< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

44/10/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين أمنوا /تفسير الآيات 27-29 سورة النور

قال الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى‌ أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى‌ لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ﴾ [1]

قال في المجمع: (الإستيناس طلب الأنس بالعلم أو غيره تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا ومنه قوله: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً﴾ أي علمتم)[2]

وقال في الميزان: (الأنس بالشيء وإليه الألفة وسكون القلب إليه، والاستيناس طلب ذلك بفعل يؤدي إليه كالاستئناس لدخول بيت بذكر الله والتنحنح ونحو ذلك ليتنبه صاحب البيت أن هناك من يريد الدخول عليه فيستعد لذلك فربما كان في حال لا يحب أن يراه عليها أحد أو يطلع عليها مطلع).[3]

أقول: الاستئناس له معنى واضحاً ولكن المصاديق يعود الى ظروف السائدة على البيت فقد يكون التنحنح موجبا لمزيد الخوف إذا لم يكن الصوت مأنوسا لصاحب البيت فقد يتطلب الإستيناس ممن يريد الدخول الى بيت التعريف الكامل بنفسه.

كان في القديم عند ما يدخل عليهم شخص غريب يعرضون عليه الطعام فان اكل يأنسون به والا يشعرون بالخوف وانه دخل ليعتدي عليهم وقد قص الله تعالى قصة دخول الملائكة الى إبراهيم عليه السلام فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى‌ قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ ﴿فَلَمَّا رَأى‌ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‌ قَوْمِ لُوطٍ﴾ [4] ثم به آيات عديدة قال: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى‌ يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾[5]

وهكذا جاء في سورة الذاريات: ﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ﴾ ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ ﴿فَراغَ إِلى‌ أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ﴾ ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾[6]

فما ذكره المفسرون مصاديق للاستئناس، فما (قيل إن فيه تقديما وتأخيرا تقديره حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا وتستأذنوا فإن أذن لكم فادخلوا) وكذلك ما (قيل معناه حتى تستأنسوا بأن تسلموا)[7]

لا وجه له بل هو ابعاد عما أراده الله تعالى من المعنى، من ان عليكم أولاً ان تُطمئِنوا صاحب البيت ثم تدخلوا اليه بسلام.

ورد في تفسيرنور الثقلين: (فِي كِتَابِ مَعَانِي الْأَخْبَارِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ مَرْفُوعاً عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى‌ أَهْلِها﴾ قَالَ الِاسْتِينَاسُ وَقْعُ النَّعْلِ وَالتَّسْلِيمُ)[8] .

وفي المجمع: (عن‌ أبي أيوب الأنصاري قال: "قلنا يا رسول الله ما الإستيناس قال يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح على أهل البيت"‌ وعن سهل بن سعد قال: "أطلع رجل في حجرة من حجر رسول الله فقال رسول الله ص ومعه مدرى يحك به رأسه لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك إنما الإستيذان من النظر و روي أن رجلا قال للنبي ص أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، قال: أنها ليس لها خادم غيري أ فاستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها") [9]

وفي قوله تعالى: ﴿وَتُسَلِّمُوا عَلى‌ أَهْلِها﴾ قد روي أن رجلا استأذن على رسول الله ص فتنحنح فقال رسول الله ص لامرأة يقال لها روضة قومي إلى هذا فعلميه وقولي له قل السلام عليكم أ أدخل فسمعها الرجل فقالها فقال أدخل‌)[10]

فهذه الآية المباركة تدعونا الى ان لا ندخل غير بيوتنا الا برضاهم ورحابة صدرهم وعند الدخول ان نسلم عليهم رمزا للسلام والخير والنصح لهم.

فبيّنت هذه الآيات جانبا من أدب المعاشرة، والتعاليم الإسلامية الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامّة حول كيفية الدخول إلى بيوت الناس، وكيفية الاستئذان بالدخول إليها ولو قد يطرء بالبال هذه المسألة ليس لها أهمية كي يتعرض لها القرآن ولكن الواقع ان ذكر هذه المسألة رمز على اهتمام الإسلام بحقوق أحاد الناس مما قد يغفل عنها الانسان وقد تترتب عليها مشاكل ومفاسد تؤدي الى إراقة الدماء ونشر الفوضى في المجتم

والذي يلفت النظر ان مادة "الإستأناس" مشتقّة من «أنس» أي الاستئذان المرافق للمحبّة واللطف والمعرفة والإخلاص، وتبيّن كيف يجب أن يكون الاستئذان برفق وأدب وصداقة، بعيدا عن أي حدّة وسوء خلق واستيلاء.

وممّا يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة، مرافقته لجملتين أولاها: ﴿ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وثانيها: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

ثم جاءت في الآية التالية: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾. فمن احتاج ان يدخل في بيت شخص آخر لابد قبل الدخول ان يستأذن منه ثمّ تضيف الآية ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى‌ لَكُمْ﴾ إشارة إلى أنّه لا ينبغي على من لم يأذن له بالدخول ان ينزعج من صاحب البيت، فلعلّه في وضع غير مريح، أو أن منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف.

ثم في مختتم الآية قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.ولعله ورد هذا الكبرى للتحذير عمن يدفعه حبّ الاستطلاع حين رفض استقباله صاحب البيت على استراق السمع، أو التجسس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم.

ثم تلى هذه الآيات قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ﴾.

ورد في المجمع في المراد من البيوت غير المسكونة وجوه فقال: (قيل في معنى هذه البيوت أقوال (أحدها) أنها الحانات والحمامات والأرحية عن الصادق (ع) وعن محمد بن الحنفية و قتادة و يكون معنى متاع لكم أي استمتاع لكم.

(الثاني) إنها الخرابات المعطلة ويدخلها الإنسان لقضاء الحاجة عن عطا.

(والثالث) أنها الحوانيت وبيوت التجار التي فيها أمتعة الناس عن ابن زيد قال الشعبي وإذنهم أنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس علموا.

(والرابع) أنها مناخات الناس في أسفارهم يرتفقون بها عن مجاهد والأولى حمله على الجميع)[11]

ونعم ما ال فان الآية مطلقة تشمل جميع مصاديقها.

ثم في الأخير قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ﴾ لعل أشار الى نيات الناس في الدخول من النيات السيئة والنيات الحسنة. فلا ينبغي استغلال الفرص لأعمال الشر وسلب حقوق الآخرين.

ونحن نختم بحثنا في هذه الآيات المباركات بحديث عن الامام الباقر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه الانصاري: قال: "خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يريد فاطمة عليها السّلام وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت: فاطمة عليها السّلام: عليك السّلام يا رسول اللّه، قال: أدخل؟ قالت: ادخل يا رسول اللّه، قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: أدخل ومن معي؟ قالت: يا رسول اللّه ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت، ثمّ قال: السّلام عليكم، فقالت: وعليك السّلام يا رسول اللّه، قال أدخل؟ قالت: نعم يا رسول اللّه، قال أنا و من معي؟ قالت: و من معك، قال جابر: فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخلت"[12]

وما ورد عن الصادق عليه السّلام حيث قال: «الاستيذان ثلاثة: أوّلهنّ يسمعون، والثّانية يحذرون، والثّالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن».[13]


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo