< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

44/09/07

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآيات 27-28من سورة الانفال

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[1] ﴿وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾[2]

ان "تخونوا" الأول في الآية مجزوم بلاء الناهية بلا كلام وانما الخلاف في "تخونوا" الثانية فقيل عطف على الأول فلا مقدّر فيه بالعطف وقيل مجزوم بالنصب فهو صلة لأنْ المقدر أي لا تخونوا الله وان تخونوا اماناتكم فان كان الاول فمعناه لا تخونوا الله ولا تخونوا اماناتكم وان كان الثاني فمعناه لا تخونوا الله بخيانتكم لأماناتكم.

(الخيانة) في الأصل معناها: الامتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالبا، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة، ولذلك‌ جاء في الأحاديث: «المجالس بالأمانة».

كما ان عنوان الخيانة متوقف على العلم بان العمل الذي يريد اتيانه ليس بحق، فمن لم يعلم وخالف في أداء الأمانة لا يُعدّ خائناً

ورد في المجمع في شأن نزول الآية: (قال عطا: سمعت جابر بن عبد الله يقول أنّ أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرائيل (ع) النبي ص فقال أن أبا سفيان في مكان كذا و كذا فاخرجوا إليه و اكتموا قال فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله هذه الآية.

وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبي ص فيفشونه حتى يبلغ المشركين.

وقال الكلبي والزهري: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري وذلك أن رسول الله ص حاصر يهود قريظة إحدى و عشرين ليلة فسألوا رسول الله ص الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله ص إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله وولده كانت عندهم، فبعثه رسول الله ص‌ فأتاهم فقالوا" ما ترى يا أبا لبابة أتنزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا، فأتاه جبرائيل (ع) فأخبره بذلك قال: أبو لبابة فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله و رسوله فنزلت الآية فيه، فلما نزلت شدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً و لا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال: لا والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله ص هو الذي يحلّني، فجاءه فحلّه بيده، ثم قال أبو لبابة أن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وإن انخلع من مالي، فقال النبي ص: "يجزئك الثلث أن تصدّق به، وهو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع).[3]

في حديث آخر: «إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة.[4]

لابد ان نعلم كل ما عندنا امانة الله لدينا لأنّها ملك لله حتى جوارحنا بل جوانحنا ايضاً، فيجب علينا ان نصرفها فيما فيه رضا صاحبها والا خنّاه، ومن الأمانات ما تركه رسول الله فينا وهو الثقلان قال صلوات الله عليه: "اني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا". وكل معصية منا خيانة في عهد الذي عهدنا الله به ققال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ﴾[5] ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[6] فأفررنا في فطرتنا بانه تعالى ربنا أي هو صاحبنا ومدبّرنا وجميع امورنا بيده تكوينا وتشريعا فاي مخالفة صدرت منا وهي خيانة لذاك العهد.

فما قال بعضهم: إنّ أمانة اللّه هي أوامره، وأمانة النّبي صلّى اللّه عليه وآله سنته، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم، هو ذكر للمصداق فالأمانة في الآية- آنفا- تشتمل على كل الاشياء. والخيانة ضد الأمانة وهي من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب. فإنّ من يخون الأمانة وهو ملتفت الى ذلك منافق في الحقيقة، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.:

8 - الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابنا، عن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاث من كن فيه كان منافقا وان صام وصلى وزعم أنه مسلم، من إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، إن الله عز وجل قال في كتابه: " ان الله لا يحب الخائنين الحديث".[7]

كما انه وجب الوفاء بالأمانة وان كان صاحبها مشرك فلا تجوز خيانة أمانته.

واما قوله تعالى ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ليس قيدا احترازيا بل هو قيد لتحقق الموضوع فاذا صدر منكم على نحو الخطأ ليس فعلكم خيانة، نعم قد يكون النسان يعرف الحق عن الباطل ولكن الشهوة وحب المال او حب الاهل يبعثه الى الخيانة كما حصل لابي لبابة ولكنه سريعا ارتدع وندم وتاب الى الله فاستطاع أخيرا ان يتغلب على هواه ويفك نفسه ان شرك الشيطان.

وبما ان اقوى مذلات الفتن المال والبنون كما ورد في حديث مفصل اذكره بتفصيلة حرصا على ما يحتوي من الحكم فيه واليك نصه: " كليني يري بسنده عن الزُّهْرِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ع أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَقَالَ مَا مِنْ عَمَلٍ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ جَلَّ وَ عَزَّ وَ مَعْرِفَةِ رَسُولِهِ ص أَفْضَلَ مِنْ بُغْضِ الدُّنْيَا وَ إِنَّ لِذَلِكَ لَشُعَباً كَثِيرَةً وَ لِلْمَعَاصِي شُعَباً فَأَوَّلُ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ الْكِبْرُ وَ هِيَ مَعْصِيَةُ إِبْلِيسَ حِينَ أَبىٰ وَ اسْتَكْبَرَ وَ كٰانَ مِنَ الْكٰافِرِينَ وَ الْحِرْصُ وَ هِيَ‌ ‌مَعْصِيَةُ آدَمَ وَ حَوَّاءَ حِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُمَا- فَكُلٰا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لٰا تَقْرَبٰا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ الظّٰالِمِينَ فَأَخَذَا مَا لَا حَاجَةَ بِهِمَا إِلَيْهِ فَدَخَلَ ذَلِكَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَطْلُبُ ابْنُ آدَمَ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ ثُمَّ الْحَسَدُ وَ هِيَ مَعْصِيَةُ ابْنِ آدَمَ حَيْثُ حَسَدَ أَخَاهُ فَقَتَلَهُ فَتَشَعَّبَ مِنْ ذَلِكَ حُبُّ النِّسَاءِ وَ حُبُّ الدُّنْيَا وَ حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَ حُبُّ الرَّاحَةِ وَ حُبُّ الْكَلَامِ وَ حُبُّ الْعُلُوِّ وَ الثَّرْوَةِ فَصِرْنَ سَبْعَ خِصَالٍ فَاجْتَمَعْنَ كُلُّهُنَّ فِي حُبِّ الدُّنْيَا فَقَالَ الْأَنْبِيَاءُ وَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالدُّنْيَا دُنْيَاءَانِ دُنْيَا بَلَاغٌ وَ دُنْيَا مَلْعُونَةٌ" [8]

والله تعالى في الآية الثانية من هذا المقطع المبحوث عنها من سورة انفال قال:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ فكثير من الشخصيات عند ما رؤوا مالاً موفوراً نسوا الله والوجدان واقدموا الى خيانات قبيحة كما ان احد وكلاء الامام الكاظم عليه السلام كان عنده أموال كثيرة من الحقوق الشرعية، فلما استشهد الامام انكر امامة الامام الرضا عليه السلام ليمتلك تلك الأموال فباع اخرته بمال الدنيا الزهيدة. وكم لها نظير في كل عصر وصقع.

فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه، والمحافظة عليه وميزان التعلق به، كل تلك ميادين فتنة للمؤمن، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية، تراهم ينسون كل شي‌ء.

أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإنسان وبراعم حياته المتفتحة، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإنسانية، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم، فكأنّ ستارا يلقى على‌ أفكارهم فينسون كل الأمور، ويصير حبّهم لأبنائهم سببا ليحلّوا الحرام و يحرموا الحلال، كما ان زبير كان انسانا صالحا ولكن عند ما كبر ابنه عبد الله انحرف عن الحق وشارك في قتال امير المؤمنين عليه السلام مع أصحاب الجمل.

فيجب علينا الاعتصام باللّه العظيم في هذين الميدانين الخطيرين للامتحان، وأن نحذر بشدّة، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبدا بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوما، فيجب علينا الإسراع في تصحيح المسير ك (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الانحراف، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل اللّه حتى نفك أنفسنا منها.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصرا، في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.﴾ وهنا نكتفي في الوقوف عن هذا المقطع ومعكم في الليلة الآتية البحث في المقطع التي تليها ان شاء الله.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo