< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/03/16

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: فروع العلم الإجمالي

 

وحاصل الرأي الثاني: أن المدار في قاعدة التجاوز على الغير العرفي - وهو ما لا ينبغي التلبس به حال الالتفات إلا بعد المفروغية عن وجود المشكوك - سواء كان هذا الغير العرفي جزءاً من الصلاة أم مستحباً فيها أم من تعقيباتها ولواحقها أم هو أحد الموانع، كما إذا تلبس المصلي بالحدث أو الاستدبار وشك في أنه هل أتى بالسجدة الأخيرة أو أتى بالتشهد أو أتى بالتسليم، فإن كل ذلك مجرىً للقاعدة.

فإن قلت: إن ظاهر موثقة إسماعيل بن جابر في قوله عليه السلام هو الاختصاص بالدخول في الجزء الشرعي: (إذا شك في الركوع وقد سجد أوشك في السجود وقد قام فليمض عليه، وكل شيء شك فيه مما قد جاوزه فليمض عليه)، فإن اقتصار الإمام عليه السلام في هذه الأمثلة على ما كان من الصلاة حيث لم يقل: (إذا شك في الركوع وقد هوى إلى السجود) بل قال: (وقد سجد)، ولم يقل: (وإن شك في السجود وقد نهض للقيام) بل قال: (وقد قام)، بمقتضى احترازية القيود أن المناط في جريان القاعدة أن يدخل في الجزء اللاحق - أي المترتب شرعاً على المشكوك - لا كل غير عرفي وإلا لذكر أمثلة سوى ذلك.

قلت: أولاً: بأن ما ذكر من السجود وعنوان القيام إن كان وارداً في مقام التحديد صح أن يستند إليه لإثبات اختصاص قاعدة التجاوز بالدخول في الغير الشرعي، وأما إذا لم يكن السياق سياق التحديد بل كان ظاهره سياق التمثيل فلا يستفاد منه اعتبار الدخول في الغير الشرعي.

فإن قلت: بأنه وإن لم يكن من باب التحديد ولكنه من باب مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب من إحراز الإطلاق، أو فقل من باب احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على هدم الإطلاق، أي لا نحرز الإطلاق في ذيل الرواية - وهو قوله عليه السلام: (وكل شيء شك فيه مما قد جاوزه فليمض عليه) - من جهة ابتلاء الإطلاق بما هو قدر متيقن في مقام التخاطب، والقدر المتيقن في مقام التخاطب هو عبارة عن اقتصار الإمام على ما كان من أجزاء الصلاة أو شرائطها، فمع احتفاف الكلام بأمثلة تصلح قرينة أو تشكل قدراً متيقناً في مقام التخاطب بين الإمام وبين إسماعيل بن جابر فلا يحرز إطلاق الذيل لكل غير عرفي.

قلت: إن ظاهر الرواية أن الإمام عليه السلام أعقب الأمثلة بذكر الكبرى مما يعني عدم الخصوصية لها ولذلك لا تكون الأمثلة صالحة للقرينية على المقيد، كما أن القدر المتيقن في مقام التخاطب إنما يمنع من إحراز الإطلاق الوارد في مقام الإفتاء وتحديد الوظيفة العملية، فيقال: لا إطلاق للفتوى مع احتفاف البيان بالقدر المتيقن، وإما إذا كان الإطلاق وارداً في مقام التعليم وضرب الكبرى حيث إن موثقة إسماعيل بن جابر بيان ابتدائي من الإمام عليه السلام فهو في مقام تعليم كبرى القاعدة، فلذلك لا يضر اشتمال البيان على ما هو من قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب بل تنعقد مقدمات الحكمة في الذيل، ومقتضى انعقادها ثبوت الإطلاق.

ومما يؤكد أن إطلاق ذيل الرواية شامل حتى للغير العرفي أن مطلق القيام ليس من الغير الشرعي، كما ذكره الأعلام - ومنهم سيد المستمسك قدس سره [ج٦ ص٢] وسيدنا الخوئي قدس سره [في الفصل الثالث من فصول الصلاة في منهاج الصالحين] - من كون القيام حال تكبيرة الإحرام وعند الركوع واجب ركني، وما سواه وهو القيام حال القراءة أو بعد الركوع فهو واجب غير ركني - بينما المذكور في الرواية مطلق القيام: (وإن شك في السجود وقد قام)، مع أن لحوق طبيعي القيام ليس شرطاً شرعياً في صحة السجود، وأن ما هو الدخيل في صحة السجود هو القراءة بشرط القيام حينها أو القيام المتصل بالركوع لا مطلق القيام، فذكره عليه السلام مطلق القيام مبرراً لجريان القاعدة شاهدٌ على عدم اعتبار الغير الشرعي وهو ما يكون لحوقه شرطاً في صحة الجزء السابق.

فتلخص من ذلك: أن المناط في باب قاعدة التجاوز هو تجاوز المحل العرفي بالتلبس بالغير العرفي الذي لا يصح التلبس به إلا بعد المفروغية عن المشكوك حال الالتفات.

تم الكلام في الفرع السابع عشر.

 

الفرع الثامن عشر: إذا علم المكلف إجمالاً أنه أتى بأحد الأمرين من السجدة والتشهد من غير تعيين وشك في الآخر، فإن كان بعد الدخول في القيام لم يعتني بشكه، وإن كان قبله يجب عليه الإتيان به لأنه شاك في كل منهما مع بقاء المحل، ولا يجب الإعادة بعد الإتمام وإن كان أحوط.

وقد أفاد سيد العروة قدس سره أن المكلف إذا علم أنه أتى بأحد الواجبين - وهما السجدة أو التشهد - ولكن يحتمل ترك الآخر وفعله، فإذا حصل له ذلك بعد الدخول في القيام جرت في حقه قاعدة التجاوز لأنه قام وشك هل أتى بكلا الواجبين - وهما السجدة والتشهد - أم أتى بأحدهما فقط؟ فببركة قاعدة التجاوز يثبت الإتيان بهما معاً. وأما إذا حصل له وهو ما زال جالساً كأن علم حال الجلوس أنه أتى بأحد الواجبين ولكنه يشك في الآخر، فلا مجرى لقاعدة التجاوز، حيث لم يحرز المكلف الدخول في جزء آخر كالقيام بل ما زال جالساً وإن علم أنه أتى بأحد الجزئين (السجدة أو التشهد) لكنه لم يدخل في جزء كي يكون مجرى لقاعدة التجاوز، فمقتضى استصحاب عدم الإتيان بأحدهما لشكه فيه الإتيان بهما معاً، ولا يجب عليه الإعادة مع علمه بالزيادة، بلحاظ أنه أتى بهما وهو يعلم أن أحدهما قد حصل سابقاً فتتحقق به الزيادة، فإن هذه الزيادة المعلومة بالإجمال ليس ضائرة، لأنها قد حصلت بعذر شرعي وهو جريه على وفق استصحاب عدم الإتيان بكل منهما.

وتفصيل الكلام - أن في المقام صورتين:

الصورة الأولى: أن يعلم بعد التلبس بالقيام بأنه أتى بأحد الواجبين ويشك في الآخر فهنا تجري قاعدة التجاوز. وتقرير قاعدة التجاوز بعدة أنحاء:

النحو الأول: أن تجري في كل منهما بالعنوان التفصيلي، حيث إن السجدة مشكوكة فمقتضى قاعدة التجاوز فعلها، والتشهد مشكوك فمقتضى قاعدة التجاوز فعله.

فإن قلت: إنه يعلم إجمالاً بأنه أتى بأحدهما.

قلت: المعلوم بالإجمال هو الجامع وهو أحدهما، والمشكوك هو العنوان التفصيلي وهو السجدة بعنوانها والتشهد بعنوانه، فما هو متعلق العلم - وهو أحدهما - غير ما هو متعلق الشك - وهو العنوان التفصيلي - فلذلك جرت قاعدة التجاوز في كل منهما بعنوانه التفصيلي وإن علم إجمالاً بأحدهما.

فإن قلت: مع العلم بأحدهما فجريان القاعدة في كليهما لغو.

قلت: يكفي في رفع اللغو ترتب أثر وهو عدم وجوب العود والتدارك، فإنه لو لم يجر قاعدة التجاوز في كليهما للزمه العود لتدارك مالم يحرز فعله، فيكفي في رفع لغوية القاعدة التأمين من جهة وجوب العود والتدارك.

النحو الثاني: أن تجري قاعدة التجاوز في عنوان أحدهما بأن يقال: أحدهما معلوم فلا تجري فيه القاعدة، وأحدهما مشكوك فتجري القاعدة، فمجرى القاعدة أحدهما بما هو مشكوك قبال أحدهما المعلوم. وحيث إن إطلاق دليل القاعدة يشمل عنوان (أحدهما) فهذا يكفي في جريان القاعدة فيه ما دام لجريان القاعدة فيه أثر عملي وهو عدم وجوب العود للتدارك.

النحو الثالث: أن يكون مجرى القاعدة (المشكوك) لا عنوان كل منهما كما في النحو الأول، ولا عنوان أحدهما كما في النحو الثاني بل (المشكوك)، حيث إن لدى المكلف من جهة الأجزاء أمرين: معلوم ومشكوك، ومجرى القاعدة المشكوك من الأجزاء.

ولكن أورد على ذلك سيد المستمسك قدس سره [ج٧ ص٦٣٢] بأن عنوان المشكوك لا مصداق له، فإن أي طرف نضع اليد عليه فهو مصداق لعنوانه لا لعنوان المشكوك، أي أن السجدة مصداق لعنوان السجدة المأتي بها أو غير المأتي بها وليست مصداقاً للمشكوك بما مقابل للمعلوم، والتشهد مصداق لعنوان التشهد وليس مصداقاً للمشكوك المحض مقابل المعلوم، وليس ثمة في الخارج ما يكون مصداقاً لعنوان المشكوك فقط، فعنوان المشكوك عنوان لكن لا مصداق له، وبالتالي فهل مجرى قاعدة التجاوز العنوان بما هو عنوان؟ أم مجرى قاعدة التجاوز العنوان بما هو مشير إلى المصداق؟

فإن كان مجرى القاعدة العنوان بما هو عنوان فالعنوان بما هو عنوان لا أثر له شرعاً، فإن الأثر للمعنون والمصاديق الفعلية، وإن كان مجرى القاعدة عنوان المشكوك بما هو مشير للمصداق فالمفروض أن هذا العنوان لا مصداق له في هذا الفرض، فإجراء القاعدة فيه لا يحرز به تحقق التشهد والسجدة لعدم كونهما مصداقا له كي يكون مورد جريان القاعدة.

ولا يقاس المقام بمورد العلم الإجمالي كما لو علم المكلف بأن أحد الإنائين نجس والآخر طاهر، فإن الشك هنا موضوع للقاعدة فلا بد في إجراءها من تحديد مصداق المشكوك بما هو مشكوك ولا وجود له، بينما العلم في مورد العلم الإجمالي ملحوظ على نحو الطريقية لنفس الموضوع المنطبق لمتعلق العلم واقعاً، ولذلك لزم الاحتياط في مورد الشبهة المحصورة.

لكن قد يجاب عن إيراد المستمسك قدس سره بأن المقتضي لجريان القاعدة موجود والمانع مفقود:

أما المقتضي لجريانها فمجراها في المقام ليس هو عنوان المشكوك بما هو عنوان بل مجراها في المقام الواقع المشكوك، إذ لدى المكلف واقع معلوم وهو فعل أحد الواجبين، وواقع مشكوك وهو أيضاً فعل أحدهما، فذاك الواقع المتعلق للشك هو مجرى قاعدة التجاوز، وإن كان ذلك الواقع مما لا يعلم بعنوانه التفصيلي فهل ذلك الواقع هو السجدة أو هو التشهد، ولكن بالنتيجة هناك واقع معلوم وهناك واقع مشكوك، وهذا يكفي في جريان القاعدة بمقتضى إطلاق أدلتها (إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء).

وأما المانع فليس إلا محذور اللغوية بأن يقال: إن جريان القاعدة في المشكوك لا يجدي لأنه لا يثبت إحراز التشهد والسجدة بعنوانهما، ولكن فيه أنه لا يعتبر في سقوط الأمر عقلاً إحراز الجزء بعنوانه التفصيلي، بل يكفي إحرازه بعنوانه الإجمالي. وفي المقام يحرز المكلف أن كل واجب ما بعد الركوع الثاني معلوم الحصول ما سوى واحد فهو مشكوك، فجريان القاعدة فيه مما يترتب عليه أثر وهو عدم الرجوع للتدارك بل يمكنه المضي. ولعله لذلك أشار في ذيل المطلب بالتأمل.

النحو الأخير: جريان قاعدة الفراغ في الركعة الثانية لا قاعدة التجاوز في أحد الواجبين، وبيانه: أن الدخول في القيام محقق للفراغ من الركعة السابقة والشك في صحتها لعدم إحراز جميع أجزائها، والشك في الصحة بعد الفراغ مجرىً لقاعدة الفراغ، فيمكن تعويض قاعدة التجاوز بقاعدة الفراغ الجارية في الركعة المشكوك في صحتها.

إلا أن يقال: إن المأمور به هو الصلاة، والصلاة عنوان لنفس الأجزاء لا للركعات، أي أن ما هو المأمور به هو كل جزء جزء، لا أن المأمور به كل ركعة ركعة، وبما أن شك المكلف في الوجود - أي وجود أحد الجزئين - وإن استتبع الشك في الوجود الشك في الصحة إلا أن مصب شكه بالأصالة هو الشك في الوجود، فإجراء قاعدة الفراغ في الركعة لا يعالج الشك في وجود الجزء الذي هو مصب شكه بالأصالة، فلا بد من التوسل بقاعدة التجاوز للتأمين من احتمال ترك أحد الجزئين، فتأمل.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo