< قائمة الدروس

الأستاذ السید منیر الخباز

بحث الفقه

45/03/15

بسم الله الرحمن الرحيم

 

موضوع: فروع العلم الإجمالي/ /

 

والمتحصل: أن من علم بعد القيام للثالثة أنه ترك التشهد ويشك في ترك السجدة فإن قاعدة التجاوز لا تجري في السجدة، ولكن سيد العروة قدس سره مع قوله بجريان قاعدة التجاوز في السجدة إلا أنه احتاط بإعادة الصلاة سواء أتى المكلف بالسجدة أم لم يأت بها.

وقد وجه كلامه من قبل بعض الأعلام قدست أسرارهم بأن المكلف وإن كان حكمه هو جريان قاعدة التجاوز في السجدة بلحاظ أنه دخل في الغير وهو القيام الذي لا يمنع من تحقق التجاوز به كونه لغواً إلا أنه إن رجع وتدارك السجدة فالتدارك محتمل للزيادة العمدية، فإن مقتضى قاعدة التجاوز أن صلاته تامة وأنه أتى بالسجدة، فتدارك السجدة مع تعبد الشارع بوجودها ببركة قاعدة التجاوز محتمل للزيادة القادحة، وإن لم يأت بالسجدة اتباعاً لقاعدة التجاوز فمن المحتمل نقصان صلاته سجدة عمداً بمقتضى أن الوظيفة الأولية هي الرجوع والتدارك استناداً لاستصحاب عدم الإتيان بالسجدة، فحيث إن وظيفته تدور بين احتمال الزيادة العمدية واحتمال النقيصة العمدية فمقتضى قاعدة الاشتغال إعادة الصلاة.

ولكن لوحظ على كلامه بأن قاعدة التجاوز المراد إجراؤها في السجدة إما على نحو العزيمة أو على نحو الرخصة، فإن كانت قاعدة التجاوز عزيمة - أي أنها أمارة شرعية تعبدية على وجود السجدة - فلا محالة يكون الإتيان بالسجدة بعد قيام أمارة على وجودها زيادة قادحة في الصلاة لإحراز تمامية الصلاة، ولكن لو لم يأت بها - بناءً على أن قاعدة التجاوز أمارة التمامية - فإن صلاته صحيحة بلحاظ أنه جرى وفق الأمارة التي أثبتت تمامية الصلاة.

وإن قلنا بأن قاعدة التجاوز رخصة - أي أنها أصل عملي وضع للإرفاق بالمكلف وأنه إن شك بعد التجاوز فلا تبعة عليه لو مضى، لا أن صلاته محكومة بالتمامية بل هو مجرد إرفاق لرفع الحرج عن المكلف - فحينئذ إن رجع المكلف وتدارك ولم يعمل بالإرفاق فلا يعد ما أتى به زيادة قادحة، إذ لم يحكم الشارع بتمامية صلاته كي يكون العمل باستصحاب عدم الإتيان بالسجدة زيادة، وإن مضى ولم يأت بها والمفروض أنها سجدة واحدة فلا تبعة عليه بمقتضى ظهور دليل قاعدة التجاوز في الإرفاق وعدم التبعة، فالاحتياط بالإعادة - حيث إن المكلف إما أن يتدارك والتدارك محتمل للزيادة، أو لا يتدارك وهو محتمل للنقيصة - ليس تاماً على كلا المبنيين، وهما كون قاعدة التجاوز عزيمة أو أنها رخصة.

فالصحيح في الصغرى - كما سبق - أن وظيفة المكلف الرجوع وتدارك السجدة لعدم جريان قاعدة التجاوز في حقه. هذا كله في المقام الأول وهو الصغرى.

المقام الثاني وهو بيان الكبرى: وبيانها في نقطتين:

١- في أن المناط في قاعدة التجاوز على تجاوز المحل وأن لم يدخل في الغير، أم أن المناط في القاعدة متقوم بالدخول في الغير لا بمجرد تجاوز المحل.

٢- على فرض اعتبار الدخول في الغير فهل المناط الغير الشرعي أو يكفي الغير العرفي ؟

فالنقطة الأولى: المعروف أن قاعدة التجاوز متقومة بالدخول في الغير ولا يكفي مجرد تجاوز المحل، وذلك استناداً لهاتين الصحيحتين وهما: صحيحة زرارة: عن أبي عبد الله عليه السلام: (يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء) وظاهر ذكر القيد الاحترازية، والثانية: موثقة إسماعيل بن جابر: عن أبي عبد الله عليه السلام: (كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ).

ولكن في مقابل ذلك ذكر سيدنا الخوئي قدس سره في بعض كلماته أن لا اعتبار بالدخول في الغير، وأن المناط تجاوز المحل الشرعي.

وتقريب كلامه بأحد وجهين:

الوجه الأول: أفاد [في مصباح الأصول ج٣ ص٢٨٢] - في قوله عليه السلام: (إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء) - أن الدخول في الغير قيد توضيحي، وأنه إنما ذكره عليه السلام كطريق لإحراز المحل لا لموضوعية فيه، بل لأن تجاوز المحل عادة إنما يتحقق بالدخول في غيره المترتب عليه.

وتقريب ذلك: أن قاعدتي التجاوز والفراغ وإن كانا قاعدتين مستقلتين فقاعدة الفراغ تحرز الصحة وقاعدة التجاوز تحرز الوجود إلا أن نكتتهما واحدة، وهي أن المكلف حين العمل أذكر منه حال الشك كما يدعمه الارتكاز، فبما أن النكتة هي أنه أذكر حين عمله فالمحقق لهذه النكتة تجاوز المحل الشرعي للعمل بلا حاجة إلى الدخول في الغير، فإن من طبع الإنسان ارتكازاً أن لا يتجاوز محل العمل إلا وهو ملتفت لوضع كل شيء موضعه.

الوجه الثاني: موثقة ابن أبي يعفور حيث قال فيها: (إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه)، بتقريب أن ظاهر الذيل - وهو قوله: إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه - أن ما ذكر في صدر الرواية من اعتبار الدخول في الغير ما هو إلا تطبيق لما ذكر في ذيلها، وأن المدار على الذيل وهو تجاوز المحل سواء دخل في الغير أم لم يدخل.

إلا أن يقال: أن الضمير في (إذا شككت في شيء وقد دخلت في غيره) هل هو راجع إلى الوضوء? كالصلاة والطواف؟ فالرواية حينئذ ناظرة لقاعدة الفراغ، أم أنه يرجع على غير المشكوك؟ أي إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غير ذلك المشكوك فشكك ليس بشيء، فتكون ناظرة لقاعدة التجاوز، إلا أنه قام النص الخاص على عدم جريان قاعدة التجاوز في باب الوضوء، فلا يمكن العمل بالرواية بناءً على المحمل الثاني. هذا تمام الكلام في النقطة الأولى.

النقطة الثانية: على فرض أنه يعتبر في جريان قاعدة التجاوز الدخول في الغير فهل المدار على الغير الشرعي أو الغير العرفي؟ أي هل المدار على تجاوز المحل الشرعي للمشكوك أو يكفي تجاوز المحل العرفي؟

وظاهر كلام سيدنا قدس سره أن المناط تجاوز المحل الشرعي، والسر في ذلك أنه لا يتصور أن يشك في الشيء وقد تجاوزه، إذ لا يعقل أن يكون تجاوز ذات الشيء وهو شاك فيه، فالجمع بين اللفظين في الرواية ظاهر في أن المراد بالتجاوز هو تجاوز محله لا تجاوز نفس الشيء، إذ لا يعقل أن يشك فيه ومع ذلك قد تجاوزه أي تجاوز ذاته، فهذه قرينة سياقية على أن المقصود بالتجاوز هو تجاوز المحل الشرعي للشيء والشك فيه.

والاتجاه الآخر هو ما ذهب إليه جمع - منهم صاحب العروة قدس سره والسيد الأستاذ مد ظله - أن المدار على المحل العرفي، والسر في ذلك ما يبتني على مقدمتين:

الأولى: كما ذكر سيدنا الخوئي بأنه لا يتصور تجاوز الشيء والشك فيه، فلا محالة المراد بالتجاوز هو تجاوز محله. ولكن دعوى أن المراد بالمحل المحل الشرعي بحيث يكون اللاحق شرطا في السابق مما تحتاج إلى قرينة مفقودة، فلا بد أن يرجع الى القواعد العامة في تحديد أن المحل المراد تجاوزه المحل العرفي أم الشرعي؟

المقدمة الثانية: أن مقتضى الظهور الأولي في الروايات حمل العناوين على المفاهيم العرفية ما لم تقم حقيقة شرعية أو اصطلاح شرعي، وبالتالي مقتضى قوله: (إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره) أن المراد بالغير الغير العرفي، أي ما يعده العرف غيراً للمشكوك مقابلاً له. ويؤيد ذلك أن صحيحة زرارة - التي هي العمدة في قاعدة التجاوز - أجرت القاعدة لمن شك في السجود وقد قام، مع أن القيام ليس جزءاً شرعياً من الصلاة، وإنما القيام المتصل بالقراءة والقيام بالركوع شرط، وأما طبيعي القيام بعد السجود فليس جزءاً ولا شرطاً شرعياً، ومع ذلك إذا شك في السجود وقد قام - ولو لم يدخل لا في قراءة ولا ركوع - فقد جرت القاعدة في حقه بمقتضى إطلاق الرواية، مما يعني كفاية الغير العرفي وهو ما يعد مقابلاً للمشكوك كالسجود في المقام وإن لم يكن لحوقه شرطاً شرعياً في صحة السابق كما هو المناط عند سيدنا قدس سره، بل المناط في قاعدة التجاوز أن كل عمل لا يتلبس به المكلف في حال الالتفات إلا بعد الفراغ من المشكوك فهو الغير العرفي وهو المناط في جريان القاعدة. ولأجل ذلك من شك في القراءة وهو في القنوت جرت القاعدة في حقه، ومن شك في التسليم وهو في التعقيب الخاص جرت القاعدة في حقه عند البعض، ومن أحدث أو استدبر ثم شك في أنه هل سجد السجدة الثانية، وهل تشهد، وهل سلم؟ ويحتمل ترك الثلاثة معاً جرت قاعدة في حقه لتأمين وجود الثلاثة ونحو ذلك.

ومما ينبغي الالتفات له أنه مع كفاية الغير العرفي إلا أن تحقق التجاوز به منوط بعدم لغويته، وإلا إذا أُحرز لغويته فالتلبس به وعدمه سيّان، نظير محل البحث فإن من قام للثالثة ثم علم أنه لم يتشهد وشك أنه سجد أم لا? لم تجر القاعدة في السجدة للعلم بلغوية القيام باعتبار ترك التشهد قبله، فسواء قلنا إن المحقق للتجاوز الغير الشرعي أم الغير العرفي فلا مجرى للقاعدة في المقام. ويأتي الكلام في البقية إن شاء الله.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo