< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

44/09/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /الآيات 33-34من سورة التوبة

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ﴿قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾[1]

قد تناولنا الآية الأولى أعلاه بالبحث في اليوم الماضي وهي كانت في مقام نهي المسلمين عن موالاة الكفار واليوم نريد ان تبحث في الآية الثانية وهي في مقام ضرورة إعطاء الأولية بالله ورسوله وجهاد في سبيلة في مقام المحبة والطاعة على كل ما يتعلق بنا من دون استثناء.

هنا نقطة ينبغي الالتفات اليها وهي: ان الله تعالى في الآية الأولى خاطب المؤمنين مباشرة وفي الثانية عدل عن المؤمنين الى رسول الله في الخطاب فقال: ﴿قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ﴾ الوجه الذي يبادر الى الذهن ان الله غالبا لا يخاطب اهل الضلال والكفار لان في الخطاب تشريفا لهم، فيجعل الرسول وسيطا في ابلاغ كلامه إليهم، وهنا أيضا يريد ان يخاطب هؤلاء الذين قد تكون قلوبهم مائلة إلى غير الله من الأمور المادية الدنيوية وقد لا ينفعهم النهي عن تولي آبائهم وإخوانهم الكافرين، فاراد عن يبعث في نفوسهم الداعي إلى الصدور عن أمر الله ورسوله، وقتال الكافرين جهادا في سبيل الله و إن كانوا آباءهم و إخوانهم. فشرط عليهم ان يفوّقوا حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على تلك التي تتعلق بدنياهم، فذكر ما لها علاقة القرابة في النسب او السبب وهي الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة ثم ذكر الأشياء التي قد تتعلقون بها نفسياً و هي الأموال التي اقتنؤوها و جمعوها، والتجارة التي يخشون كسادها و المساكن التي يرضونها- و أصول ما يشغل الانسان عن ربه الأقارب النسبي والسببي والأموال والعناوين، فامر النبي ان يقول لهم: ﴿إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها﴾ وهی کل ما یتعلق بها اصحاب الدنیا ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾

فإذا كانت هذه الأمور الثمانية- المذكورة في هذه الآية أغلى وأعزّ وأحب عند الإنسان من اللّه ورسوله، والجهاد في سبيله و امتثال أوامره، حتى أن الإنسان لا يكون مستعدا بالتضحية بتلك الأمور الثمانية من أجل اللّه و الرّسول و الجهاد، فيتّضح أن إيمانه لم يكتمل بعد! فحقيقة الإيمان وروحه و جوهره، كل ذلك يتجلّى بالتضحية بمثل هذه الأمور من دون ترديد.

أضف إلى ذلك، فإن من لم يكن مستعدا للتضحية بمثل تلك الأمور، فقد ظلم‌ نفسه و مجتمعه في الواقع، كما أنّه سيقع في ما كان يخاف من الوقوع فيه لأنّ الأمّة التي تتلكأ في اللحظات الحساسة من تأريخها المصيري، و في المآزق الحاسمة، فلا يضحي أبناؤها بمثل ذلك، فستواجه الهزيمة عاجلا أو آجلا، و سيتعرض كلّ ما تعلقت القلوب به فلم تجاهد من أجله الى خطر الضياع و التلف بيد الأعداء.

لا يخفى ان ما قرأناه في الآيتين- لم ینه عن اصل الحب بل المنهی رجحان حبها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فمحل البحث- ليس مفاده قطع علائق المحبة بالأرحام، وإهمال رؤوس الأموال الاقتصادية، و الانسياق إلى تجاوز العواطف الإنسانية و إلغائها، بل المراد من ذلك أنّه ينبغي أن لا ننحرف عند مفترق الطرق إلى الأموال و الأزواج و الأولاد و الدور و المقام الدنيوي، بحيث لا نطبّق في تلك الحالة حكم اللّه، أو لا نرغب في الجهاد، و يحول عشقنا المادي دون تحقيق الهدف المقدس.

فلا تنافي بين الأخذ بهذه النعم الالهيّة و طاعة الله ورسوله والمشاركة في الجهاد ولكن في حالات تزاحم احدهما مع الآخر لابد من تقديم جانب الله كما في طريق الحصول الى المال او الإحسان عليه ان لا يتجاور خط الأحمر للمحرمات فالعلاقة باللّه والرسول والتضحية في طريق الحق محطة الأولى وما يتعلق بالمعاش الدنيوي هي المحطة الثانية».

والوالدين لهما مكانة عالية ولكن الله يقول لنا في سورة لقمان: ﴿وَإِنْ جاهَداكَ عَلى‌ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً﴾ فنهانا عن طاعتهما في قبول الشرك وامرنا بحسن المعاشرة معهما.

ثم قوله تعالى: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ تهديد من قبل اللّه لأولئك الذين يقدّمون منافعهم المادية و يفضلونها على رضا اللّه، ولما كان هذا التهديد جاء بالفاظ مجملة كان أثره أشدّ وحشة وإشفاقا، وهذا التعبير يشبه قول من يكلم صاحبه الذي دونه و تحت أمره، فيقول له: إذا لم تفعل ما أمرتك، فسأقوم بما ينبغي، او اَعرفُ ما ذا افعل بك. وهناك احتمال آخر وهو أنّ اللّه سبحانه يقول: إذا لم تكونوا مستعدين للتضحية، فإنّ اللّه يفتح طريقاً آخراً لنبيّه. وكيف شاء، إذ ليس ذلك بعسير عليه. و نظير هذا المعنى قول الله تعالى من سورة المائدة، ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ﴾[2]

والاحتمال الآخر ان المراد من امر الله موتهم او يوم الحشر والحساب او عند قيام القيامة.

ثم ما يظهر من بعض المفسرين اعتبروا هذه الآيات من القضايا الخارجية مما تتعلق بما وقع عصر النبي صلوات الله عليه فيخص بصدر الإسلام و التاريخ الماضي، بينما لا وجه لهذا التخصيص ما دام اللفظ مطلق لا قيد فيه للزمان او مكان فالآيتان كبريان تستوعبان ماضي المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم أيضا.

ففي كل عصر قدّم المسلمين منافعهم الدنيوية على المصالح العامة ومافيه رضى الله وعزة للمسلين يخسرون دنياهم وآخرتهم.

والله يقارن بين الدنيا واآخرة و يقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾

و ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذّات، فقيل: يا رسول اللّه، وما هادم اللذّات ؟ قال صلى الله عليه وآله: الموت، فإنّ أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم للموت استعداداً" وعن علی علیه السلام: "وَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَ الْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَ الْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَ الْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ‌" هذه العبارة مع قصرها لطيف وكثير المعنى

(200) و من كلام له عليه السلام بالبصرة ‌وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال: ﴿"مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ‌ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ‌" [3]

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع فِيمَا كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مِصْرَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْر:ٍ" وَاعْلَمُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ حَازُوا عَاجِلَ الْخَيْرِ وَآجِلَهُ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الْآخِرَةِ فِي آخِرَتِهِمْ أَبَاحَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مَا كَفَاهُمْ بِهِ وَ أَغْنَاهُمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ اسْمُهُ ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّٰهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ الطَّيِّبٰاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ الْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ شَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ فَأَكَلُوا مَعَهُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا يَأْكُلُونَ وَ شَرِبُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا يَشْرَبُونَ وَ لَبِسُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَلْبَسُونَ وَ سَكَنُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَسْكُنُونَ وَ تَزَوَّجُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَتَزَوَّجُونَ وَ رَكِبُوا مِنْ أَفْضَلِ مَا يَرْكَبُونَ أَصَابُوا لَذَّةَ الدُّنْيَا مَعَ أَهْلِ الدُّنْيَا وَ هُمْ غَداً جِيرَانُ اللَّهِ يَتَمَنَّوْنَ عَلَيْهِ فَيُعْطِيهِمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اللَّذَّةِ فَإِلَى هَذَا يَا عِبَادَ اللَّهِ يَشْتَاقُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقْلٌ وَيَعْمَلُ لَهُ تَقْوَى اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" [4]

فيستفاد من النصوص الشرعية الإسلام لا يريد من المسلمين ان يعيشوا في تقشف وفقر واحل لهم الطيبات وانما حرم عليهم الخبائث وقال تعالى: ﴿قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون﴾[5]

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo