< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

45/07/19

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي /تفسير الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير آيات 2-5 من سورة الحجرات

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى‌ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [1]

ففي الأسبوع الماضي بحثتا في الآية التي سبقت هذه الآيات وكانت تشتمل على كبرى تدعونا الى طاعة الله ورسوله وهي قوله تعالى: ‌﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ والآيات التي تليها تدخل في صغريات للآية الأولى وهي تشتمل على تربية وتأديب في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه واله وهو النهي عن رفع الصوت في الكلام وعدم المجاهرة بالقول كما كان المتعارف فيما بينهم.

هنا نقف شيئا عند بعض مفردات الآيات:

ورد في المجمع: (قرأ أبو جعفر الحجرات بفتح الجيم والباقون بضمها. ومن قرأ الحجرات أبدل من الضمة فتحة استثقالا بتوالي الضمتين ومنهم من أسكن فقال الحجرات مثل عضد وعضد وقال أبو عبيدة حجرات جمع حجر فهو جمع الجمع). وقيل أصل الكلمة مأخوذ من «الحجر» على وزن الأجر: أي المنع لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان

وقال: (والجهر ظهور الصوت بقوة الاعتماد ومنه الجهارة في المنطق وجاهر بالأمر مجاهرة ويقال جهارا ونقيض الجهر الهمس‌) وورد في الأمثل: (كلمة «يغضون» مشتقة من غضّ- على وزن حظّ- ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت)[2] .

وفي شأن نزول الآيات ورد في المجمع: (نزل قوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ في وفد تميم وهم عطارد بن حاجب بن زرارة في أشراف من بني تميم منهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وقيس بن عاصم في وفد عظيم فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله ص من وراء الحجرات أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله ص فخرج إليهم فقالوا: جئناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا فقال: قد أذنت، فقام عطارد بن حاجب وقال: الحمد لله الذي جعلنا ملوكا الذي له الفضل علينا والذي وهب علينا أموالا عظاما نفعل بها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثر عددا وعدة فمن مثلنا في الناس فمن فاخرنا فليعد مثل ما عددنا ولو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكنا نستحي من الإكثار ثم جلس. فقال رسول الله ص: لثابت بن قيس بن شماس قم فأجبه فقام فقال: الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يكن شي‌ء قط إلا من فضله ثم كان من فضله أن جعلنا ملوكا واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمهم نسبا وأصدقهم حديثا وأفضلهم حسبا فأنزل الله عليه كتابا وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله على العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله فآمن به المهاجرون من قومه وذوي رحمة أكرم الناس أحسابا وأحسنهم وجوها فكان أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله ص نحن فنحن أنصار رسول الله ص وردؤه نقاتل الناس حتى يؤمنوا فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه ومن نكث جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا، أقول هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم، ثم قام الزبرقان بن بدر ينشد وأجابه حسان بن ثابت فلما فرغ حسان من قوله قال الأقرع إن هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعرة أشعر من شاعرنا وأصواتهم أعلى من أصواتنا فلما فرغوا أجازهم رسول الله ص فأحسن جوائزهم وأسلموا عن ابن إسحاق.

وقيل إنهم أناس من بني العنبر كان النبي ص أصاب من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي ص فجعلوا يقولون يا محمد اخرج إلينا عن أبي حمزة الثمالي عن عكرمة عن ابن عباس).[3]

في هذا المقطع من السورة خاطب الله المؤمنين بقوله: ﴿لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾

فنهاهم عن رفع الصوت فوق صوت النبي، ورفع الصوت على الكبير فيه نوع من الإساءة الأدبية، والنّبي له شأنه المتعالي عند الله بل يفوق شأنه على جميع الكائنات، فلا ينبغي الإساءة اليه ثم يردف النهي الأول الى الثاني فقال: ﴿لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ يحتمل أن يكون هذا النهي تأكيدا على المعنى المتقدّم في فقرة الأولى، وبمكن ان يشير الى امر آخر، وهو ترك مخاطبة النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالنداء «يا محمّد» والعدول عنه بخطاب فيه تكريم خاص وهو: «يا رسول اللّه»!

وهناك قول آخر لبعض المفسّرين في الفرق بين الجملتين بما يلي: إنّ الجملة الأولى ناظرة إلى زمان تحادث الناس مع النبي، والجملة الثانية ناظرة الى زمان يكون الرّسول فيه صامتا وأصحابه يحدّثونه، ففي هذه الحالة أيضا لا ينبغي رفع الصوت عنده. ولكن احتمال العكس اقوى بقرينة قوله: ﴿كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ أي لا تخاطبوه كما يخاطب بعضكم بعضاً في المجاهرة.

ومن الواضح أنّ من قصد بهذه الأعمال الإساءة والإهانة للنّبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر والخروج عن الإسلام، ومن لا يريد الإساءة فمثل هذه الخطابات ان دلت على شيء فانما تدل على ضعف الايمان او الاخلاق والادب وهو يوجب الإيذاء له ايضاً والله أراد ان ينبههم بالأدب المناسب لساحة النبي صلوات الله عليه.

ثم قال الله في مقام التحذير: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ اي لئلا تبطل اعمالكم بجهر الصوت عند النبي صلوات الله عليه، ولا شك ان كان خطابهم الى النبي بنية الإساءة والاهانة فبكفرهم يسقط جميع أعمالهم لأنه ﴿انما يتقبل الله من المتقين﴾ واما إن لم يكن بنية الإهانة بل كان لعدم الاهتمام اللائق لرسول الله فكذلك معصية واثم كبير، يستحقون حبط أعمالهم ولا يبعد يكون مثل هذه الغفلة والتهاون، باعثاً لزوال ثواب كثير من أعمالهم الصالحة. فإنّه لا مانع من زوال ثواب بعض الأعمال بسبب بعض الذنوب الخاصة، كما أنّ زوال أثر بعض الذنوب بسبب الأعمال الصالحة قطعيّ أيضا ﴿أؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات﴾

وقد ورد قصص حول هذه الآية منها ورد في رواية أنّه حين نزلت هذه الآية قال «ثابت بن قيس» خطيب النّبي الذي كان له صوت جهوري عال: "أنا الذي رفعت صوتي فوق صوت النّبي فحبطت أعمالي و أنا من أهل النّار ..." فبلغ ذلك سمع النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقال: «هو من أهل الجنّة». لأنّه حين فعل ذلك للمؤمنين أو أمام المخالفين وكان ذلك أداء لوظيفة إسلامية.

كما أنّ ابن العباس بن عبد المطلب نادى بأمر النّبي الذين فرّوا في معركة «حنين» بصوت عال ليعودوا إلى ساحات القتال!

وفي الآية التي تليها يمدح الله هؤلاء الذي يلتزمون لهذا الادب مع رول الله فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى‌ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.

وكلمة «امتحن» مشتقة من الامتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتخليصه من الزوائد، كما أنّها تستعمل في بسط الجلد المعدّ للدّبغ ايضاً، ثم‌ استعملت بعدئذ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث، ونتيجة ذلك خلوص القلب وبسطه لقبول التقوى ...

والنقطة اللطيفة ان في الآية الأولى عنما كان موضع النصيحة والتحذير والمنع من عن الخطاب الشائن عبر عن النبي وعند ما ارد يمدح هؤلاء الذي كانوا يراعون جانب الأدب عبر عن رسول الله اللقب الذي كان مشعرا بالعظمة والكرامة تناسبا للموقف.

ومما ينبغي الانتباه تنكير المغفرة والاجر في هذه الآية، لتكون دالّا على أهمية هذه المغفرة والاجر ووصفهما بالعظمة. أي أنّ اللّه يجعل نصيبهم المغفرة الكبرى والتامة، وبعد تطهيرهم من الذنب يرزقهم الأجر العظيم، لأنّه لا بدّ من التطهير من الذنب أولا، ثمّ الانتفاع من الأجر العظيم.

ثم يشير الى عمل قبيح آخر منهم تجاه رسول الله فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾. فأي عقل يدفع الإنسان إلى أن ينادي برفيع صوته أمام أعظم سفير إلهي من دون رعاية الادب فوصفهم بانّ ﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ فقيد العتاب بالأكثر، رعاية للموارد التي النداء أولى لجهة ما مثل ما اذا توجه خطر على المسلمين او هو سلام الله عليه امرهم ان يعلنوه بشيء معين وترك الامر للمستثنيات. ثم قوله لا يعقلون هل هو اخبار عن ضعف عقولهم او اخبار عن عدم استعمال عقلهم كلا الارين محتمل ولكن الثاني أولى بالعتاب.

ويختم هذا المقطع من سورة الحجرات بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لكان خيرا لهم أولاً: لأنّهم راعوا الادب امام النبي، وثانيا: انه سلام الله عليه هو اعلم باللحظة المناسبة للخروج، وثالثاً صبرهم من دون المبادرة بالنداء يكون بداعي رعاية حال النبي وطاعتهم له وهو كرامة من الله عليهم وكاشف عن قوة ايمانهم وانهم ممن امتحن الله قلوبهم للتقوى ورابعاً: أنّ الصبر في مثل هذا «المقام» والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo