< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

45/09/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: التفسير الموضوعي/الايات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآية11من سورة الجادلة

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [1]

في بدء البحث نلقي اطلالة على بعض مفردات الآية:

قال في المجمع: (التفسح الاتساع في المكان والتفسح والتوسع واحد وفسح له في المجلس يفسح فسحا ومكان فسيح وفي صفة النبي ص كان فسيح ما بين المنكبين أي بعيد ما بينهما لسعة صلبه).

وقال: (قرأ عاصم وحده «فِي الْمَجالِسِ» على الجمع والباقون في المجلس على التوحيد وقرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم غير يحيى مختلف عنه). [2]

أقول: من ناحية المعنى لا فرق بينهما لان المجلس بلفظ المفرد اسم للجنس فيفيد العموم ولا داعي على ان نقول المراد من المجلس مجلس رسول الله لأنه كانت لرسول الله أيضا مجالس.

وقال ايضاً: (وقيل انشزوا فانشزوا بالضم والباقون بالكسر، والنشوز: الارتفاع عن الشي‌ء بالذهاب عنه). [3]

اما في شأن النزول فقال في المجمع: (قال قتادة كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله ص فإذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم عند رسول الله ص فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض، وقال المقاتلان: كان رسول الله ص في الصُفّة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة وكان ص يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس فقاموا حيال النبي ص فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد عليهم النبي ص ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على النبي ص فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر قم يا فلان قم يا فلان بقدر النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف الكراهية في وجوههم، وقال المنافقون للمسلمين:‌ أ لستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس؟ فوالله ما عدل على هؤلاء إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم فنزلت الآية) [4]

هذه الآية المباركة جاءت عقيب ثلاث آيات حول النجوى واحكامها والأدب فيها والآية التي بين أيدينا تتكلم عن ادب من آداب المجالس الذي كثيرا ما يتفق الحاجة اليه، تقول: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾

من الأمور التي لابد من رعايتها عند ما يدخل شخص الى اجتماع ان يفسحوا له المجال للجلوس سواء في صفوف الجماعة او المجالس العامة حتى المجالس الخاصة خصوصا اذا كان اجنبياً او لأول مرة دخل على هذا الجمع، كي لا يبقى في حيرة وخجل، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والوداد. ومثل هذا الموضوع في بادئ الامر يظهر امرا بسيطاً ولكنه ليس بسيطاً

لأنه عند من يدخل شخص الى جمع ويري لنفسه اعتبار ولم يفسحوا له مكانا للجلوس قد يترك في نفسه اثراً لا ينساه للأبد إيجاباً او سلباً، وهذا الأمر يؤدبنا ان نهتم بأمور الآخرين.

وقوله: ﴿يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾ انشاء الدعاء ولكن بما انه صدر من الرفيق الأعلى يفيد الوعد والخبر وقد فسّرها البعض بتوسّع المجالس في الجنّة، وهو ثواب يعطيه اللّه تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا، ويلتزمون بها، ولكن عند التأمل نرى ان العبارة مطلقة ولا تخصيص فيها بالآخرة فيمكن ان نعمم الامر الى الدنيا أيضا في المكان الذي تفسح فيه، وقد جربنا كثيرا عند ما ندخل الى اجتماع او في صف الجماعة فيفسحون لنا ففي بادئ الامر يحصل شيءً من الضيق ولكن بعد دقائق نرى الارتياح في جلوسنا، ولربما يمكن الشمول هذا الكلام لكلّ سعة في الدنيا وفي الآخرة، توسع في الجنّة وتوسع في المكان وتوسع في الروح والفكر ولعله توسع في العمر والحياة، أو في المال والرزق، ولا عجب من فضل اللّه تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير، لأنّه ليس على الله بعزيز ان يكرم عبده تكريما واسعاً عندما يكرم عبدَه في مجلسه.

ثم تأتي الآية تتقدم في الموضوع وهو ترك المكان للغير، اكراماً له وطاعة لله فقال: ﴿وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ أي إذا قيل لكم قوموا من مكانكم وقدموه الى الغير فافعلوا، ولا تضجروا أو تسأموا من الوقوف، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أولى بالجلوس من الذي في المجلس، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثر الحاضرون شخصاً داخلاً على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية، حيث كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد أمر المجموعة التي‌ كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر، وأفضل من الآخرين لسبقهم من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين ﴿انشزوا﴾ بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع، بحيث تشمل القيام للجهاد اوالصلاة اوأعمال الخير الأخرى ايضاً، إلّا أنّه من خلال امعان وملاحظة سياق الكلام وان فيها قيد «في المجالس»، يظهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود هذه الشواهد.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي قد وعد لمن يلتزم بهذا بالأمر الإلهي، حيث يقول عزّ وجلّ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ﴾.

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه وآله إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين، فإنّه لهدف إلهي مقدّس، وهو احترام السابقين في الإيمان والعلم.

وورود مفردة ﴿درجات﴾ في الآية بصيغة جمعٍ نكرةٍ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها اللّه لمثل هؤلاء الأشخاص، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى. فهنا يمكن ان تكون الآية بيان لصفة القادمين او للمقدِّمين مكانهم للقادمين، ولكن كونها صفة للقادمين أقرب وهو لبيان انه ينبغي ان يؤثروهم على أنفسهم في المكان

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء فالله تطييباً لنفس المخلصين وتحذيراً لغير المخلصين قال ﴿وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾. أي هو يعرف المطيع المخلص او المطيع المكره المرائي.

بما ان الله ذكر في هذه الآية رفعة المؤمنين ودرجات للعلماء فنطل اطلالة على عدد من الروايات التي تشير الى هذا التفضيل: ‌

ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله انه قال: "فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس، كفضلي، على أدناهم" [5] .

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة».

‌ ورد في حديث آخر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»[6] .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة [7] .

ن الور التي تدل على الفضيلة قام الشفاعة في الآخرة ورد عن رسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء» [8] . وفي الحقيقة أنّ التوفيّق في طريق التكامل وجلب رضا اللّه والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما: الإيمان والعلم، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo