< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

44/09/14

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآيات 34-35 من سورة البراءة

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ ﴿يَوْمَ يُحْمى‌ عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‌ بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾[1]

في الفاصل بين الآية التي تحدثنا عنها في الليلة الماضية وهي من سورة التوبة 28 وهذه الآية التي طرحناها الليلة ذكر بعض مساوي اهل الكتاب وانحرافاتهم: من عدم ايمانهم بالله واليوم الآخر وعدم التزامهم بترك المحرمات وعدم تديّنهم . وَما قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، واتَّخَاذُهم أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وسعيهم في إطْفاِء نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ.

ثم هنا خاطب الله المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ﴾

قال في الأمثل: (الطريف هنا أنّنا نواجه الأسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة أخرى من آياته، فالآية هنا لم تقل: إنّ الأحبار و الرهبان جميعهم ليأكلون، بل قالت: إِنَّ كَثِيراً فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم، و هذا النوع من الدقة ملحوظ في سائر آيات القرآن، و قد أشرنا الى ذلك سابقاً).[2]

يلحظ في قوله بان الكثير ليس بمعنى الأكثر حتي يكون الباقي هم الأقل بل الكثير في كل شيء يصدق اذا تجاوز عن المعتاد المتوقع مثلا اذا كان في حوزة النخف خمسين من الطلاب دخلوا الى بعض مذاهب الفاسدة يصدق انه كثي من الطلاب مالوا الانحراف الفكرى، او اذا اشتريت صندوق من البرتقال فوجدت فيه عشرة فاسدة يصدق ان كثير منها متعفنة وقس على هذا اذا كان في الرهبان ثلاثين بالمأة ارتكبوا بعض الفواحش فيقال للأسف كثير من الرهبان ابتلوا بفساد الاخلاق. نعم لو كان الأكثر يصدق الكثير أيضا ولكن كلمة كثير لا تلازم الأكثرية.

لهم طرق مختلفة وفرص معينة لأخذ أموال الناس دون مسوّغ أو مجوّز، أو كما عبّر القرآن «بالباطل» نذكر بعضها:

منها: كتمان حقائق من التعاليم التي جاء بها موسى عليه السّلام في توراة و عيسى عليه السّلام في إنجيله، لئلا يميل الناس الى الدين الجديد، «الدين الإسلامي» فتنقطع هداياهم و تغدو منافعهم في خطر وقد ورد في القرآن نماذج منها. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ﴿أُولٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾[3]

الثّاني: أخذهم «الرّشوة» لقلب الحق باطلا و الباطل حقّا، لصالح الأقوياء، كما أشارت الى ذلك في الآية ( ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ ﴿وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[4]

الثالث: الكذب على الله في سبيل إرضاء البعض للحصول على بعض الأموال، قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾[5]

الرابع: من أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال ان من ارتكب ذنباً يأتي الى القسيس في الكنيسة ويعترف عنده بما فعل، فيغفر له القسيس ذنبه في مقابل مبلغ معين يدفع اليه هو ما يسمّى ب «صكوك الغفران» فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس.

الخامس من اساليبهم لكسب المال: بيع عقارات في الجنّة بمبالغ من المال و إعطاء اسنادها الى دافع المال. وهذه الامور الخرافية اثارت ضجّة ونقاشات و جدالا أحيانا مثبتا في تأريخ المسيحيّة!.

كما اننا نرى مثلها في بعض المذاهب الباطنية من المسلمين ان لهم على مدار السنة أعياد يحضرون عند شيخهم ويقدمون اليه الهدايا يسمونها زكاتاً. كما ان الاستماعيلين الآقا خانية يدفعون الى آقاخان في كل سنة على وزنه ذهب. وهو اصبح من اثرى الناس.

وأمّا قوله تعالى ﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فصدّهم عن سبيل اللّه أمر واضح، لأنّهم كانوا يحرفون آيات اللّه، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصّة، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفا لمقامهم ومنافعهم، ويحاكمونه- في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ وجه، ويصدرون عليه أحكاما جائرة قاسية جدّا.

ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يُقْدموا على صدّ أتباعهم عن سبيل اللّه، لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإسلام لما يرون ان الإسلام هو ليس انكار المسيح عليه السلام او موسى عليه السلام بل هو جامع لجميع الأنبياء واتباع لهم، وما يرون من الكماليات في شريعة الإسلام، ولكن للأسف ما زالت الكنيسة تبذل قصارى وسعها- ولا يقصّر في ذلك اليهود أيضا- لعدم تأثر عامّة الناس عن الآيات والقيم الإسلامية، وتشويه سمعة الإسلام والمسلمين، لان لا يميل الناس اليه وثلهم اليهود بينما هم لا يستقبلون عن الناس للالتحاق بديانة اليهودية ولكن محاربتهم للاسلام لا يقل عن الكنيسا المسيحية وقد وجه اليهود تهما كثيرة عجيبة إلى النّبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

وما ترى في هذا العصر من احراق المصاحف بصورة رسمية لانهم يرون ان قداسة القران يجذب كثيرا من الناس الى الإسلام فيريدون بذالك يكسروا هيبة القران في النفوس.

وقد ذكر الله تعالى بعض اوصافهم في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هٰذَا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[6] ﴿‌سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[7] ﴿وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مَا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾[8] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[9]

هذه الآيات المباركات تشتمل الى عدد من الانحرافات الأساسية التي تسربت الى مؤسسة الدينية لاهل الكتاب.

الى هنا اكملنا بحثنا في قسم الأول من الآية الكريمة وسوف نكمل بحثنا غداً ان شاء الله في القسم الأخير منها.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo