< قائمة الدروس

الأستاذ السيد مجتبی الحسيني

بحث التفسیر

43/09/15

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: التفسير الموضوعي/الآيات المصدرة بيا ايها الذين آمنوا /تفسير الآيات 2-4من سورة المائدة

قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْ مَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[1]

قد تحدثنا حول هذه الآية الكريمة وثبت ان اليوم الذي يشار اليه في هذه الآية هو يوم الغدير بلا شك كما بيننا بعض مصالح الكامنة في درج هذا المشروع العظيم المسيري في مطاوي بيان بعض الاحكام الشرعية ففي صدر الآية بيّن حرمة بعض اللحوم وفي وسطها تناول مسألة الولاية ثم في قسم الأخر اكمل المشوار في حكم اللحوم بذكر استثناء وهو قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

قال في الميزان:

(المخمصة هي المجاعة، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذي هو ميلهما إلى الداخل).[2]

فمعناه من اضطر الى اكل الميتة لشدة الجوع لا للميل الى المعصية يجوز له الاكل ولكن بشرطين:

أولاً: ان لا يأكل الميتة الا عند الاضطرار ثانياً: ان لا يأكل الا بمقدار رفع الاضطرار فان الضرورات تتقدّر بقدرها،

وهناك نقطة أخرى لابد من الالتفات اليها وهي قد يأتي السؤال مادام هو مضطر ومأذون في أكل الميتة فما معنى قوله تعالى: "فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"؟

الجواب من هذه الشبهة هو انه ليس مواطن المغفرة والرحمة محصور على المعاصي بل يشمل الأحكام التي لو لم يكن الترخيص فيها يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذي يستتبع العقاب ولكن بما ان الله غفور الرحيم سامحه واذن له بارتكابها ولم يكتب له معصية فرحمة الله وغفرانه قد يشمل العاصي للعفو عنه فيما فعل من المعصية، وقد يشمل العبد توسعة له برفع الحكم عنه حتى لا يحسب له معصية.

هنا نود ان نذكر بعض ما وصلنا من بيوت الوحي حول مضامين الآية الكريمة:

ورد في تفسير العياشي عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لأبي عبد الله (ع): جعلت فداك لم حرّم الله الميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده- وأحل لهم ما سواه من رغبة منه- تبارك وتعالى- فيما حرم عليهم، ولا زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق، وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم- فأحله وأباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه- وحرمه عليهم ثم أباحه للمضطر- وأحله لهم في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به- فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.

ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد- ولا يأكلها إلا ضعف بدنه، ونحل جسمه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة.

وأما الدم فإنه يورث الكلب، وقسوة القلب، وقلة الرأفة والرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من صحبه.

وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوماً في صور شتى شبه الخنزير والقرد والدب، وما كان من الأمساخ- ثم نهى عن أكل مثله- لكي لاينقع بها ولا يستخف بعقوبته.

وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها، وقال. إن مدمن الخمر كعابد وثن ويورثه ارتعاشا ويذهب بنوره، وينهدم مروته، ويحمله على أن يكسب على المحارم، من سفك الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمة وهو لا يعقل ذلك، والخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر).[3]

ان صاحب الميزان اتي في ذيل الآية ببحث علمي مفصل في ثلاث فصول نأتي هنا بملخصه مع بعض التغييرات الجزئية لزيادة الفائدة:

(بحث علمي في فصول ثلاثة)

العقائد في أكل اللحم:

لا ريب أن الإنسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا أن يمتنع منه لتضرر أو تنفر.

أما التضرر فهو كان يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا أو يجد الأكل يضره معنويا كالمحرمات التي في الأديان والشرائع المختلفة فيمتنع ن اكله وهذا امتناع فكري.

و أما التنفر فهو الاستقذار كما أن الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه و يلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، و النصارى يستطيبونه، و يتغذى الغربيون من أنواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان و الضفدع و الفأر و غيرها، و هذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني و القريحة المكتسبة.

وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذا تفريط يقابله في جانب الإفراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من إفريقية وغيرها إنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الإنسان.

وقد كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال الفأر والوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع، و كان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه و لا تأكلون مما قتله الله؟! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون؟

وكانت العرب أيضا تأكل الدم، كانوا يملئون المعى من الدم و يشوونه و يطعمونه الضيف، و كانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال و شربوا ما ينزل من الدم.

وأهل الصين من الوثنية أوسع منهم سنة، فهم- على ما ينقل- يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر وحتى الديدان والأصداف وسائر الحشرات.

وقد أخذ الإسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من الإنسان،

ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالإهلال به لله عز اسمه، و الغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، و هي إقبال الإنسان على أصل أكل اللحم، و يحترم الفكر الصحيح و الطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، و تجويز ما يستقذر و يتنفر منه.

2- كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تأباه؟

ربما يسأل السائل فيقول إن الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات وهذا جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التي هي أشرف نعمة؟ و الله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان و هما جميعا في أنهما خلقه سواء؟

والجواب عنه أنه تعالى إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية.

توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التي تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شي‌ء إلا وفي إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة، فعالم المادة عالم التبديل، و التبدل و إن شئت فقل:عالم الآكل و المأكول.

فالمركبات الأرضية تأكل الأرض بضمها إلى أنفسها ثم الأرض تأكلها وتفنيها. ثم النبات يتغذى بالأرض ويستنشق الهواء ثم الأرض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الأصلية وعناصره الأولية، ثم الحيوان يتغذى بالنبات و الماء و يستنشق الهواء، و بعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، و جوارح الطير تأكل أمثال الحمام و العصافير و هي تتغذى بالحبوب و أمثال الذباب و البق و البعوض و هي تتغذى بدم الإنسان و سائر الحيوان و نحوه، ثم الأرض تأكل الجمي

فنظام التكوين هو الذي وضع حكم التغذي باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا. وفي مقدم جهازه الغذائي أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التي تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمن الخلقة.

والإسلام دين فطري فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة و تقضي به الفطرة.

و هو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيي ما وضعها واضع التكوين، أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوي من اللحوم، و حكم الإحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره و يتنفر منه الطباع المستقيمة، و هذان الحكمان أيضا ينتهي أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الإسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الإنساني، مثل ما أهل به لغير الله، و ما اكتسب من طريق الميسر و الاستقسام بالأزلام و نحو ذلك، و حرم الخبائث التي تستقذرها الطبا

و أما حديث الرحمة فلا شك أنها موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الإنسان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الأمور حكومة مطلقة و تطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا.

ثم الرحمة الإنسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الإطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازي مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان وفيه هلاك الأرض ومن عليها.

ومع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة عموما، فنهى عن زجر الحيوان في القتل، و نهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح و سلخه قبل زهاق روحه- و من هذا الباب تحريم المنخنقة و الموقوذة- و نهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه، و وضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح و أمر بعرض الماء عليه و نحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه.

ومع ذلك كله الإسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنساني.

وأما حديث الرحمة الإلهية فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعوري الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التي فينا.

فتبين من جميع ما مر أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التي قيد بها الإباحة والشرائط التي اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم!

3- لما ذا بني الإسلام على التذكية؟

وهذا سؤال آخر، وهو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فلماذا لم يقتصر في اللحوم بما يهيئه الموت العارض حتف الأنف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح؟

و الجواب عنه إن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق فالموت حتف الانف اكثرها بأمراض يلوث جسم الحيوان بالجراثيم او يصل الى عمر لا يحلو لحمه للأكل كما ان الانتظار للموت الطبيعي يمنع عن الوفاء بحاجات مجتمع الإنساني لكثرته كما ان سائر عناصر الطبيعة من الجمادات والنباتات والحيوانات بشتى اقسامها لا تصبر لان تستفيد من المتلفات من غيرها بل هي كذلك تستفيد من الافراد السليمة و الطازجة من كل شيء، على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذي به إلا فساد المزاج ومضار الأبدان وهو بنفسه خلاف الرحمة وخلاف المصلحة.[4]


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo