< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

44/09/02

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين لآمنوا /الايات 20-23من سورة الانفال

بعد تقديم التهاني بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك قال سماحته باننا ما دام نريد اختيار بحث تفسيري في هذه الامسيات الرمضانية ونحن في شهر نزول القرآن فارتأينا ان نختار تداوم بحثنا في يوم الأربعاء من كل أسبوع على مدار السنة حول الآيات المصدرة بيا أيها الذين آمنوا لشهر رمضان المبارك أيضا لنتقدم في هذا السفر العلمي ونحن فرغنا من آيات 17 من سورة الانفال ونحن معكم في المقطع الاُخرى من هذه السورة المباركة وهي اكثر سور القرآن ذكراً للخطاب الى المؤمنين بقوله: "يا أيها الذين آمنوا" وهي قوله تعالى:

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾[1] ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾[2] ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾[3] ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ﴾[4] .

هذه الآيات المباركات جائت تلو الآيات التي دعت الى القتال و نهت عن الفرار من الزحف وبيّن عناية الله على المؤمنين في نصرتهم وكذلك كونه موهن كيد الكافرين، جائت لتؤكّد على المسلمين وجوب الطاعة المطلقة لأوامر رّسول اللّه صلى الله عليه وآله فتشمل الطاعة في حالة السلم أو الحرب في جميع الامور، فبدأ بقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ﴾. فضم طاعة الرسول الى طاعة الله لان بعض التاس ضعاف الايمان يؤمنون بالله ولكن في مقام العمل لا يستسلمون لرسوله ولذا اكّد مرّة ثانية على وجوب طاعة الرسول بالنهي عن نقيضه فقال: ﴿وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾.

نعم يجب طاعة الله ورسوله على كل البشر ولكن خطاب المشرك لا فائدة فيه لان المرتبة الأولى هو الإقرار والايمان بالله ولهذا وجه الخطاب الى المؤمنين.

ثم قال في الآية التي تليها: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾. ففيها استعمل مادة السماع بمعنيين ففي "سمعنا" أراد ان يقول اعترَفوا بوصول الامر اليهم أي علمنا ويمكن ان يكون المراد تعهدهم على الطاعة. ثم في قوله و"هم لا يسمعون" أي لا يطيعون فانه كثيراً ما، يستعمل عدم السماع في عدم الاطاعة اي لا يتأثرون عن سماع الأوامر، و هم يدّعون الايمان و لكنّهم لا يطيعون أوامر النبي صلّى اللّه عليه و آله، فهؤلاء لهم آذان سامعة لكل الأحاديث و يعون مفاهيمها، و بما أنّهم لا يعملون بها و لا يطبقونها فكأنّهم صمّ لا يسمعون.

كما وصف الله الكفار في سورة البقرة بقوله: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلَى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾[5] وفي آية أخرى قال: ﴿مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون﴾[6] . ثم قال: ﴿صم بكم عمي فهم لا يرجعون﴾ [7]

وقد ذهب المفسرون في المراد من الآيات المبحوث عنها الى آراء عدّة منها: أن المراد في الآية: المنافقون الذين تربوا الى أوساط المسلمين فاحتلوا مواقع في صفوف المسلمين، و قال آخرون: إنّما تشير إلى طائفة من اليهود، و ذهب بعض بأنّهم المشركون من العرب. و لا مانع من انطباق الآية على هذه الطوائف الثلاث، بل الى المسلمين الذين لا يلتزمون بتعاليم الرسول في حياتهم اي كل ذي قول بلا عمل.

فهذه الآيات لابد ان تكون موجبة لتنبهنا ايضاً، فان مصاديقها حقائق تشكيكية ذو مراتب فهي أمراض سارية في المجتمعات الإسلامية ايضاً.

ثم لتؤكّد على هذه المسألة وبأسلوب آخر، قال في الآية الثالثة من هذا المقطع: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾.

الظاهر ان المراد من الدواب هي هؤلاء الذين لايسمعون الحق ولا ينطقون بالحق ولا يعقلون حقيقة الانسان وما يجب عليه وما يراد من خلقته، فشبّههم بالدواب في مقام التحقير والتشبيه كما ورد قريب بهذا المضمون في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[8] لام في قوله "لجهنم" لام النتيجة لا الغاية أي خلقناه ولكن نتيجة تركهم التعقل و البصيرة والاستماع أن صاروا كالأنعام بل اضلّ.

وقوله تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾[9]

أي خلافا لما يتوقع منهم من الاستماع والتعقل عاشوا عيشة الانعام همهم علفهم.

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ َمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَ النَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [10]

تشير الآية الى هؤلاء الذين لا يريدون من الحياة الا المأكل والملبس والمسكن وهم العلمانيون عقيدة او سلوكاً وفي هذا العصر ترى اخترعوا مدارس فلسفية انتسب اليها جمع غفير من الناس سيما في بلاد الغرب مبتنيا على الليبرالية فيرون السعادة في التنعم بنعم المادية والغاية القصوى من الحياة التقدم الاقتصادي والرفاهي ويعتبرون كل القيم الإنسانية حول تحقق هذا الهدف وكل الويلات التي تعود الألإنسان المعاصر ناشئة من هذه الرؤية الفاسدة وانكار المعنويات والمعاد والقيم الإنسانية فاوقعت المجتعات الإنسانية الى دوارة تشعر فيها بالخيبة والشقاء.

ثم في آخر آية من هذا المقطع قال: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [11]

و قد ورد في الرّوايات أنّ بعض عبدة الأصنام جاءوا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالوا: إذا أخرجت لنا جدنا الأكبر (قصي بن كلاب) حيّا من قبره، و شهد لك بالنبوة، فسوف نسلّم جميعا! فنزلت الآية لتقول: إنّه لو كان حديثهم صادقاً لفعل اللّه ذلك لهم بواسطة المعجزة، لكنّهم يكذبون و يأتون بأعذار واهية، بهدف التخلص من الإذعان لدعوة الحق. فعبر تعالى عن هذا المعنى بقوله: ﴿وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.

فهناك كثير من الناس سمعوا دعوة الحق، و بلغت آذانهم آيات القرآن، و فهموا مضامينها العالية، لكنّهم أنكروها بسبب عتوهم و عصبيّتهم، فهم غير مؤهلين للهداية لما اقترفت أيديهم، و لا شأن بعدئذ للّه و رسوله بهم، فهم في ظلام دامس و ضلال بهيم.

هنا لابأس ان نقف عند هذه الآية المباركة حيث استفادوا منها الجبر ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ تقريره ان لو امتناعية فنفى علم الله فيه خيراً واخبر ان اسماع الحق لهم لا يزيدهم الا العتو والاعراض فيستحيل هدايتهم و تحسين حالهم الى طاعة الله وطاعة رسوله:

ولكن الجواب عن هذه الشيهة ان العلم هو صورة المعلوم لا اثر له فالمعلوم إيجابا او نفياً:

وللتقريب الى الذهن نقول لوكنت عالما علما يقينيا بان فلان لو دعوته الى بيتك هو يختار جانب الأيمن من البيت و يختا نوعة المعينة من الطام لما جلبته سابقاً فهل علمك له اثر في ارادته؟ قطعا لا بل العلم تابع للمعلوم وليس المعلوم متاثر عن العلم فانت تعلم بانه باختياره وارادته يجلس كذا ويختار الطعان الفلاني من بين الأطعمة المعروض عليها.

كذلك ان الله يعلم كل فرد من افراد البشر سوف يختار بسوء ارادته الشر او بحسن ارادته الخير فعلمه تعالى تعلّق بفعل العبد الإرادي لا الإجباري فلو كان مجبورا تخلف علم الله عن معلومه فتدبر جيداّ.

و الله تعالى بين هذه الحقيقة فالحوار الحاصل بين اللائكة خزان النار والمعذبون فيها يوم القيامة فقال: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾[12] ﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَ قُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ﴾[13] ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[14] ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[15] .

فهذه الآيات المباركات تبيّن لنا بكل صراحة ومن دون غموض انهم يتحملون مسؤولية افعالهم. من تكذيب الأنبياء وانكار ما نزّل الله لهم وتركهم للاستماع والتعقل واعترفوا بهذا الذنب العظيم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo