بالفعل المضارع وقال: (شك في الركوع وهو يهوي إلى السجود)، لكنه عبر بالفعل الماضي وظاهره أنه سجد، فلا يكون بين مفاد هذه الرواية وبين ما دل على اشتراط المحل الشرعي تعارض.

ولكن هذه المناقشة محل تأمل، فإن التعبير بالفعل الماضي لا يدل على دخول المكلف في السجود لصحة أن يقال عرفاً: (أهوى إلى السجود ولم يسجد)، وإنما مقصوده أن الشك لم يحصل قبل الهوي، وإنما حصل بعده لذلك عبر بالفعل الماضي، وإلا لو كان مقصوده أنه سجد لكان المناسب أن يعبر بالعنوان العرفي (وقد سجد) لا أن يقول: (وقد أهوى إلى السجود) للفرق العرفي الواضح بين العنوانين، فالتفسير الأول غير تام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo