< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الأصول

33/05/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: حجية القياس:
 10 ـ ومثّل للقياس في العقليات فقال أكثر المتكلمين (من أهل السنّة) بجواز القياس في العقليات إذا تحقق فيها جامع عقلي، وقد اختار البيضاوي من الشافعية جوازه لأنّ الأدلة المثبتة لحجية القياس لم تفرّق بين الشرعيات والعقليات فكان القياس حجة في الجميع عملاً بعموم أدلتها وإطلاقها، ومن القياس العقلي نوع يسمى إلحاق الغائب بالشاهد، والغائب: هو حضرة الحق جلّ جلالة والشاهد: يعني المخلوقات، فكون الشخص عالماً بالمخلوقات (وهو ما سمّوه الشاهد) علتّها العلم، فهي تكون كذلك في الغائب: وهو الله سبحانه وتعالى، ومقتضى هذا القياس ثبوت العلم لله تعالى لاتصافه بالعالمية. وقد اخذ الأباضية بهذا القياس ورتبوا عليه عدم رؤية الله عز وجل في الآخرة لعدم رؤيته في الدنيا واستحالة تحديده بجهة أو مكان( [1] ).
 أقول: كيف يكون الله غائباً وهو يقول: «وهو معكم أين ما كنتم»، «وهو اقرب إليكم من حبل الوريد»؟!!
 وهل يحتاج علم الله تعالى [2] بهذا الكون إلى دليل حتى نحتاج إلى إثباته بالقياس وهو المحيط بكل شيء؟!!
 أقول: أحتمل احتمالاً كبيراً أن ما نسب إلى أهل الكلام وما قاله البيضاوي هو إلحاق الغائب بالشاهد بمعنى إلحاق الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات في كونه معلوماً عندنا، فالجامع بين علمنا بالمخلوقات وعلمنا بالله هو العالمية، فعلمنا فمعرفتنا بالمخلوقات سببها العالمية فكذا معرفتنا بالله سببها العالمية، فنحن نعلم بالمخلوقات «المشاهدة» كذا نعلم بالله الذي لم نشاهده وهو ما يعبّر عنه بالغائب إلّا أنّه علوم لم يرَ.
 وعلى هذا فرّع الأباضية عدم رؤية الله تعالى في الآخرة لعم رؤيته في الدنيا واستحالة تحديده بجهة أو مكان، فلاحظ.
 وهذا وإن سمّي قياساً إلّا أنّ روحه هو: أنّ الأشياء المعلومة على نحوين:
 1_ نحو مشاهد وله حدّ وجهة وهو المخلوقات.
 2ـ ونحو ليس بمشاهد ولا حدّ له ولا جهة وهو الله تعالى.
 وهذا ليس من القياس في شيء، فإنّنا نعلم بالأجسام التي أمامنا والهواء الذي يحيط بنا إلّا أنا لم نشاهده كعلمنا بالآلام التي نحسّ بها إلّا أنا لم نشاهدها ولكنّها محسوسة بحاسة غير حاسة السمع والبصر والشمّ واللمس والذقن فكذا نحسّ بالخالق بتلك الحاسة.
 11ـ ومثلّوا للقياس في اللغة في الأسماء التي وضعت على الذوات لاشتمالها على معانٍ مناسبة للتسمية يدور معها الإطلاق وجوداً وعدما مثل لفظ الخمر فانه موضوع للمتخذ من عصير العنب إذا غلى واشتّد وقذف بالزبد، وسبب الوضع هو اشتماله على معنى مخامرة العقل فهو مشتق من التخمير، وهذا المعنى يدور مع التسمية وجوداً وعدماً، فعصير العنب عند المخامرة يسمى خمراً، وعند عدمها لا يسمى كذلك وكذلك إطلاق السارق على النباّش لأخذ الشيء خفية، ولان السرقة مشتقة من استراق الأعين( [3] ).
 وقد اتفق جمهور أهل الأدب على أنّ القياس يجري في اللغات ووافقهم بعض الأصوليين كالرازي والبيضاوي، وخالف فيه جمهور الشافعية والحنفية الامدي وابن الحاجب فقالوا: لا تثبت اللغة بالقياس ولا يكون حجة فيه.
 والخلاف بينهم محصور في الأسماء اللغوية المشتقة من المعاني ففي رأي يجوز وفي راي لا يجوز.
 أقول: قد يقال ان السرقة وان كانت عبارة عن أخذ الشيء خفية أو مشتقة من استراق الأعين الا أن لها مقيدات أُخر كأخذ مال الغير عدوانا، اما اخذ الشيء خفية إذا كان ملكا للآخذ أو أخذه بحقّ فلا يكون سرقة، فليس كل اشتراك بين أمرين يوجب أطلاق لفظ على شيء آخر يشابهه في جامع ما، فان الشعوذة وخفّة اليد كلها فيها معنى استراق الأعين أو أخذ الشيء خفية الا أنه بعيد عن معنى السرقة ولا يطلق عليه السرقة ؛ ثم أنه ليس كل سارق تقطع يده، بل للقطع شروط كثيرة قد لا تحصل وإن حصل معنى السرقة فلاحظ.
 وما ذكر من أنّ المعنى يدور مع التسمية وجوداً وعدماً، فالخمر اسم موضوع لمعنى مخامرة العقل فهو مشتقّ من التخمير وهذا المعنى متى ما وجد وجد الإسم، فإذا حصلت مخامرة العقل من النبيذ فهو خمر وإن حصلت من الحشيش فهو خمر، فهو عبارة عن تغيير معنى الخمر إذا صار معنى الخمر على هذا هو كلّ ما خامر العقل وليس معناه الشراب المتخذ من العنب المسكر، وأين هذا من القياس، بالإضافة إلى أنّ الخمر قد علل تحريمه بالاسكار فأين وجد هذا التعليل وجد الحكم، أو قل: هذا تطبيق لكبرى «ما خامر العقل وأسكر» على الصغرى التي هي من مصاديق ما خامر العقل وإن كانت الأسماء مختلفة، أو هو قياس منصوص العلّة الخارج عن بحثنا الذي هو في القياس.
 11ـ ورد عندنا النصّ القائل: لا عدّة في طلاق اليائس أو الصغيرة أو غير المدخول بها، فقد يقول البعض أنّ العلة المظنونة في عدم العدّة هي عدم وجود اختلاط للمياه وعدم وجود شكّ في معرفة الأنساب لعدم موضوع لذلك، فإذا وجدت أمرأة في سنّ من تحيض ولا تحيض لقلع الرحم، فقد يقال بعدم العدّة عليها لوجود العلّة المظنونة فيها.
 ولكن هذا باطل لأنّ النصّ القائل بعدم العدة على اليائس والصغيرة وغير المدخول بها لم يعلم أنّ العلة هو عدم اختلاط المياه، وحيث إنّ المرأة التي لا تحيض في سنّ من تحيض يجب عليها العدّة بالشهور للنصّ مع أنّ علّة عدم اختلاط المياه موجودة فيها ومع هذا قد أوجب الشارع عليها العدّة بالشهور للنصّ فلاحظ.
 والذي يدلّ على أنّ العدة للطلاق للمدخول بها في سنّ من تحيض سواء كانت تحيض ام لا ليست هي اختلاط المياه وضياع الأنساب هو: ما ورد من الروايات القائلة في المرأة غاب عنها زوجها سنتان وأكثر ثمّ طلّقها وهو غائب عنها فقال: عليها العدّة بالحيض والشهور مع أنّ هذا الفرض معلوم في عدم اختلاط المياه والأنساب إذا تزوّجت بدون عدّة.


[1] ـ أصول الفقه الإسلامي 1: 710 ـ 713.
[2] إنّ آيات اتصافه تعالى بالعلم لا تحصى منها قوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا»، الجن: 26-27، وقوله عزّوجلّ: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» الجمعة: 95، وقوله تعالى: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» إبراهيم:25، وقوله سبحانه: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» هود:123، وقوله تعالى: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ» الأنعام:3.
[3] ـ أصول الفقه الإسلامي 1: 712 ـ 713.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo