< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

44/09/08

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآية 29 من سورة الانفال

 

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[1]

قال في الميزان: (الفرقان ما يفرق به بين الشي‌ء والشي‌ء، وهو في الآية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحق والباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الإيمان والكفر وكل هدى وضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكل ما يرضي الله أو يسخطه، أو في الرأي والنظر بالفصل بين الصواب والخطأ فإن ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، وقد أطلق الفرقان في الآية ولم يقيده، قد عدّ جمل الخير والشر في الآيات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان.

ونظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ وقد تقدم الكلام في معنى تكفير السيئات والمغفرة، والآية بمنزلة تلخيص الكلام في الأوامر والنواهي التي تتضمنها الآيات السابقة أي إن تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضي الله في جميع ما تقدم بما يسخطه ﴿ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم)[2]

ان مفردة «فرقان» صيغة المبالغة من مادة (فرق) فالفرقان هو الفارق بين الحق والباطل في كل شيء.

وبما ان مصير حياة البشر مشحون بالشبهات والامور المعقدة مضافاً الى التسويلات الشيطانية والشهوات المغرية مضافاً الى كثير من الابهامات في طريق الانسان يحتاج الى ما يدله على الأصح والتقوى لها اثر بليغ للخروج عن المضائق والإبهامات كما هي داعمة لمقاومة العقل والقلب امام تحديات شياطين الجن والانس و امام اعدى عدونا وهي نفسنا التي بين جنبينا، وأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل، معرفة الحسن والقبيح، معرفة الصديق و العدو، معرفة الفوائد و الأضرار، معرفة عوامل السعادة و الضياع، الأمور التي تحتاج إلى البصر والبصيرة.

وهذه الآية المباركة تدلنا على طريقة الوصول الى البصيرة بعرض التقوى امامنا.

اما كيف تتحقق البصيرة من خلال التقوى فلتبيين المسألة نحتاج الى مقدمات:

الاولى: إنّ الله زوّدنا بقوة العقل الذي هو قادر على إدراك الحقائق في نفسه، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد، والحبّ المفرط للمال و الأزواج والأولاد و الجاه و المنصب كل ذلك يغشي عقولنا كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق، وهنا لا يمكن للإنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود، عند ذلك تسهل عليه رؤية نور الحق.

الثانية: أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق، وكلّما اقترب الإنسان من اللّه فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى، وكلّما تقدّم الإنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من اللّه، تنكشف حقائق امامه وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.

وبعبارة أخرى فإنّ قلب الإنسان كالمرآة، ووجود اللّه وهو نور السماوات والأرض كالشمس الساطعة على الوجود، فإذا تلوثت مرآة قلبه بالأهواء حتى اسودت، فسوف لا تعكس‌ النور، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان.

ولذلك قد ظهر في كل عصر رجال و نساء ادبوا انفسهم على التقوى الى درجة كشفت عندهم كثير من الحقائق مما لا يمكن كشفها بالتعلم والمعارف المتعارفة أبدا، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية، و يرون وجود أعداء الحق و إن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.

وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع، وردت الإشارة اليها في آيات من القران الحكيم، قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [3]

وقال ايضا: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُبِينٌ﴾ ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [4]

وورد في حديث: «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور اللّه».

وفي نهج البلاغة عن علي عليه السلام: «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع»[5] .

ثالثا: بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضا، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإعلام فيها تطبل لذلك الميسر، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والانحراف وخدمة الفساد، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل فإنّ عائلة غير متقيّة، و صغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الردي‌ء، وإهدار القوى و الطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة و المعرفة و انحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة و الحياة المادية.

ولذلك نرى في البلاد التي تدعى الى الإباحية و المثلية و شرب الخمور والمسكرات والفساد عقولهم ضعيفة ومشاكلهم الاسرية والاجتماعية تحوط بهم ولا يستطيعون ان يأمِّنوا لأنفسهم حياة سعيدة فيعيشون في نوع من‌ العمى و سوء المعرفة، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّا في العلم والصناعة، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الاستغراب والتعجب، و هنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم.

ونظرا إلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الانضباط في التفكير، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين، وألا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة.

والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لا يتقي اللّه في استدلالاته وأسلوب تفكيره.

وهناك أمر آخر يجب الانتباه إليه، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شي‌ء نجسا ومشكوكا فيه، وينزوي جانبا متجنبا الخوض في الأمور الاجتماعية، ويسكت أمام كل واقعة، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإسلامية، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقانا بين الحق والباطل.

وعلى كل حال، وبعد أن اتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الأربعة لها.

يقول القرآن الكريم: إنّه إضافة إلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم ﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ﴾.

مضافا إلى ذلك، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وثمار كثيرة أخرى تنتظركم لا يعلمها إلّا اللّه: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى اللّه تبارك وتعالى، لأنّنا وكما قلنا مرارا في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة اللّه وقدرته، فيمكن نسبة تلك الآثار إلى اللّه عزّ وجلّ، وإلى ذلك الموجود أيضا.

وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأولى إشارة إلى الحجب من الدنيا، والثّانية إلى النجاة من الجزاء الأخروي، ويرد احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى، ولكن (الغفران) إشارة إلى مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء ومحو اثار الذنوب عن صحيفة المؤمن و علم الملائكة وفي الأخير نأتي بسطور من حديث عنوان البصري مع امام الصادق لتناسبها لبحثنا حتى تكون مسك الختام:

حديثه مفصل ينبغي للراغبين ان يراجعوا الى متنها الكامل فان فيها فوائد كثيرة اما القسم الذي اخترنا لكم فهو (قال الصادق عليه السلام لعنوان البصري:

"يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَيْسَ الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْعِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلًا فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ، وَاطْلُبِ الْعِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَ اسْتَفْهِمِ اللَّهَ يُفْهِمْكَ".

قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ؟

قَالَ: "ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَنْ لَا يَرَى الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ مِلْكاً، لِأَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ، يَرَوْنَ الْمَالَ مَالَ اللَّهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَ لَا يُدَبِّرُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً وَ جُمْلَةُ اشْتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ تَعَالَى بِهِ وَ نَهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَرَ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِلْكاً هَانَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ، وَ إِذَا فَوَّضَ الْعَبْدُ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ عَلَى مُدَبِّرِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَ إِذَا اشْتَغَلَ الْعَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَ نَهَاهُ لَا يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إِلَى الْمِرَاءِ وَ الْمُبَاهَاةِ مَعَ النَّاسِ، فَإِذَا أَكْرَمَ اللَّهُ الْعَبْدَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ هَانَ‌ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَ إِبْلِيسُ وَ الْخَلْقُ، وَ لَا يَطْلُبُ الدُّنْيَا تَكَاثُراً وَ تَفَاخُراً، وَ لَا يَطْلُبُ مَا عِنْدَ النَّاسِ عِزّاً وَ عُلُوّاً، وَ لَا يَدَعُ أَيَّامَهُ بَاطِلًا، فَهَذَا أَوَّلُ دَرَجَةِ التُّقَى، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى‌: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾‌.[6]


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo