< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

43/09/22

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآية 8من سورة المائدة

 

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‌ أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‌ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾[1]

قال في المجمع: (معنى ﴿لا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يدخلنكم في الجرم كما يقال أثمته أي أدخلته في الإثم)‌[2]

قريب من مضمون هذه الآية ما ورد في سورة النساء حيث قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى‌ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى‌ بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‌ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾[3]

الفرق الأساسي بين الآيتين ان في سورة النساء تحذير عن الانحراف للحب والقرابة والثروة او الفقر وهنا تحذير عن الانحراف للعداوة والشنآن: مما يقال في علم النفس ان الانسان مندفع من احد الامرين الشهوة والغضب وبعبارة أخرى الحب والبغض وبعبارة ثالثة الميل والزجر، فآية سورة المائدة تشير الى دافع الزجر والغضب وقد يكون الأثر البغض والعداء سبباً لتغطية العقل والادراك فيزعم الباطل حقا وبالعكس فلابد عند ذلك التخلي من العواطف وإعادة النظر الى موضوع والوقوف موضع الحياد غير منحاز الى جهة كي يدرك الواقع كما ان الميل والشوق والشهوة تجذب الانسان الى المشتاق اليه كما في أية سورة النساء تحذير عن الوقوع في شباك الحب في مقام الشهادة فنشهد لصالح من نميل اليه.

ففي مانحن فيه خاطب المؤمنين قائلة: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ﴾.

ثمّ تشير إلى أحد أسباب الانحراف عن العدالة، وتحذّر المؤمنين عن الإنحراف تأثّراً عن الأحقاد والعداوات القبلية والثارات الشخصية، فيحذرنا أن لا تكون سبباً للاعتداء على حقوق‌ الآخرين، ولو كانوا اعداءنا لأنّ العدالة أرفع و أسمى من كل شي‌ء، فتقول الآية الكريمة: ﴿وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‌ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ ثم اكدت الآية على العدالة فقالت: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾‌.

وبما أنّ العدالة تعتبر من أهم أركان التقوى، تؤكّد الآية مرّة ثالثة قائلة: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾.

والفرق بين فحوى هذه الآية والآية المشابهة لها الواردة في سورة النساء، في جهات عدة:

أوّلا: إنّ الآية الواردة في سورة النساء دعت إلى إقامة العدل والشهادة للّه، أمّا الآية الأخيرة فقد دعت إلى القيام للّه والشهادة بالحق والعدل، ولعل وجود هذا الفارق لأنّ الآية الواردة في سورة النساء استهدفت بيان ضرورة أن تكون الشهادة للّه، لا لأقارب وذوي ارحام الشاهد، بينما الآية الأخيرة ولكونها تتحدث عن الأعداء أوردت تعابير مثل الشهادة بالعدل والقسط أي تجنب الشهادة بالظلم والجور.

ثانيا: أشارت الآية الواردة في سورة النساء الى عامل الحب المفرط الذي لا يستند على تبرير أو دليل، بينما ذكرت الآية الأخيرة الحقد المفرط الذي لا مبرر له.

ولكن الآيتين كليهما تتلاقيان في عامل إتّباع الأهواء والنزوات التي تتحدث عنها الآية الأولى في جملة: ﴿فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‌ أَنْ تَعْدِلُوا﴾ ... لأنّ الهوى مصدر كلّ ظلم وجور ينشأ من الاندفاع الأعمى وراء الأهواء والمصالح الشخصية وعلى هذا الأساس فإنّ المصدر الحقيقي للانحراف عن العدل هو نفس إتّباع الهوى، وقد ورد عن امير المؤمنين عليه السّلام قوله: " إنَّ اَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ اِثْنَانِ اِتّبَاعُ الْهَوَىَ وَطُولُ الْأمَلِ اَمّا اتّباعُ الهوى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِ وَاَمّا طُولُ الْأمَلِ فَيُنْسِي الْآخَرَة"[4] .

الآية المبحوث عنها تؤكد على مبدأ العدالة ولعلّنا نستطيع ان نقول انّ في الإسلام محورين أساسيين لكل العقائد والاحكام والأخلاق وهما:

الأساس الأول: التوحيد وهو أساس لجميع العقائد الإسلامية فاذا تأمّلنا في تفاصيل العقيدة الإسلامية نرى كلها تنتهي الى مبدأ التوحيد.

والاساس الثاني: العدل وهو أساس لكل الاحكام الإسلامية فهي قائمة على أساس العدل فقضية التوحيد والعدل سيان في تشعب جذورهما إلى جميع الأصول والفروع الإسلامية، وبعبارة أخرى: كما أنّ جميع القضايا العقائدية والعملية والاجتماعية والفردية والأخلاقية والقانونية لا تنفصل مطلقا عن حقيقة التوحيد، فكذلك لا تنفصل كل هذه القضايا ولا تخلو أبدا من روح العدل.

ولذلك عند ما ننظر الى أصول العقيدة فالعدل واحد منها والمراد من العدل في حقل العقيدة هو العدل الإلهي أي الاعتقاد بان الله عادل في التكوين الخلق بتمامه منها في خلق الانسان وما يجري عليه في حياته وبعد مماته والمراد من عدل الإلهي في مقام التشريع، أي انه تعالى: جعل كل الاحكام الشرعية على أساس العدل فالنظام الذي نفذ احكام الله في المجتمع فهو نظام عادل بلا ريب والنصوص الإسلامية ناطقة بأهمية هذه الحقيقة:

وقال النّبي صلّى اللّه عليه وآله أيضا: «بالعدل قامت السماوات والأرض»[5] .

لعل المراد من قوله صلوات الله عليه يعني السماوات والأرض بما يحتويا أي كل شيء من المخلوقات، والعدل وضع كل شيء في موضعه الذي يناسبه، والسماوات والأرضين كلها قائمة بالعدل، وفي ظل حالة من توازن القوى الفاعلة فيها، ووجود واستقرار كل شي‌ء في محله منها، بحيث لو أنّها انحرفت عن هذا التوازن لحظة واحدة أو بمقدار قيد أنملة لحكمت على نفسها بالفناء والزوال.

وبنوع ما هذا الناموس حكم في حياة البشر أيضا ولذا ورد عن مولانا امير المؤمنين انه قال: «الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم» لأنّ للظلم أثرا سريعا في هذه الحياة الدنيوية ومن نتائجه الحروب والاضطرابات والقلاقل والفوضى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والأزمات الاقتصادية التي تعمّ العالم اليوم، وهذا ما يثبت الحقيقة المذكورة بصورة جيدة.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo