< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الجواهري

بحث الفقه

45/11/02

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: كتاب الحجّ/فصل في الحجّ الواجب بالنذر والعهد واليمين /انعقاد النذر والعهد واليمين من الكافر

 

فصل في الحجّ الواجب بالنذر والعهد واليمين

ويشترط في انعقادها البلوغ والعقل والقصد والاختيار، فلا تنعقد من الصبي وإن بلغ عشراً وقلنا بصحّة عباداته وشرعيتها، لرفع قلم الوجوب عنه، وكذا لا تصحّ من المجنون والغافل والساهي والسكران والمُكره، والأقوى صحّتها من الكافر وفاقاً للمشهور في اليمين، خلافاً لبعض، وخلافاً للمشهور في النذر، وفاقاً لبعض، وذكروا في وجه الفرق عدم اعتبار قصد القربة في اليمين، واعتباره في النذر، ولا تتحقّق القربة في الكافر، وفيه أوّلاً أنّ القربة لا تعتبر في النذر بل هو مكروه وإنّما تعتبر في متعلّقه حيث إنّ اللازم كونه راجحاً شرعاً وثانياً أنّ متعلّق اليمين أيضاً قد يكون من العبادات، وثالثاً أنّه يمكن قصد القربة من الكافر أيضاً، ودعوى عدم إمكان إتيانه للعبادات لاشتراطها بالإسلام مدفوعة بإمكان إسلامه، ثمّ إتيانه فهو مقدور لمقدورية مقدّمته، فيجب عليه حال كفره كسائر الواجبات، ويعاقب على مخالفته، ويترتّب عليها وجوب الكفارة فيعاقب على تركها أيضاً، وإن أسلم صحّ إن أتى به ويجب عليه الكفّارة لو خالف، ولا يجري فيه قاعدة جبّ الإسلام لانصرافها عن المقام، نعم لو خالف وهو كافر وتعلّق به الكفارة فأسلم لا يبعد دعوى سقوطها عنه كما قيل [1] .

تقدّم الكلام في الأمور المعتبرة في انعقاد النذر والعهد واليمين.

وأمّا مسألة انعقاد النذر والعهد واليمين من الكافر، واعتبار الإسلام ففيها ثلاثة أقوال:

الأوّل: يصحّ اليمين من الكافر؛ لأنّه مكلّف بالفروع ولا يشترط قصد القربة في اليمين، ولكن لا يصحّ منه النذر والعهد؛ لاشتراط قصد القربة في النذر والعهد ولا يتحقّق ذلك من الكافر.

الثاني: لا يصحّ النذر والعهد واليمين من الكافر، لاشتراط قصد القربة في الجميع، وقال صاحب الجواهر (قده): «لم أجد خلافاً في عدم صحّته [أي: النذر] منه [أي: من الكافر] بين أساطين الأصحاب» [2] .

الثالث: يصحّ النذر والعهد واليمين من الكافر، لعدم الاشتراط وهو ما ذهب إليه صاحب العروة (قده).

وهذه الأقوال كلّها مبنية على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع، وأمّا بناء على ما ذهب إليه المحقّق صاحب الحدائق والمحقّق الخوئي (قدّس سرّهما) من اختصاص الفروع بالمسلمين وعدم تكليف الكفّار بها فلا مجال لهذا الاختلاف؛ لأنّ الكافر غير مكلّف بالنذر والعهد واليمين.

وأمّا بناء على ما اخترناه في أنّ كلّ مَن على وجه البسيطة مخاطب بشريعة الإسلام حتّى الكافر فيأتي هذا الاختلاف، فإنّ الكافر مكلّف بالفروع وتشمله الخطابات الشرعيّة أيضاً، وهذه الخطابات لا تختصّ بالمؤمنين وإن ورد الاختصاص في بعضها مثل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لكنّه للتشريف.

وبناء على ما ذهب إليه المشهور من تكليف الكافر بالفروع فقد أفاد المحقّق الخوئي (قده) [3] : قد يقال: لا ينعقد النذر من الكافر؛ لأنّه يشترط في صحّته قصد القربة خصوصاً بعد كونه فعلاً عباديّاً، ولا يتحقّق ذلك من الكافر.

وفيه: لا دليل على كون النذر عبادياً بل إنّ المستفاد من بعض الروايات أنّه مكروه، ويدلّ على ذلك موثّقة إسحاق بن عمار، قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)، إنّي جعلت على نفسي شكراً لله ركعتين أُصلّيهما في السفر والحضر، أفأصلّيهما في السفر بالنهار؟ فقال: نعم، ثمّ قال: إنّي لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل على نفسه، قلت: إنّي لم اجعلهما لله عليّ، وإنّما جعلت ذلك على نفسي أُصليهما شكراً لله، ولم أوجبهما على نفسي، أفأدعهما إذا شئت؟ قال: نعم» [4] ، فإنّ معنى الإكراه في قوله «إنّي لأكره الإيجاب» لغة هي الحرمة والمبغوضية، ولكن إذا صدرت الكراهة في جو يكون الجواز مفروغاً عنه عند المتشرّعة تحمل على الكراهة الاصطلاحية.

ولو قلنا: إنّ قوله «إنّي لأكره الإيجاب أن يوجب الرجل على نفسه» يحمل على الإرشاد إلى حكم العقل في أنّ المكلّف لا يوجب على نفسه شيئاً أكثر ممّا أوجبه الله تعالى عليه، فيستفاد من هذه الرواية أنّ النذر مباح وغير راجح.

والحاصل: لا دليل على كون النذر أمراً عبادياً نظير الصلوات والصيام وسائر العبادات المشروط فيها قصد القربة بل إنّه مكروه أو مباح وغير راجح، وإذا لم يكن عبادياً ولم يشترط فيه قصد القربة فلا مانع من القول بصحّة صدوره من الكافر، وستأتي روايات كثيرة تدلّ على أنّه عمل غير عبادي.

وكذا لا دليل على كون متعلّق النذر عبادياً، وإنّما غاية ما يستفاد من الأدلّة أن يكون المتعلّق راجحاً في نفسه، ولا يشترط أن يكون عبادياً حين العمل بحيث لا يتحقّق العمل به إلّا بقصد القربة، فإنّ متعلّق النذر تارة يكون عبادياً كما لو نذر شخص إن عافى الله ولده أن يصلّي صلاة الليل أو أن يعطي درهماً إلى الفقير ويقصد به القربة، وأُخرى يكون المتعلّق غير عبادي كما لو نذر أن يعطي درهماً إلى الفقير ولم يقصد به القربة؛ لأنّ الوفاء بالنذر أمر توصّلي ويمكن أن يعطي الدرهم من دون قصد القربة وقد يتحقّق الوفاء بذلك.

وهكذا الحال في العهد واليمين، فإنّ المتعلّق فيهما قد يتعلّق بأمر عبادي وأُخرى قد يتعلّق بأمر غير عبادي. وبناء على ذلك، لا دليل على أنّ المتعلّق في النذر والعهد واليمين يكون عبادياً، فإنّه قد يتعلّق بأمر عبادي وقد يتعلّق بأمر غير عبادي، فإن تعلّق بأمر عبادي لا يمكن أن يصدر من الكافر، وإذا تعلّق بأمر غير عبادي يمكن أن يصدر من الكافر.

ثمّ على فرض كون المتعلّق في النذر أمراً عبادياً فلو نذر الكافر أن يحجّ أو يصلّي صلاة الليل إذا شافى الله ولده ينعقد نذره ويجب عليه الإتيان؛ لأنّ المعتبر في المتعلّق أن يكون عبادياً حين العمل لا حين النذر، فإنّه وإن كان غير متمكّن من الإتيان بمتعلّق النذر العبادي (الحجّ أو الصلاة) حين النذر لعدم تمشي قصد القربة منه، ولكنّه يتمكّن منه حين العمل بأن يسلم اختياراً ويأتي به بقصد القربة، فيكون نذره ومتعلّقه العبادي حين العمل مقدوراً لإمكان قبوله الإسلام الاختياري، ولو خالف النذر بعد أن أسلم يجب عليه الكفّارة حيث إنّه كان متمكّناً من الإتيان بالمتعلّق العبادي، ولو مات على كفره قبل أن يسلم يعاقب لترك النذر؛ لأنه مكلّف بالفروع.

وكذا اليمين والعهد فكلاهما فيه لفظ الجلالة كأن يقول: «والله لأفعلنّ»، أو يقول: «لله عليّ أن أفعل كذا»، ولكن لا دليل على كونهما قربيين، إذن يصحّان من الكافر كالنذر، وكذا إذا جعل متعلّقهما قربيّاً، فإنّ المعتبر هو صدور العمل العبادي حين العمل لا حين اليمين والعهد، وهو حين العمل يتمكّن من أن يأتي بمتعلّق العهد واليمين وذلك بأن يسلم، إذن يصحّ عهده ويمينه حتّى بالمتعلّق العبادي؛ لأنّه يتمكّن أن يأتي بالمتعلّق العبادي وذلك بأن يسلم فيصحّ عهده ويمينه.

وقد يقال (كما قال المحقّق الخوئي (قده)): لا يمكن تكليف الكافر بلزوم الوفاء بالحجّ النذري؛ لأنّه لا يصحّ منه العمل حال كفره ولا يتمكّن من الإتيان به بقصد القربة، ويسقط عنه الوجوب عند الإسلام لحديث الجبّ، وكذا في الحجّ العهدي والحجّ اليميني، فإنّه لا يمكن تكليفه بلزوم الوفاء حيث إنّه لا يصحّ منه العمل حال كفره ويسقط عنه الوجوب عند الإسلام لحديث الجبّ.

وبناء على ذلك، لو قلنا بجريان حديث الجبّ وعدم انصرافه عن المقام فلا فائدة من تكليف الكافر بالنذر والعهد واليمين وإن كان المتعلّق فيها عبادياً؛ لأنّه لا يتمكّن من إتيان المتعلّق حين الكفر، ويسقط عنه وجوب المتعلّق عند الإسلام.

وفيه: إنّ حديث الجبّ كدليل لفظي غير ثابت [5] ولا يمكن الاعتماد عليه في شيء من الأحكام إلّا أنّ الثابت من السيرة القطعيّة في زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) هو عدم قضاء الصلوات والصيام وسائر العبادات على مَن أسلم من الكفّار، ولم يُؤمر أحد منهم بقضاء ما فاته حين كفره، ولم يؤاخذ أحد منهم على ترك العمل.

ولذا لا مجال لدعوى انصراف حديث الجبّ عن قضاء الفوائت أو عدم انصرافه؛ لأنّ هذا من شؤون الدليل اللفظي، والمفروض أنّ الجبّ ثابت في المقام بالسيرة القطعيّة النبويّة والولويّة، ولكن هذه السيرة تختصّ بالأحكام التي جاءت بها شريعة الإسلام نظير الصلوات والصيام بالكيفية المعهودة لا الصلاة بمعنى الدعاء ولا الصوم بمعنى الصمت وكفّ اللسان عن الكلام في قوله تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾[6] ، وأمّا غير ذلك من الأحكام العقلائيّة الثابتة قبل الإسلام كالوفاء بالدَّين فلا يكون مشمولاً لهذه القاعدة ولا يجبّ الإسلام ذلك، فإنّ الكافر لو كان مديناً لشخص حين كفره ثمّ أسلم يجب عليه وفاء دينه ولا يسقط عنه ذلك بالإسلام.

وأمّا النذر إن كان مختصّاً بشريعة الإسلام ولم يثبت في الشرائع السابقة فيسقط وجوبه عن الكافر بقاعدة الجبّ الثابتة بالسيرة القطعيّة التي دلّت على عدم وجوب القضاء على مَن أسلم من الكفّار، وأمّا النذر إن لم يكن مختصّاً بشريعة الإسلام بل كان ثابتاً في الشرائع السابقة فحاله حال الدَّين ولا يسقط وجوبه عن الكافر بتلك القاعدة ويجب عليه أداء هذا النذر.

وهكذا الحال في ثبوت الكفّارة، فإنّها تختصّ بشريعة الإسلام ولم تثبت في الشرائع السابقة، فإذا أسلم لم يكن عليه كفّارة في ترك النذر والعهد واليمين عمداً ويسقط وجوب الكفّارة عن الكافر.

ويلاحظ عليه:

إنّ السيرة القطعية النبويّة والولويّة دلّت على أنّه لا يجب على الكافر قضاء ما فاته من الصلوات والصيام وسائر العبادات، فإنّه لم يُؤمر أحد من الكفّار بعد الإسلام بقضاء ما فاته حال كفره، ولكن الكلام في المقام ليس في القضاء حتّى يُستدلّ على عدمه بالسيرة القطعيّة بل الكلام هنا حول وجوب الوفاء بالنذر على مَن أسلم من الكفّار، وهذا بحث في الأداء لا في القضاء، فإنّه لو كان النذر والعهد واليمين من الكافر في سنة معينة وانقضت تلك المدّة ولم يأت به الكافر ثمّ أسلم فإنّنا نقول بأنّه لا يجب عليه القضاء وإن كان مكلّفاً بالفروع؛ لأنّ السيرة القطعية دلّت على أنّ الكافر لا يجب عليه قضاء ما فاته من العبادات، والاسلام يجبّ ما قبله، ولكن إذا كان النذر والعهد واليمين من الكافر مطلقاً وغير محدّد بسنة معينّة ولم يأت به الكافر ثمّ أسلم فهنا يجب عليه الإتيان بالنذر والعهد واليمين، ويجب عليه أداء الواجب الذي لم تنته مدّته، فإنّ الإتيان بالعمل هنا في ظرفه والوقت باق والأمر بما أنّه موجود، فلذا يجب عليه الاتيان بالعمل أداءً، وهذه السيرة القطعيّة النبويّة والولويّة لا تشمل عدم الإتيان بالعمل الأدائي.

إذن إذا أسلم الكافر فإنّه يجب عليه الإتيان بالنذر والعهد واليمين إذا كان غير محدّد بسنة معيّنة. نعم، إذا ذهب الوقت وانقضت المدّة ولم يأت به ثمّ أسلم لا يجب عليه القضاء للسيرة القطعيّة.

ثمّ مَن قال أنّ النذر من مختصّات الشريعة الإسلاميّة ففي القرآن دلالة على أنّه كان موجوداً في الشرائع السابقة بقوله تعالى على لسان مريم: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾[7] ، إذن النذر موجود قبل الإسلام، فإذا أسلم يجب عليه العمل بما نذر.

وبالجملة: لا دليل على أنّ المتعلّق في النذر وأخويه عبادي قربي، كما لا دليل على كون النذر وأخويه كذلك، ولذا يصحّ النذر والعهد واليمين من الكافر، ولو مات الكافر على كفره وترك ذلك فإنّه يستحقّ العقاب؛ لأنّه مكلّف بالفروع، وإن أسلم بالنسبة إلى النذر فإنّه يجب عليه الإتيان به مطلقاً سواء انقضت المدّة وقلنا بأنّه كان موجوداً في الشرائع السابقة أو لم تنقض المدّة، وأمّا بالنسبة إلى العهد واليمين فإنّه يجب عليه الإتيان بهما إن لم تنقض المدّة، ويجب عليه الكفّارة لو ترك النذر والعهد واليمين عمداً، ولكنّه إذا أسلم وانقضت المدّة في العهد واليمين فإنّه لا يجب عليه القضاء ولا الكفّارة للسيرة القطعيّة.


[5] وحتّى إذا قلنا أنّ حديث «الإسلام يجبّ ما قبله» قد عمل به المشهور فيكون حجّة فهنا ندّعي أنّه بواسطة السيرة القائمة على عدم أمر مَن أسلم بالقضاء وعدم مؤاخذته على عصيانه يقيّد إطلاق حديث الجبّ بالأحكام التي جاء بها الإسلام، ولا تشمل مثل أداء الدَّين على الكافر إذا أسلم، فإنّه أمر عقلي موجود قبل الإسلام.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo