< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

44/08/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآية 17 من سورة الانفال

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ﴾[1] ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‌ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [2] ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى‌ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [3]

قد انتهينا في المباحث السابقة عن الكلام عن الآيتين الأولى والثانية فوقها وبقي علينا ان نقف معكم عند الآية الثالثة حيث قال الله تعالى:

﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى‌ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

قبل الدخول في تفصيلات الآية المباركة نلفت انتباهكم إلى ان نعرف أنّ في عالم الكون لا يصدر شيء الا من علة، ولذا يقال: "الصدفة امر محال" فما نعتبره تصادفاً ليس في حقيقة الامر صدفة بل كل حادث مسبوق بعلله واسبابه ولكن نحن لا ندري بها فنتفاجئ

والعلل والأسباب على قسمين: قسم منها علاقتها بمعاليلها واضحة بينة، وقسم منها علاقتها بمعاليلها خفية، اما القسم الأول: من باب المثال: انسان يسقط من شهيق فيكسر بعض عظامه او الفلاح يهتم في زرعه في السقي واستعمال الأسمدة المناسبة والمبيدات فعند الحصاد يحصل على مال كثير، وبالعكس الذي أهمل زرعه فجف واخذه الآفات ولم يحصل على شيء. او الرجل لا يراعي برودة الجو في فصل الخريف فيمرض وينشل، ثم يأخذ الدواء و يحمي نفسه، فيشفى فعلّة المرض والشفاء امر بيّن، ومن هذا القسم بعض الأمراض التي لها علل مادية لم تعرف سابقاً و مع تطور العلم عرفوها، والمعالجات كذلك معالجات مادية من الأدوية المناسبة او الاعمال الجراحية فهي أيضا من القسم الأول التي وصل العلم الى تحليل عللها، ولهذا الامر امثلة كثيرة قابل للمحاسبة والتحليل.

والقسم الآخر: هي العلل الخفية لا ترى ولا تحاسب بالحسابات المادية كتأثير القيام بالليل في سعة الرزق او اثر بعض الادعية في رفع الحاجات و شفاء المرضى او تأثير الاستغفار في نزول المطر وتوسعة الرزق و تكثير النسل و ازدهار الزراعات والأشجار و توفير المياه الجارية.

وبالعكس ارتكاب بعض المعاصي يؤثر في الشقاء و قصر العمر والموت الفجأة، كما ان بعض حالات الكواكب والاجرام السماوية تؤثر في غلاء الأسعار او كثرة موت العلماء او اشعال نار الحرب وما شابهها من الأمور ألتي يخبر عنها علماء النجوم، ولو انّ كثير منها لا اصل لها، ولكن في الجملة تأثير النجوم في حياة من يعيش على بسيطة الأرض امر محتوم ولذلك يقال: وقوع القمر في بعض الأبراج لها آثار معينة من السعد و النح ولكن كيفية التأثر امر لا يُدرى.

وهنا نعود الى الآية الكريمة: من الموارد التي توجب نصرة الله هو ميدان الجهاد في سبيل الله فهو تعالى قد وعد وعدا حاسما على نصرة من نصره فقال: ﴿ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم﴾[4] وقال: ﴿ولينصرنّ الله من ينصره ان الله لقوي عزيز﴾[5] و قد رأينا كثيراً نصرة الله على الأعداء في الجمهورية الإسلامية حيث كان عدتنا وعدتنا لا تقاس بما عند الأعداء فقد عزمت امريكا وازلامها في الشرق والغرب للقضاء على الثورة الإسلامية وشنوا حربا ضروسا و لو لم تكن عنايات الله على هذه الثورة المباركة لتغلب الأعداء عليها ولكن الله رغما للظروف الحرجة نصر عبده واعز جنده وهزم الأحزاب وحده كا في سوريا كان سقوط النظام محتوماً على حسب دراسة المعادلات في الحرب حيث اجتمع أربعة وثمانون دولة كبيرة وصغيرة على اسقاط النظام في سوريا ولم يستطيعوا ان يحصلوا على مآربهم اللئيمة ومثلها في مواجهة الصهاينة لحزب الله و للمقاومة الفلسطينية وانصار الله في مقابل قوى السعودية وفي صدر الإسلام نرى مثل هذه المواقف وتظهر نصرة الله للمسلمين كرابعة الشمس وهذه الآية الكريمة المبحوث عنها نزلت في غزوة بدر حيث كان عدة المشركين وعُدّتُهم اضعاف المسلمين ولكن الله نصرهم عليهم.

قال في الجمع: (﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾[6] خطاب للنبي ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره أن جبرائيل (ع) قال للنبي ص يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول الله ص لما التقى الجمعان لعلي أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفاً من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شي‌ء، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم.

وقال قتادة وأنس ذكر لنا أن رسول الله ص أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال: "شاهت الوجوه" فانهزموا فعلى هذا إنما أضاف الرمي إلى نفسه لأنه لا يقدر أحد غيره على مثله فإنه من عجائب المعجزات).[7]

قال في الميزان: (فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‌﴾[8] نفي أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روي إلا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالأفراس والأسلحة و الرجال و الزاد والراحلة، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة وشدة، وأسباب الغلبة عندهم، وعوامل البأس معهم، والموقف المناسب للتقدم لهم. إلا أن الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبي ص من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم.)[9]

ان قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى‌﴾ نسبة القتل والرمي الى الله ليس مجازا وبالعناية بل هي نسبة حقيقية ولكن ليس بمعنى عدك إرادة المقاتلين او الرسول في رميه لان كل شيء وفعل قائم بالله حدوثا وبقاءً وقدرة المجاهدين بالله وتأثير السيف في المشركين بالله ولذلك نسبة الفعل الى الله صحيح وبما ان المكلف أيضا يتحرك بإرادته ويفعل باختياره فالفعل منسوب الى العبد ايضاً وللتقريب الى الذهن نقول: ان مسجد الذي امر المحافظ ببنائه وخصص ميزانية له فيقال ان هذا المسجد بناه المحافظ لانه سبب في البناء كما قد ينسب الى مهندس رسم خطته و راقب بنائه ودل العمال على كيفية العمل يقال ان المهندس الفلاني بنا هذا المسجد وينسب أيضا بنائه الى البنّاء الذي باشر البناء. الا ان الله هو مسبب الأسباب ومقوم لوجود كل شيء ولكن العناية في مثل هذه الموارد حيث ينفي العمل عن عامله الإنساني لبيان انه لو خلي وطبعه لما انتصر فعناية الله الخاصة هي التي أقدرهم على الأنتصار.

ولعل هذا التنبيه من الله ورد أولاً ليذكّروهم بهذه النعمة ولأن لا يغتروا بأنفسهم و يعرفوا لولا عناية الله لما حصل ما حصل.

قال في الأمثل في حكمة نزول الآية: (ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في انتصارهم، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب، وليذكروا اللّه في قلوبهم دائما، وليتعلقوا به طلبا لألطافه، فإنّ الآية التّالية تقول: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾[10]

ثم قال: (في الحقيقة فإنّ الآية محل البحث تشير إلى لطيفة في مذهب‌ «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» لأنّها في الوقت الذي تخبر عن قتل المسلمين للكافرين، وتقول إنّ النّبي رمى التراب بوجوه المشركين تسلب منهم كل هذه الأمور)[11]

ثم في ذيل الآية قال: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً﴾

لعل المراد ان نصرة الله مضافا الى حصول الانتصار ودفع الخطر عن المسلمين صار سببا ليتوجهوا الى الله بما لمسوا من عنايته لهم فيزدادون ايمانا وعلقة بربهم فيصبح بلاء حسنا فان البلاء بمعنى الامتحان والاختبار وهو قد يحصل بالنعمة والرفاهية وقد يتم بالشدائد والوقوع في المشاكل فحسن البلاء في كلا الموردين لمن تنبه وتذكر فضل الله عليه ويصبح بلاء سوء اذا اغتر بالنعمة ونسي ربه او اذا جزع عن الصعوبات وشكى عن ربه.

وفي الاخير قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ أي لما تقولون من الشكر او الكفر و ﴿عَلِيمٌ﴾ بأفعالكم وضمائركم. ونكتفي بهذا المقدار وسوف نتابع بحث التفسير في ليالي الرمضانية ان شاء الله.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo