< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

45/09/03

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآية 11 من سورة الحجرات

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى‌ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‌ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [1]

 

هذه الآية رابع مرة خاطب الله عباده فيها بقوله يا أيها الذين آمنوا في سورة الحجرات

في المرة الأولى: نهاهم عن التقدم بين يدي الله ورسوله، وفي المرة الثانية: نهاهم عن رفع الصوت فوق صوت النبي وعدم الاجهار بالكلام معه بمثل ما يخاطب بعضهم بعضا. وفي المرة الثالثة: امرهم بالتبيّن اذا جاءهم فاسق بنبإٍ وفي هذه المرة هي الرابعة: نهاهم عن أمور اربعة: نهاهم عن سخرية قوم من قوم ونساء من نساء ونهاهم عن لمز النفس ونهاهم عن التنابز بالألقاب واعتبر ذلك فسوقا بعد الايمان. وكلها تتعلق بالعلاقات الاجتماعية في مجال الاخلاق.

قال في المجمع: (الهمز واللمز العيب والغض من الناس فاللمز هو الرمي بالعيب لمن لا يجوز أن يؤذى بذكره وهو المنهي عنه، فأما ذكر عيب الفاسق فليس بلمز وقد ورد في الحديث قولوا في الفاسق ما فيه كي يحذره الناس‌. والنبز القذف باللقب يقال نبزته أنبزه). [2]

لابد من حمل جواز ما في الفاسق من العيب على المعاصي التي يتجاهر بها او المعاصي التي يريد ان يغش بها الناس، اما في غير الموردين فإطلاقات حرمة الغيبة تفيد عدم الجواز، مضافاً الى ان ذكر معاصي الآخرين وافشائها لعلّه مصداق لإشاعة الفاحشة في المؤمنين المنهي عنها بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[3]

وقال المجمع في شأن نزول الآية: (نزل قوله ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي فيسمع ما يقول فدخل المسجد يوما والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له أصبت مجلساً فاجلس، فجلس خلفه مغضباً فلمّا انجلت الظلمة قال من هذا قال الرجل أنا فلان فقال ثابت: ابن فلانة؟ ذكر أمّاً له كان يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه حياء، فنزلت الآية عن ابن عباس).[4]

وورد في تفسير علي بن إبراهيم القمي: (وَأَمَّا قَوْلُهُ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى‌ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‌ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ﴾ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ كَانَتَا تُؤْذِيَانِهَا وَ تَشْتِمَانِهَا وَ تَقُولَانِ لَهَا يَا بِنْتَ الْيَهُودِيَّةِ، فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَالَ لَهَا: "أَلَا تُجِيبِنَّهُمَا فَقَالَتْ بِمَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: قُولِي أَبِي هَارُونُ نَبِيُّ اللَّهِ وَعَمِّي مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ وَ زَوْجِي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَمَا تُنْكِرَانِ مِنِّي فَقَالَتْ لَهُمَا فَقَالَتَا هَذَا عَلَّمَكِ رَسُولُ اللَّهِ ص فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ﴾[5]

ووفي المجمع قوله ﴿وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ﴾ نزل في نساء النبي ص سَخِرن من أم سلمة عن أنس وذلك أنها ربطت حقويها بسبيبة وهي ثوب أبيض وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجره فقالت عائشة لحفصة انظري ما ذا تجر خلفها كأنه لسان كلب، فلهذا كانت سخريتهما.

وقيل أنها عيرتها بالقصر وأشارت. بيدها أنها قصيرة عن الحسن‌) [6]

ان هذه الآية وردت بعد الآيات التي تتحدث عن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وامر الله بإصلاح ذات البين والدفاع عن المظلوم منهما كما امر بإصلاح بين الاخوة المؤمنين فهنا دخل في النهي عن بعض اخلاق الرذيلة التي توجب الخلاف والعراك بين المؤمنين اهتمّاما ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية ولا يمكن تحقيق هذه الأمنية الا باقتلاع جذور هذه الخلافات بين الناس وحسم النزاع! فهذه الآية تناولت أموراً يمكن أن تكون شرارة لاشتعال حرب وخلاف، بين المؤمنين فقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْم عَسى‌ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‌ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ﴾. هنا ظاهر الأمر ان النسبة بين القوم والنساء نسبة العموم المطلق فالقوم شامل للصنفين والنساء خاص بجنس الانثى وعادة ذكر الخاص بعد العام يأتي للاهتمام به والتنبيه على خصوص الخاص وهنا عند ما قال لا يسخر قوم من قوم يلفت الانتباه الى النزاعات العامة على مستوى المجتمع وذكر النساء ملفت للانتباه الى نزاعات تشتعل من داخل الأُسر ولكن خليل النحوي خصص القوم بالرجال فقال: (القوم يقع على الرجال دون النساء لقيام بعضهم مع بعض في الأمور) فجعل بين الجملتين تباين فمعناه لا يسخر رجال من رجال ولا نساء من نساء ولكن هذا التعويل تحكّمٌ في الكلام لا يمكن التسليم له وتفقد الآية شموليتها وسعة معناها فالظاهر ان الخطاب موجّه إلى المؤمنين كافة فهو يعم الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح، لأنّ السخرية والاستهزاء ناشئ عن الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك وهذه الصفات ناشئة من الهوان في النفس وهي من رذائل الاخلاق فمن يرى نفسه حقيرا يريد ان يجبر هذه الحقارة بان يتكبر بماله او عشيرته او قدرته ولكن الانسان الشريف لا يرى حاجة الى الاستعلاء بل ينظر الى الآخرين نظر اب رحيم واخ حميم للآخرين فينظر اليهم نظر العطف والرحمة فيتواضع لهم ولا يرى التواضع وهن او استخفاف لنفسه.

وهذه الخلق اللئيمة هي التي شبت منها كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ! وهذا الاستعلاء أو التكبّر غالبا ما يكون لمن وصل الى ثروة قيّمة المادية فمثلا، فلان يرى نفسه أكثر مالاً من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنّه يعد من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها، او عنده استعداد قوي في التعلم او هو حافظ للقران او نهج البلاغة او هو متبحر في بعض فروع العلوم التجريبية فيترفّع على الآخرين ويغترّ بما عنده من نعم الله فيحتقر من لم يملك تلك الميزات فيسخر منهم ويستكبر عليهم.

هنا اودّ ان اتبرك بكلام منسوب الى رسول الله انه قال: "من طلب العلم لله لم يصب منه بابا الا ازداد في نفسه ذلاً وفي الناس تواضعاً ولله خوفاً وفي الدين اجتهاداً وذلك الذي ينتفع بالعلم فليتعلمه ومن طلب العلم للدنيا والمنزلة عند الناس والحظوة عند السلطان لم يصب منه بابا الا ازداد في نفسه عظمة وعلى الناس استطالة وبالله اغتراراً ومن الدين جفاءاً وذلك الذي لا ينتفع بالعلم فليكف وليمسك عن الحجة على نفسه والندامة والخزي يوم القيامة"[7]

فمن اكتسب كمالا في الدنيا ولم يتق ربه يقع في التكبر والضلال، اما إذا كان متحلياً بالتقوي يعرف ان ما حصّله فضل من الله عليه ولا يبتلي بتلك الصفات الذميمة.

فلا ينبغي لأحد ان يحقِّر سائر الناس ويتعالى عليهم فإنّها من أسوأ الأمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي لها انعكاسات سلبية في حياة المجتمع البشري.

ثمّ تقول الآية في المرحلة الثانية: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾. في نسبة اللمز الى أنفسكم عناية طريفة وهي اعتبار المؤمنين نسيجاً واحداً فمن لمز غيره لمز نفسه لأنه جزء من هذا النسيج فيظهر من هذه النقطة أنّ جميع المؤمنين بمثابة نفس واحدة فمن عاب غيره فإنما عاب نفسه في الواقع!

وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضا قائلة: ﴿وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ﴾.

من الأمور القبيحة هو التسميات الدنيئة ورمي غيرهم بها وهذا العادة لا تناسب شرافة الانسان والقران نهى عن ذلك ولهذه الآية مصداقان: فقد يكون بعض الناس يلقبون الاخرين بألفاظ يريدون الإهانة إليهم مثلا: يا أحمق ويا غبي ويا لئيم ويا حمار وغيرها من مثل هذه الألقاب فينبذون غيرهم بها إهانة وسباً او ارتكب بعض المعاصي ثم تاب كمن كان عمله سرقة فترة من الزمان ثم تره وتاب الى الله فيسمونه سارق وقس على هذا القاب ينبذ بها من لم يستحق.

وفي بعض البيئات نجد تسميات لا تناسب كرامة الانسان كالذئب والكلب والجهش والعصفور وغيرها من أسماء الحيوانات او العيوب الجسمانية والاخرس والضرير والاعرج وامثالها والشارع المقدس حرّض على ألقاب جميلة تشير كمالات نفسانية او باسم الأنبياء والاولياء الذين للسمىّ بأسمائهم معزة وشرف حتى ورد في الأثر من حق الأولاد على الوالد ان يحسن اسمه.

الإسلام نهى عن النبذ بالقاب من النوع الأول وامر بتحسين الألقاب من القسم الثاني ونهى عن اسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاة لتحقير المسلم. واعتبر تلك الأسماء لا يناسب لمن تشرف بالايمان فقال: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ﴾ أي قبيح جدّا على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر، حتى قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ﴾ من التنابز والمعاصي ويرجع إلى طاعة الله تعالى ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo