< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

45/09/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /الآيات 2-3 من سورة الصف

 

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [1]

 

سبب النّزول‌:

قال فی المجمع: (نزل قوله ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ في المنافقين عن الحسن وقيل نزل في قوم كانوا يقولون إذا لقينا العدو لم نفر ولم نرجع عنهم ثم لم يفوا بما قالوا وانفلوا يوم أحد حتى شج وجه رسول الله ص و كسرت رباعيته عن مقاتل والكلبي وقيل نزلت في قوم قالوا جاهدنا وأبلينا وفعلنا ولم يفعلوا وهم كذبة عن قتادة وقيل لما أخبر الله سبحانه رسوله بثواب شهداء بدر قالت الصحابة لئن لقينا بعد قتالا لنفرغن فيه وسعنا، ثم فروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك عن محمد بن كعب وقيل كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبرهم الله أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد، فكره ذلك ناس وشقِّ عليهم وتباطأوا عنه فنزلت الآية عن ابن عباس وقيل كان رجل يوم بدر قد آذى المسلمين فقتله صهيب في القتال فقال رجل يا رسول الله قتلت فلانا ففرح بذلك رسول الله ص فقال عمر وعبد الرحمن لصهيب أخبر النبي ص أنك قتلته وأن فلانا ينتحله، فقال: صهيب إنما قتلته لله ولرسوله فقال عمر وعبد الرحمن يا رسول الله إنما قتله صهيب، فقال كذلك يا أبا يحيى؟ قال نعم يا رسول الله، فنزلت الآية والآية الأخرى عن سعيد بن المسیب).[2]

أقول: ولو ان شأن النزول كان في مورد الجهاد ولكن اطلاق الآية جعلها صالح لجميع المواطن فمخالفة الفعل للقول له مصاديق:

منها خلف الوعد ومنها ان يكون ادعاءه لا يناسب عمله وبعبارة أخرى: كلّ قول لا يقترن بعمل ويستحقّ اللوم والتوبيخ، سواء يتعلّق بالثبات في ميدان الجهاد أو أي عمل إيجابي آخر.

وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الخطاب في هذه الآيات متوجه الى المنافقون، الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر ولكن هذا الحمل بعيد جداً لان الخطاب في الآية موجّه إلى الذين آمنوا، وفي الذين آمنوا قد يوجد ضعاف الايمان او ضعاف الإرادة، وكثير من خطابات القرآن متوجه الى المؤمنين لتربيتهم الى القيم والأخلاق الإسلامية والدعوة الى التقوى فلا يمكن ان نقول هذه الخطابات كلها للفاقدين لتلك الصفات كما ان "اقيموا الصلاة" متوجه الى جميع المؤمنين تاكيداً لمطيعين و تتميما للحجة على غير الملتزمين وتحريضهم للعمل كما أنّ تعبيرات الآيات اللاحقة تبيّن لنا أنّ المخاطب بذلك هم المؤمنون، ولكنّهم لم يصلوا بعد إلى الإيمان الكامل وأعمالهم غير منسجمة مع أقوالهم.

ثمّ أضاف سبحانه مواصلاً القول: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ هذه الآية تهديد وتحذير لمن يدعي أمورا في العلن وفي فيما بين الناس ويدعي الشجاعة، ولكن ما أن تحين ساعة الجدّ فهو اول الهاربين والناكصين وبين قوله وعمله بون بعيد.

إنّ من السمات المؤمنين الانسجام بين أقوالهم وأعمالهم فكلما يقوي الايمان يزداد هذا الانسجام والعكس صحيح.

«المقت» في الأصل: (البغض الشديد لمن ارتكب عملا قبيحا) وكان عرب الجاهلية يطلقون عبارة (نكاح المقت) لمن يتزوّج زوجة أبيه.[3] والله تعالى بعد ما عاتب المؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون يبين لهم ان هذا الفعل القبيح يوجب مقتا عظيما عند الله أي يستلزم غضبه الشديد من فاعله.

ان صاحب الميزان أشار هنا الى نقطة مهمة فقال: (فرق بين أن يقول الإنسان شيئا لا يريد أن يفعله، وبين الإنسان الذي لا ينجز عملا يقوله. فالأوّل دليل النفاق، والثاني دليل ضعف الإرادة) [4] .

وتوضيح ذلك أنّ الذي يقول شيئا لم يقرّر إنجازه منذ البداية هو على شعبة من النفاق، أمّا إذا قرّر القيام بعمل ما، ولكنّه ندم فيما بعد فهذا دليل ضعف الإرادة.

وهناك حالة ثالثة وهو الذي أراد ان يفي بوعده فلم يستطع ان يفي، وهذه الحالة كثيراً ما يتفق فهو ولو ليس مأثوماً ولكن ينبغي ان يعتذر ممن وعده وإذا كان موضوع وعده قابل للتبعيض واستطاع ان يفي ببعضه فعليه ان يفي بمقدار الميسور، حتى يعرف الموعود له بانه يريد الاداء ما عليه. كمن يستقرض مالا عن صديقه ويعده ان يعيد اليه بعد ستة أشهر ولم يحصل له مال يؤدي قرضه فعليه ان يؤدي بعضها الميسور حتى يطمئن المقرض بانه بصدد الأداء.

وعلى كلّ حال، مفهوم الآية يشمل كلّ تخلّف عن عمد، سواء تعلّق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون، منها: الوفاء بالنذر والعهد والقسم مع الله.

وقد ورد في عهد علي عليه السلام لمالك الأشتر أنّه قال: "إِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [5] .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السّلام انه قال: "عدة المؤمن أخاه نذر لا كفّارة فيه، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، ولمقته تعرّض، وذلك قوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [6] . والنذر الذي لا كفارة فيه أصعب مما فيه الكفارة فان دفع الكفارة يجبر الذنب وما لا كفارة فيه فلا جابر له.

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَفِ إِذَا وَعَدَ".[7] فمعنى هذا الكلام ان من لم يفي بوعوده فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر.

وهؤلاء الذين يعدون وعودا بلا وفاء واعتادوا على ذلك قد ابتلوا بمرض في روحهم وخرجوا عن الاعتدال فان الانسان عادة عندما يقوم بعمل ينويه ومن كان نيته لا يوافق عمله فقد انحرف عن الاعتدال وابتلي بمرض النفاق.

والامر الذي يستقر عليه العلاقات الاجتماعية هو الثقة بالآخرين ومن أعظم الابتلاءات التي تبتلى بها المجتمعات الإنسانية هو فقدان الثقة بين آحاد المجتمع الذي يخرب الانسجام الاجتماعي، حيث تولد منه بؤرة عميقة مخيّبة كما هو عامل للضعف والتباغض وعدم الاحترام وتضييع الفرص الحميدة وسقوط هيبة المجتمع الإسلامي أمام الأجانب.

ان مولانا امير المؤمنين كان يعاني شديدا من حالة النفاق في معاصريه ومن حوله فقد ورد في نهج البلاغة عند ما أغار جيش الشام على حدود العراق، و وصل خبر ذلك إلى ‌الإمام علي عليه السّلام خطب في أهل الكوفة خطبته التي قال فيها: أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلَامُكُمْ يُوهِي (يشقق) الصُّمَّ الصِّلَابَ وَ فِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الْأَعْدَاءَ تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وَ كَيْتَ فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ، مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ وَلَا اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ‌ الْمَطُولِ لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ وَ لَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ وَ مَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ الْمَغْرُورُ وَ اللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ وَ مَنْ فَازَ بِكُمْ فَاز بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ وَمَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ أَصْبَحْتُ وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ وَلَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ وَلَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ مَا بَالُكُمْ مَا دَوَاؤُكُمْ مَا طِبُّكُمْ الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ أَقْوَالًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَغَفْلةً مِنْ غَيْرِ وَرَعٍ وَطَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ‌) [8] نرى ان الامام عليه السلام كيف يشكوا عن معاناته مع هؤلاء الذين لم يكن أعمالهم منطبقا على اقوالهم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo