46/08/06
بسم الله الرحمن الرحیم
تفسير الآيات 73-74 من سورة الحج/الآيات المصدرة بيا ايها الناس /التفسير الموضوعي
موضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الناس /تفسير الآيات 73-74 من سورة الحج
قال الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ ﴿ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [1]
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ وتدبّروا فيه جيدا ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾
عند ما نواجه هذه الآية المباركة يتبادر الى ذهننا لماذا خاطب الله الناس فيها ولم يقل يا أيها الذين اشركوا ويطلب من الناس جميعاً ان يلتفتوا الى المثال الذي يذكره بعد ذلك ثم يقول لهم ان الذين تدعون من دون الله وهم المشركون؟، لعل السر في ذلك ليشمل من يشرك بالله بالشرك الخفي ايضاً، فكثير منّا مبتلى بالشرك الخفي فيراهن على الخلق دون الله ويتزلف اليهم بمعصية الله لكسب المال او الجاه او الأمان وما شابه ذلك وهذا الأمر نشاهده على مستوى الفردي وعلى مستوى الاجتماعي فاراد الله ايقاظ الناس كلهم ثم يخاطب المشركين بالشرك الجلي كمصداق الاوضح، لمن یراهن الی غیر الله نعم المسلم یعترف بالله قد يتوكل على غير الله فكل اعتماده الى ابيه او الى امه او الى صديقه او الى من عنده المال او الجاه ويتوقع منه ان يحل مشاكله، فيتزلف له ويحقر نفسه امامه ويرتكب معصية الله لجلب خاطره بينما تلك الأمور كلها أسباب لتحقق بعض الأمور ولكن مسبب الأسباب هو الله فمن ينظر الى الأسباب من دون التوجه الى الله هو كمن يرى اليد ولا ينظر الى صاحب اليد. بينما اليد وسيلة وسبب والفاعل الحقيقي هو صاحب اليد.
وعلى مستوى الاجتماعي الحكومات التي تتزلف الى المستكبرين كآمريكا او الصهاينة ام بعض الآخر من الدول الغربية ويركن اليهم للوصول الى القدرة او الأمان من قبلهم وهذه حملة التطبيع مع إسرائيل من الدول العربية هو اذلال الشعوب بطمع بقاء الكراسي والسمات الرسمية فيخونون شعوبهم ويستذلونها، بينما لو اتخذوا موقف العزة والكرامة وتعاملوا مع الآخرين بما فيه مصلحة بلدانهم يحصلون على التقدم والخير فان الدول المستكبرة لا يقتنعون عنهم الا بنهب أموالهم وخيراتهم واستسلام الكامل لهم وهذا تجربة رأيناها في تعامل الدول.
ومن مصاديق الشرك الجلي عبادة الاصنام وطلب حاجاتهم منها وزعمهم انها تؤثر في الخير والشر كما ورد في القران منطقهم في عبادة الاصنام حيث قال تعالى: ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى﴾ [2]
ورد فی شأن نزول الآية فِي الْكَافِي عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ رِزْقٍ الْغُمْشَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشَلِّ بَيَّاعِ الْأَنْمَاطِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "كَانَتْ قُرَيْشٌ يُلَطِّخُ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، وَكَانَ يَغُوثُ قِبَالَ الْبَابِ وَيَعُوقُ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ نَسْرٌ عَنْ يَسَارِهَا، وَكَانُوا إِذَا دَخَلُوا خَرُّوا سُجَّداً لِيَغُوثَ وَلَا يَنْحَنُونَ ثُمَّ يَسْتَدْبِرُونَ بِحِيَالِهِمْ إِلَى يَعُوقَ، ثُمَّ يَسْتَدْبِرُونَ عَنْ يَسَارِهَا بِحِيَالِهِمْ إِلَى نَسْرٍ، ثُمَّ يُلَبُّونَ فَيَقُولُونَ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَاشَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيك هُوَ لَكَ تَمْلِكُههُ وَمَا مَلَكَ"، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ ذُبَاباً أَخْضَرَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، فَلَمْ يُبْقِ مِنْ ذَلِكَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ شَيْئاً إِلَّا أَكَلَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾. [3]
فقول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾.
المثال بالذباب لانه احقر واهون شیء عند الناس والا الذباب كسائر لحشرات موجود في صغر جسمه يشتمل على أجهزة عجيبة سرعة طيرانه خمس مراتب اسرع من الطائرات فوق الصوت على ما رأيت في بعض الجرائد ومن اعاجيب وجوده ذكر لي صياد في البحر قال قد نبتعد من الساحل بحيث لا نشاهد جفاف من الجوانب الأربعة ولا يوجد ذباب واحد في السفينة ولكن لمجرد ما نفرغ السمك على عرشة السفينة بعد لحظات نرى تأتي ذباب كثرة تقع على الأسماك فيدل على ان الذباب مجهز به جهاز يدرك طعامه من بعد فراسخ كثيرة وله قوة الطيران ليتجاوز هذا الطريق البعيد وبسرعة بالغة. فيكفينا ان نتأمل في وجود الذباب للتوجه الى قدرة الله اللامتناهية.
فلیس فقط ان الأوثان عاجة عن خلق الذباب ولو اجتمعت كلها، بل الانسان ایضا غیر قادر على صناعتها ولو اجتمعت العلماء والمفكّرون والمخترعون جميعاً، لما استطاعوا خلق ذبابة.
فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السموات والأرض وما فيهنّ من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر، في الصحاري والغابات، وفي أعماق الأرض؟ اللّه الذي خلق الحياة في أشكال مختلفة وصور بديعة ومتنوّعة بحيث أنّ كلّ مخلوق من المخلوقات يثير في الإنسان كلّ الإعجاب والتقدير، فأين هذه الآلهة الضعيفة من اللّه الخالق القادر الحكيم المتعال؟
ثم يتنازل الآية عن خلق الذباب الى مرتبة اسهل بكثير فقال: ﴿وًإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾ وهو عدم قدرتها على استنقاذ ما سلبه الذباب عنها فكيف تخضعون لتلك الاصنام وتدعونها لقضاء حاجاتكم وتتوقعون منها حلّ مشاكلكم؟!
ثم بین مهانة الطرفین وضعفهما فقال: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ﴾. و قد جعلوا هذه الموجودات التافهة شركاء للّه الواحد الأحد القهار، وهم يرون بام اعینهم ان الذّباب يحوم عليها ويسرق منها العسل والزعفران والمسك کما ورد فی الحدیث دون أن تستطيع إعادة ما سلب منها! فبین الله تفاهة منطق المشركين في تسويغ عبادتهم لهذه الأصنام، وذكرّهم بعجز آلهتهم عن استعادة ما سرقه الذباب منها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها لعلّهم ينتبهون على خرافة اعتقادهم ودناءة عبادتهم إياها.
ثم فی المراد من الطالب والمطلوب وقع الخلاف بین المفسرین فمنهم قال: الطالب هو عبدة الأصنام، والمطلوب هو الأصنام ذاتها. وقال الآخر: إنّ الطالب هو الذّباب، والمطلوب الأصنام (لأنّ الذباب يجتمع عليها ليسلب منها غذاءه). وقال الثالث: الطالب هو الأصنام، والمطلوب هو الذباب ولکن مناسبة الآية حيث أرادت ان تبين تفاهة عمل المشركين في عبادتها و طلب الحوائج منها ان الطالب هو المشركين والمطلوب هو الاصنام.
ثم یعاتب الله المشرکین بقوله: ﴿ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
قال فی الميزان: (قدر الشيء هندسته و تعيين كميته ويكنى به عن منزلة الشيء التي تقتضيها أوصافه ونعوته يقال: قدر الشيء حق قدره أي نزله المنزلة التي يستحقها وعامله بما يليق به.
وقدره تعالى حق القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا ويعامل كما يستحقه بأن يتخذ ربا لا رب غيره ويعبد وحده لا معبود سواه لكن المشركين ما قدروه حق قدره إذ لم يتخذوه ربا ولم يعبدوه بل اتخذوا الأصنام أربابا من دونه وعبدوها دونه وهم يرون أنها لا تقدر على خلق ذباب ويمكن أن يستذلها ذباب فهي من الضعف والذلة في نهايتهما، والله سبحانه هو القوي العزيز الذي إليه ينتهي الخلق والأمر وهو القائم بالإيجاد والتدبير).[4]
فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة باللّه تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عمّا يفعلون علوّا كبيرا، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة اللّه لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم. وتقول الآية في النهاية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
وفی هذه الآية جاء بانّ للتأكيد لبيان قوة الله تعالى في ذاته وعزته في مخلوقاته، ولا يختصّ العجز بالأصنام، بل يعمّ جميع ما دون اللّه تعالى، من الفراعنة والسلاطين والقوى العظمى المستكبرة المتقدمة في التكنولوجيا، ولو تكاتف واجتمع جمعوا عساكرهم وما يملكون من وسائل وطاقات، لما تمكّنوا من خلق ذبابة، ولا من استعادة ما سلب الذباب منهم.
هنا طرح فی الامثل سؤال وجواب فقال:
(قد يقال: إنّ اختراعات العصر الحديث قد تجاوزت أهميّة خلق ذبابة بمراتب كبيرة! فوسائل النقل السريعة التي تسبق الريح وتقطع المسافات الشاسعة في طرفة عين، والأدمغة الألكترونية وأدقّ الأجهزة الحديثة بإمكانها حلّ المعضلات الرياضية بأسرع وقت ممكن، لا تدع قيمة لهذا المثل في نظر إنسان العصر.
وجواب ذلك هو أنّ صنع هذه الأجهزة- بلا شكّ- يبهر العقول، وهو دليل على تقدّم الصناعة البشرية تقدّما مدهشا، ولكنّه يهون مقابل خلق كائن حي مهما كان صغيرا، فلو درسنا حياة حشرة كالذبابة و نشاطها البايولوجي بدقّة، لرأينا أنّ بناء مخّ الذبابة وشبكة أعصابها وجهاز هضمها أعلى بدرجات من أعقد الطائرات، وأكثر تجهيزا منها، ولا يمكن مقارنتها بها. وما زال في قضيّة الحياة وإحساس وحركة المخلوقات أسرار غامضة على العلماء، وهذه المخلوقات وتركيبها البايولوجي، هي نفسها غوامض لم تحل بعد.
وقد ذكر علماء الطبيعة أنّ عيني هذه المخلوقات الصغيرة جدّا، كالحشرات- مثلا- تتركّب من مئات العيون! فالعينان اللتان تبدوان لنا إثنتين لا أكثر، هما مؤلّفتان من مئات العيون الدقيقة جدّا، ويطلق على مجموعها العين المركبة، فلو فرضنا أنّ الإنسان صنع موادّ من أجزاء الخليّة التي لا حياة فيها، فكيف يتمكّن من صنع مئات العيون الصغيرة التي لكلّ منها ناظورها الدقيق، وقد رصّت طبقاتها بعضها إلى بعض، وربطت أعصابها بمخّ الحشرة لتنقل المعلومات إليها، ولتقوم بردّ فعل مناسب لما يحدث حولها؟) [5]
اقول کلما تقدم العلم تظهر آيات لله اكثر لان البشر لا يصنع شيءً بل يكتشفها فذه الطاقات التي استخدمها البشر في هذا العصر كلها مخلوقات كانت موجودة من القديم ولكن لم يكتشفها الانسان فبكشفها وضمها وتفريقها وصلت الى معلومات جديدة وعلم البشر كلها اكتشاف الواقع بل الانسان الذي استطاع ان يصل الى هذه الحضارة مخلوق لله قد ودّع فيه استعداد اكتشاف واستخدام الطاقات المودعة في الطبيعة وهو من آيات الله والشعر المنسوب الى مولانا امير المؤمنين عليه السلام يشير الى هذا المعنى واليك نصها:
دوائك فيك ولا تبصُرُ + ودائك منك لا تشعُرُ + وانت الكتاب المبين الذي + بأحرفه تُعرفُ المضمرُ + اتزعم انّك جرم صغير + وفيك انطوى العالم الأكبر.