« قائمة الدروس
الأستاذ السيد مجتبی الحسيني
بحث التفسیر

46/09/03

بسم الله الرحمن الرحیم

تفسير الآيات 183-185/حول الصوم /التفسير الموضوعي

موضوع: التفسير الموضوعي/حول الصوم /تفسير الآيات 183-185

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ﴿أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‌ وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‌ ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [1] .

قد انتهى بحثنا في الليلة الماضية في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

هنا اود ان اذكر كلام صاحب الميزان العالم العارف والمفسر الخبير حيث قال: (كون التقوى مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه، فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية، فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الإخلاد إلى الأرض، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى، فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة أن يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها، وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع).[2]

وقبل ان ندخل في الآية اللاحقة اودّ ان اشير الى نقطة وقع الخلاف فيها بين المتكلمين وهي هل الكفار مكلفون بالفروع ومعذبون على ترك مفرداتها او لا؟ هناك بحث مفصل كل استند الى ادلته مما لا مجال لطرحها في هذا الاجتماع، وبالإجمال؟ أقول:

ان خطابات الفروع غير متوجهة اليهم ما دام لا يؤمنون بأساس الاسلام، نعم ان العقاب على الكفر بالله ورسوله اذا كان عن تقصير فهو اشد من ترك الواجبات او فعل المحرمات، فيغطّي كلّها من دون حاجة الى العقاب على مفردات احكام الشريعة. ولعلنا لم نجد آية في القرآن حول ما يتعلق بالشريعة تخاطب غير المؤمنين، نعم قد تكون بعض الآيات تعاتب غير المسلمين على فعل بعض القبائح او ترك بعض الأفعال التي تنادي اليها العقول مثل قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾﴿إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ﴾ ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ﴾﴿عَنِ الْمُجْرِمِينَ﴾﴿ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾﴿قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾﴿وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ﴾﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾﴿حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ﴾ [3] .

والليلة ندخل الى الآية الثانية حيث يقول: ﴿أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ﴾ بعد ما بين الله ايجاب الصوم أشار الى ان هذه الفريضة كان مكتوبا على الملل السابقة أيضاً تطييبا للنفوس، وهنا يذكر امراً آخر وهو ان وجوب الصوم انما يكون في أيام قليلة وهي ﴿ايّاماً معدودات﴾ وهي ظرف عائد الى "الصيام" ومنصوب بنزع الخافض فمعناها كتب عليكم الصيام في ايام معدودات،

وقد ورد في المجمع فی المراد من الايام المعدودات اقوالاً مختلفة: فقيل أنها غير شهر رمضان وكانت ثلاثة أيام من كل شهر وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر وصوم عاشوراء، كما بعضهم قالوا باستحباب الصوم وبعضهم قالوا بوجوبه ولم یقیموا على مدعاهم دلیلا مقنعاً ولكن كلهم اتفقوا على أن ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان. ولكن الأصح أن المعني بالمعدودات شهر رمضان كما عليه عامة المفسرين [4]

ومعدودات نكرة تفيد القلة والتهيين ثم في الآية التي تليها بيّنها بقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ولكن القائلون بالنسخ جعلوا قوله تعالى "شهر رمضان" استأنافاً في القول ومبتدئاً فيصير المعنى: هذا شهر رمضان او ان شهر رمضان شهر انزل فيه القرآن. فلا علاقة بين الآية وسابقتها. بل انتقل من مبحث الصوم الى بيان فضيلة رمضان من انه شهر انزل فيه القرآن الى آخرها ولكن هذا الرأي تحكّمٌ في المعنى ولا ينسجم مع السياق لانه:

اولاً: اذا قلنا ان اياماً معدودات حكم سابق قد شرع الله الصوم به من دون تعيين العدد والوقت. مغ انه لا يمكن ايجاب شيئٍ مبهم، الا ان تقول كان الصوم مستحباً، فنقول هذا خلاف ظاهر قوله تعالى: ﴿كتب عليكم الصيام﴾.

ثانياً: لا يلائم التوسع في الوقت واطلاقه وترك امره الى المكلف مع قوله: ﴿فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ لإنه لو كان الايام غير معينة فلا اُخرَ لها.

ثالثاً: ضمير كم في قوله: "﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾" لا مرجع له في الآية الثالثة اذا قلنا أنّها مستأنفة.

رابعاً: اذا دار الامر بين القول بالنسخ وعدمه فالأصل عدم النسخ.

وعلى كل حال: يظهر من الآيات الثلاثة انها نزلت دفعة واحدة فالحق ان ﴿اياماً معدودات﴾ ظرف للصيام وشهر رمضان بدل وعطف تفسيري لأيام معدودات وسياق الآيات يفيد تمهيد المخاطب بتوطين نفسه وتطييب قلبه لفريضة الصوم. فانه تعالى: خاطب المكلفين بعنوان المؤمنين لإشعارهم على ان الطاعة لازم الايمان، ثم "﴿كتب عليكم الصيام﴾" يفيد انه واجب لا مخلص منه. ثم اشار الى ان هذا الحكم لا يختصكم بل شمل الامم السابقة ايضاً فكان الصوم مكتوبا عليهم، ثم اشار الى ان فيه مصلحتكم بقوله "لعلكم تتقون"، ثم بقوله: "اياما معدودات" اي قلائل فلا وجه للاستثقال، ثم استثني ثلاثة اصناف فعفاهم عن الصوم، هؤلاء الذين يمكن ان يثقل عليهم الصوم للحالات الطارئة اللتي يعيشونها.

وهذه الفرق الثلاثة هم المريض والمسافر ومن يطيق الصوم اي ياخذ كل طاقته فيقع في الحرج. وقيل معناه كانوا يطيقونه ثم خرج عن طاقتهم.

قال تعالى: " ﴿فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‌ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾" فرفع عنهم القيد في الوقت واوجب عليهم الاتيان في ايام اخري غير رمضان، وبمساعدة الروايات استفاد منها فقهائنا العظام بان المريض الذي سقط عنه الصوم هو المريض الذي لو صام يشتد مرضه فيضره الصوم بتشديد المرض او تأخير زمان البرء، لا مطلق المريض. فاذا كان هكذا فصومه باطل لا يفيده ابداً بل بعض فقهائنا كالإمام الخميني ذهبوا الى ان المكلف لو كان مطمئناً بعدم التضرر من الصوم ثم كشف انه اضرّ به، فيجب عليه قضاء صومه بعد البرء، لأنه يكشف عن عدم التكليف بالصوم في شهر رمضان بل كان مكلفاً بالصوم في زمان أخر، كمن ادّى فريضة خارج وقتها بزعم دخول الوقت.

اما المسافر فكذلك لا يصح منه الصوم بالشروط المذكورة في الفقه فلا يجوز له صوم، نعم ان بعض العامة ذهبوا الى وجوب الصوم على المسافر اذا لم يكن فيه المشقة عليه كالسفر بالوسائل النقلية المعاصرة من السيارات المرفهة والطائرة والقطارات، فلا قصر في مثل هذه الازمان ويجب الصوم ايضاً.

ولكن هذا ليس الا استحسانا في مدرك الاحكام مما هو مرفوض عندنا، بل يجب التعبد بمدلول النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وقد ورد روايات تنفي هذا الامر بخصوص الصوم، وأذكر لكم منها حديثاً لنتبرك من رياض الاحاديث: كليني عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُسَافِراً أَفْطَرَ- وَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَمَعَهُ النَّاسُ وَفِيهِمُ الْمُشَاةُ- فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ «واد بين الحرمين على مرحلتين من مكة » دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ- فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَشَرِبَهُ وَ أَفْطَرَ- ثُمَّ أَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ وَثَمَّ أُنَاسٌ عَلَى صَوْمِهِمْ- فَسَمَّاهُمُ الْعُصَاةَ- وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِآخِرِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص. وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: "الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ- كَالْمُفْطِرِ فِيهِ فِي الْحَضَرِ- ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ص فَقَالَ- يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ- فَقَالَ لَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ عَلَيَّ يَسِيرٌ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ- تَصَدَّقَ عَلَى مَرْضَى أُمَّتِي وَمُسَافِرِيهَا- بِالْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ- أَيُعْجِبُ أَحَدَكُمْ لَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ."[5] و عن الصادق (ع) قال: "لو أن رجلا مات صائما في السفر لما صليت عليه‌".

وغدا نتابع بحثنا في الفرقة الثالثة ممن لا يطيق الصوم ان شاء الله

 


logo