< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

45/09/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: التفسير الموضوعي/تفسير الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآيات 18-20 من سورة الحشر

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ . لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُون‌﴾ [1]

في هذه الآية المباركة امرنا ربنا ان نتقي الله والاتقاء هو الشعور بالحضور الدائم وقد يفيد هذا المعنى المصطلح العراقي "دير بالك" أي يكون الله دائما في ذاكرته بحيث تدعوه الى الطاعة لله وتردعه عن معصيته.

قال في الميزان: (ذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته وكبريائه من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي بينها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية ولا كمال للإنسان فوقه. وذلك أن الإنسان عبد محض ومملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة، كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة، وكمال الشي‌ء محوضته في نفسه وآثاره، فكمال الإنسان في أن يرى نفسه مملوكا لله من غير استقلال وأن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع والخشوع والذلة والاستكانة والفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة والعزة والغنى وأن تجري أعماله وأفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شي‌ء من هذه المراحل الذات والصفات والأفعال. ولا يتم له النظر إلى ذاته وصفاته وأفعاله بنظرة التبعية المحضة والمملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شي‌ء شهيد وبكل شي‌ء محيط وهو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أو ينساه).[2]

والله امر نبيه ان يكون هكذا فقال: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِين﴾ [3]

ولا شك من استطاع ان يعيش ذكرالله في أعماق قلبه سوف يكون مشتاقاً الى طاعة الله ومنزجراً عن معصيته.

وفي وجه تكرار الامر بالتقوي ذكروا وجوهاً كلها من مصاديق التأكيد، منها: ان التقوى محفّز للعمل الصالح، وهي ايضا الرادع عن ارتكاب الذنوب. ومنها: أنّ الأمر الأوّل للتقوى هو بلحاظ أصل إنجاز الأعمال، والثاني يتعلّق بطبيعة الإخلاص فيها. ومنها: أنّ الأوّل بملاحظ ما انجزه من الاعمال الصالحة او الطالحة بقرينة قوله تعالى: (ما قدّمت). والثاني يلحاظ فيه ما يأتيه من الصالحات والمجانبة عن المعاصي والذنوب. ومنها: أنّ الأوّل إشارة إلى التوبة من الذنوب الماضية، والثاني: رعاية المستقبل بإتيان الاعمال الصالحة. وكل هذه الوجوه لازم المراعات وقريب المضمون.

والمراد من قوله تعالى: ﴿ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ هو بعد الموت وانما عبر عنه ﴿بغد﴾ لأنه محتوم لا شك فيه ولا ندري متى يقع فهو قريب بنا جدا، وصيغة نكرة في غد مشيرة الى هذه الجهة.

والتعبير ب (نفس) دلالة على مفرد، ويمكن أن تعني كلّ نفس، وتنكير مفردة النفس أيضا للشمول، أي كلّ إنسان ينظر لنفسه، لانّ ﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾ وقال تعالى ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [4] وقد ورد نفس المضمون بفارق قليل في الآية 123من سورة البقرة. فلا يتوقّع من أحد ان يكفيه فيما عليه من العمل. ثم ان الله بعد ما اكد على التقوى ولزوم التمهيد ليوم القيامة يذكر تعاسة حال هؤلاء الذين لم يذكروا الله بل نسوه و يحذر المؤمنين عن مثل سلوكهم بقوله: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ.﴾

قال في الأمثل: (إنّ جوهر التقوى شيئان: ذكر اللّه تعالى، وذلك بالتوجّه الإنشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كلّ مكان وفي كل‌ الأحوال، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها في صحيفة أعمالنا ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع).

ومما يتطلب عنا الوقوف عنده هو ما ورد في هذه الآية المباركة من قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ هذا المقطع من الآية تبين تلازم معرفة النفس مع معرفة الرب كما ورد في الحديث: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" فهناك ملازمة بين الامرين فمن نسي الله فهو جاهل بالنسبة الى نفسه فيهلكها ولا يراعيها فلنعلم أنّ نسيان اللّه يؤدّي من جهة إلى انغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية، وينسى خالقه، وبالتالي يغفل عن ادّخار ما ينبغي له في يوم القيامة، ومن جهة اخرى فانّ نسيان اللّه ونسيان صفاته المقدّسة من أنّه سبحانه هو الوجود المطلق واللامتناهي، والغنى اللامحدود، وكلّ ما سواه مرتبط به، ومحتاج الى ذاته المقدّسة، فالنسيان عن هذه الحقائق يسبّب للإنسان أن يتصوّر نفسه مستقلا ومستغنيا عن المبدأ.

وأساسا فإنّ النسيان- بحدّ ذاته- من أكبر مظاهر تعاسة الحياة وشقائها، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في مستنقع الحيوانية، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات. وهو أساس السقوط في الفسق والفجور، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة اللّه، ولهذا يقول سبحانه: ﴿أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾.

وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ [5] .

وهنا نودّ ان نطل اطلالة على حقل الروايات: ورد في نور الثقلين ذيل الآية الكريمة ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾

(فِي الْكَافِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: تَصَدَّقُوا وَ لَوْ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَ لَوْ بِبَعْضِ صَاعٍ، وَ لَوْ بِقَبْضَةٍ، وَ لَوْ بِبَعْضِ قَبْضَةٍ، وَ لَوْ بِتَمْرَةٍ وَ لَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَاقَى اللَّهَ فَيُقَالُ لَهُ: أَ لَمْ أَفْعَلْ بِكَ؟ أَ لَمْ أَفْعَلْ بِكَ؟ أَ لَمْ أَجْعَلْكَ سَمِيعاً بَصِيراً؟ أَ لَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالًا وَوَلَداً؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿فَانْظُرْ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ﴾، قَالَ: "فَيَنْظُرُ قُدَّامَهُ وَخَلْفَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَجِدُ شَيْئاً يَقِي بِهِ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ".

فِي عُيُونِ الْأَخْبَارِ فِي بَابِ مَا جَاءَ عَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي التَّوْحِيدِ حَدِيثٌ طَوِيلٌ عَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ فِيهِ يَقُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَ إِنَّمَا يُجَازَى مَنْ نَسِيَهُ وَ نَسِيَ لِقَاءَ يَوْمِهِ، بِأَنْ يُنْسِيَهُمْ أَنْفُسَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا﴾ أَيْ نَتْرُكُهُمْ كَمَا تَرَكُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا.

وفِي عُيُونِ الْأَخْبَارِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ﴾ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ مَنْ أَطَاعَنِي وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدِي وَأَقَرَّ بِوَلَايَتِهِ، وَأَصْحَابُ النَّارِ مَنْ سَخِطَ الْوَلَايَةَ وَنَقَضَ الْعَهْدَ وَقَاتَلَهُ بَعْدِي".

وفِي أَمَالِي شَيْخِ الطَّائِفَةِ قُدِّسَ سِرُّهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَجْدُوحِ بْنِ زَيْدٍ الذُّهْلِيِّ وَكَانَ فِي وَفْدِ قَرْيَةٍ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿«لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ»﴾ قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي وَسَلَّمَ لِهَذَا مِنْ بَعْدِي؛ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِكَفِّ عَلِيٍّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ إِلَى جَنْبِهِ فَرَفَعَهَا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ عَلِيّاً مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، فَمَنْ حَادَّهُ حَادَّنِي وَمَنْ حَادَّنِي أَسْخَطَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ".[6]

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo